حين يتصل الأمر بالحديث عن علاقة العرب بآداب وثقافات العالم الأخرى، فإن بوصلتهم غالبًا ما تتجه صوب الغرب الذي ليس من المبالغة القول إنهم مفتونون به ومولعون بكل ما يصدر عنه، مغفلين الثقافات القريبة منهم جغرافيًا وتاريخيًا، ونخص منها بالذكر الثقافات واللغات الآسيوية؛ فمعرفتهم بالثقافات والآداب الصينية واليابانية والفارسية والهندية، على سبيل المثال، لا توازي معرفتهم بالثقافات والآداب الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية.
الدكتورة فاطمة إلياس تأخذنا في هذه الدراسة في رحلة تأريخية تحليلية لعلاقة العرب بواحد من أعرق الآداب على مستوى العالم قاطبة، وهو الأدب الهندي مستعرضة في ثنايا دراستها لاثنين من أحدث الإصدارات ذات الصلة وهما «ملحمة الراميانا» و«خزانة الشعر السنسكريتي»، الصادران عن مشروع «كلمة» للترجمة في الإمارات.
منذ بداية القرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر برزت كثير من مشاريع وتجارب الترجمة المنظَّمة في العالم العربي بدءاً من لجنة التأليف والترجمة والنشر(1914)، والمركز القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة(2000)، والمنظمة العربية للترجمة (1999)، وانتهاء بمشروع «كلمة» – هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث(2007).
يبدو أن دفة دعم مسيرة الثقافة والترجمة قد انتقلت من المركز إلى الأطراف، وما نشهده اليوم من حراك ثقافي وطفرة في الترجمة في دول الخليج يقودها مشروع «كلمة» لهو خير دليل على ذلك. وحالياً تقود «هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة» التي انبثق منها مشروع «كلمة» و«قلم» وغيرها من المشاريع الثقافية، معظم المبادرات، كما تسهم كثير من المراكز الأدبية والمؤسسات الثقافية في الإمارات وبعض دول الخليج في دعم التنمية الثقافية وتشجيع الإبداع في العالم العربي، وتعزيز دور الترجمة والحوار مع الآخر.
مشروع كلمة للترجمة
فيما يخص دعم التلاقح الثقافي مع الثقافات العالمية، ومنها الهندية من خلال الترجمة، ضرب مشروع «كلمة» الرقم القياسي في عدد المطبوعات، والتحالفات الاستراتيجية مع المؤسسات والهيئات المعنية بالترجمة، ومنها المركز الثقافي الهندي-العربي في الجامعة الوطنية في نيودلهي. وتم في العام الماضي تدشين مشروع «كلمة» للترجمة بالتعاون مع المركز الثقافي الهندي العربي ولقد بدأ مشروع الترجمة المشترك بمجموعة من الإصدارات المترجمة منها «في أرض قديمة» لأميتاف غوش، و«مقولات يوغا بتناجلي» لسوامي برابهافانندا، و«مسلمو الهند بين التطرف والاعتدال» لمشير الحسن، و«عصر الهند .. كيف سيكون العصر الحادي والعشرون هندياً بامتياز» لبافان كومار فرما، و«تحت ظلال السيوف .. بين الإسلام والمسيحية لمشير جاويد أكبر»، و«فكرة الهند» لسونيل خيلناني، و«حصار الذكريات: قصص قصيرة من الهند واختراع الهند .. قصة حياة جواهر لال نهرو» لساشي تارور، و«أجنحة من نار: السيرة الذاتية لزين العابدين عبدالكلام رئيس جمهورية الهند ورائد المشروع النووي». وقبلها أصدر «كلمة» مجموعة من الكتب الهندية المعاصرة والكلاسيكية المترجمة من الأوردو ومن السنسكريتية منها «كيف انتحر مايكوفسكي وخمسون قصيدة أخرى» (2009م)، ترجمه الشاعر الإماراتي والمترجم الدكتور شهاب غانم؛ و«رنين الثريا» (2011م)، وهو ديوان شعر للشاعرة الهندية الشهيرة كملا ثريا وترجمه أيضاً د. شهاب غانم، ويتضمن المجموعة الشعرية الكاملة التي كانت قد نشرت في الأصل بالماليالم تحت عنوان
(يا الله). (انظر موقع «كلمة»).
ملحمة الراميانة بترجمة عربية
وشهد عام 2012 إصدار «كلمة» لكتابين مهمين من عيون الأدب السنسكريتي: الأول هو ملحمة «الراميانة» التي عربها شعراً الشاعر والمترجم وديع البستاني المتوفى سنة 1954م. والمفارقة هي أن يصدر كتاب مترجمه متوفى، وتتصدَّر مقدمته الكتاب وهو يخاطب القراء ويشرح لهم بعض ملامح ملحمة الرامايانة، وكأني به هو أيضاً يسطر ملحمته الخالدة خلود الحرف والإبداع. ويبقى الفضل لـ «كلمة» في اقتناص هذه الغنيمة الملحمية من بستان ترجمات وديع البستاني، حيث تتصدر هي وشقيقتها المهابهاراتة كزهرات شقائق النعمان الأسطورية. ويُحمد للناقد والأكاديمي الأردني خليل الشيخ الذي أخرجها إلى النور بعد أن ظلت مخطوطة منسية في أدراج مترجمها منذ 1953م. والراميانة تعني باللغة السنسكريتية سيرة حياة راما، وهي ملحمة شعرية هندية تنسب إلى الشاعر المغنّي الأسطوري فالميكي الذي يذكر في بدايتها أنه تلقى أمراً إلهياً من الإله براهما لنظم ملحمة تروي سيرة راما. ويرجع تاريخ الملحمة إلى القرن الثاني للميلاد، وتتألف من أربعة وعشرين ألف بيت مزدوج، في سبعة فصول، تصف مغامرات وبطولات وآلام البطل الأسطوري راما، ولاسيما قصة اختطاف زوجته سيتا والعثور عليها وتحريرها، وبذلك يمكن تشبيهها أو مقارنتها بـ «الأوديسة» اليونانية.
وفي المقابل نجد تشابهاً بين المهابهاراتة والإلياذة من حيث كونها حرباً بين أمتين تشترك فيها الآلهة مع البشر، ويشعلها خطف امرأة جميلة. وهذا ما أكده المترجم وديع البستاني في مقدمته للكتاب: «لكل من أمتي الهند واليونان القديمتين فخرها الأكبر بملحمتين عظيمتين فالمهبراتة (المهابهاراتة) القائمة على ما أثر من أخبار حرب عظيمة وقعت في الهند عند الإلياذة الهندوانية والرميانة (الراميانة) بما وردته من ذكر أمير نفي وتاه وغامر، هي بذلك والأوديسة سيان». وسبق أن ترجم وديع البستاني أجزاءً من ملحمة المهابهارتة التي تُعد أبرز منجزاته في التعريب من السنسكريتية، التي قال عنها زعيم الهند جواهر لال نهرو حينما أهدى إليه إميل البستاني نسخة منها: «إن هذه الملحمة المعرَّبة هي خير ما يستطيع العرب إهداءه إلى الهند».
وتجدر الإشارة إلى أن ملحمة الإلياذة اليونانية قد تم تعريبها شعراً عام 1904م على يد سليمان البستاني، عم وديع البستاني، وهي الترجمة التي يصفها الناقد عبده وازن بالصعبة «لصوغها نظماً قائماً على «المماثلة» بين الإغريقية والعربية، بجانب ما تعج به الإلياذة من أسماء وتواريخ وعلوم، نسجها البستاني داخل البنية السردية المركبة» حيث اعتمد النظام العروضي وجعل من النظم فناً بذاته. واعتمد التنويع، واستعمل أشكالاً شعرية تقارب الموشحات، وقامت ترجمته على مبدأ الجملة بقالب عربي (1). وهذا ما فعله وديع البستاني حين نهج نهج عمه «فعرّب «الراميانة» شعراً موزوناً ومقفّى، جاعلاً إياها في ما يقارب أربعة آلاف بيت، هي من عيون الصنيع الشعري العربي المسبوك بجزالة وإتقان، والمصوغ بروح جمالية ونَفَس ملحمي شديد التماسك سرداً وإيقاعاً»(2).
خزانة الشعر السنسكريتي
أما الإصدار الثاني فهو «خزانة الشعر السنسكريتي»، ترجمة الشاعر السعودي عبدالوهاب خليل أبو زيد. وقام باختيار وجمع وتحرير نصوصه المترجمة للإنجليزية الكاتب الباحث والدبلوماسي أديتا ناريان دارياشيت هاكسار (أ.ن.د. هاكسار) الذي كرَّس شطراً كبيراً من حياته لترجمة الأدب السنسكريتي إلى اللغة الإنجليزية، وقام بترجمة عديد من أمهات الأدب السنسكريتي، وكان آخرها ترجمة جديدة لكتاب «الكاما سوترا» المثير للجدل لتبحره في وصف فن الحُب عند الأمة الهندية. وسنلقي الضوء بتوسع أكبر على هذا الكتاب من جوانب عديدة تتعلق بما يتضمنه من ترانيم تأملية، وسرديات وقصائد ملحمية من بطون الكتب القديمة، وبطبيعة عملية الترجمة المزدوجة التي خضعت لها النصوص.
وما تحويه هذه الخزانة الأنثولوجية هو كنز من كنوز الشعر السنسكريتي تمتد لفترة زمنية تزيد على 3000 عام، شارك في ترجمتها إلى الإنجليزية أكثر من أربعين كاتباً وعالماً وشاعراً معروفاً من بينهم شاعران حائزان جائزة «نوبل للآداب» هما الشاعر الإيرلندي ويليام بتلر ييتس، والشاعر المكسيكي أكتافيو باث. وتحوي الخزانة قصائد مأخوذة من 63 عملاً مختلفاً وخمس أنثولوجيات شعرية سنسكريتية وبراكريتية(وتعني أصلي، طبيعي وفير مصنع، عكس السنسكريتية التي تعني مصنوع بمهارة لأنها كانت لغة النخبة المثقفة والأرثوذكس البراهمة). وتزخر المجموعة بخمسة وتسعين شاعراً من شبه القارة الهندية. وتتوزع النصوص زمنياً على مراحل تطور التراث الأدبي السنسكريتي الثلاث: الفيدية، الملحمية، والاتباعية (الكلاسيكية).
والفيدية أو مرحلة الفيدات هي المرحلة المبكرة التي تبدأ حوالي 1000 – 1500 قبل الميلاد، وتمتد حتى القرن الخامس قبل الميلاد؛ وهي الفترة التي ظهر فيها بانيني الذي وضع قواعد اللغة السنسكريتية. وتمتد المرحلة الملحمية من ما بعد بانيني حتى القرون الأولى بعد الميلاد، ففي هذه الحقبة ظهرت وتطورت صيغ الملحمتين الشهيرتين المهابهاراتة والرامايانة بلغة سنسكريتية اتبعت قواعد النحوي الهندي القديم بانيني. وتتحدد معالم المرحلة الاتباعية (الكلاسيكية) منذ مطلع القرن الثالث الميلادي، بظهور شعر البلاط ذي الطابع الدنيوي، وتتميز بصعود الدراما إلى ذروتها بموضوعات بطولية وحسية، وبتوسع هائل في الدراسات العلمية. ويشمل قسم المرحلة الأولى في هذه الأنثولوجيا نماذج من كتب الفيدا الأربعة «الريغ فيدا» وهي أقدم نص مدوَّن معروف، وتضم الأناشيد الربانية التي نُظمت ما بين 1500 إلى 100 قبل الميلاد وحتى القرن الخامس للميلاد. ومن تلك الأناشيد قصيدة «أوشاس الفجر» ص35، و«ترنيمة الخلق» ص38، و«الساما فيدا» أي ترانيم الكهنة، ومثلته قصيدة واحدة فقط هي «سوما» ص62، و«ياغور فيدا» وتعني تعاليم وقواعد للقربان، ومثلت بقصيدة واحدة فقط هي «صلاة» ص70، و«آثار فيدا» وتعني التفاؤل والتساؤل عن الإنسان والعالم، ومثلت بقصيدتين هما «الأرض والأم» ص65، و«الشجاعة» ص68.
نصوص روحية وأخرى دنيوية
والفيدا كلمة سنسكريتية تعني المعرفة، وهي أقدم نص مدون معروف وتضم الأناشيد الربانية التي استمر نظمها حتى القرن الخامس الهجري. ويختتم هذا قسم الفيدات بمجموعة الأبانيشاد أو «الأوبانيشادات»، كما اختار لها المترجم أن تكتب، وتعني التعاليم السرية والروحية. ومن بعدها تتدفق النصوص الشعرية ذات الطابع الدنيوي، التي تميز المرحلة الملحمية عكس الفيدات. وتبدأ بمختارات من ملحمة المهابهاراتة أو المهابهاراتا كما يكتبها المترجم هي ومثيلاتها، يتصدرها اسم مؤلفها التقليدي والافتراضي: فياسا. وتحتوي على ستة نصوص طويلة، منها نص «إذلال دروبادي» الذي يحتوي على أبيات تذكرنا بالإلياذة، وبالجميلة هيلين في حرب طروادة:
فلتقيمي في بيت الكورو هذا، واخضعي لمشيئة أمراء الكورو،
قومي على خدمتهم كأسياد لك، وادخلي عليهم البهجة بجمالك،
أيتها الجميلة، ابحثي لك عن زوج آخر لن يقدم
على رهن زوجته المحبة في لعبة طائشة، أو يعرضها للمهانة! (ص. 90)
كما تضم مقطعين جميلين من «بهاجافادجيتا»، من أهم أجزاء المهابهاراتة، وهي حوار بين الرب كريشنا وأرجون في ميدان المعركة قبل بدء الحرب الكبرى. ثم تنقلنا هذه الخزانة الشعرية الباذخة إلى ملحمة الرامايانة، حيث يتصدرها أيضاً اسم مؤلفها فالميكي، رغم ما يحيط بمؤلفي هذه الملاحم من شكوك لأنها خضعت لإضافات كثيرة أنتجها العقل الجمعي لشعوبها. وتحتوي المجموعة هنا على سبع قصائد أجملها «عهد سيتا». ثم ننتقل بعدها إلى «أشفاغوشا»، الكاتب والفيلسوف البوذي ونموذجين من قصائده، مروراً بالكاتب المسرحي «بهاسا» لنصل إلى أول شاعرة في هذه الأنثولوجيا، وهي «فيدياكا» التي لا يُعرف عنها شيء سوى أنها عاشت في القرن الثامن الميلادي، وأن قصائدها لا تتوافر إلا في الأنثولوجيات. وتتميز القصيدتان القصيرتان اللتان وضعتا لها هنا بالرومانسية، وهما: «سحر ضوء القمر»، و«نهاية الأمطار». وتنقلنا القراءة بعدها إلى الملك «هالا» الذي ينتمي إلى سلالة ساتفهانا في القرن الأول والثاني الميلادي مع مجموعة قصائده البراكراتية عن الحياة والحُب المسماة «غاتها ساتاساي» لنعبر بعدها إلى الشاعر والكاتب المسرحي كاليادسا ومقطعين طويلين من عمله الشعري «ميغهادوتا» وتعني رسول السحاب.
وتسير بنا الرحلة عبر مقتنيات خزانة الشعر السنسكريتي لتصافحنا أسماء لشعراء من شبه القارة الهندية معروفين وغير معروفين، لكنهم خلَّدوا بشعرهم حضارة الهند وأحيوا ثقافتها، منهم «بهارافي» مؤلف ملحمة «كيراتارا جونيا» التي يعود تاريخها إلى القرن السادس الميلادي؛ و«بيلهانا» شاعر القرن الحادي عشر؛ والشاعر والناقد المشهور «داندين»؛ والشاعر «ديفار كارا» من القرن السابع الميلادي؛ والمؤلف المشهور في التراث الهندي «أمارو» كاتب قصائد الحُب «أمرو شاتاكا» في القرن السابع الميلادي؛ و«كوماراداسا» مؤلف القصيدة الملحمية «جانا كيهارانا» التي تعود للقرن السابع الميلادي أيضاً؛ و«ناريانا» مؤلف مجموعة «هيبة بديشا» التي تحتوي على الحكايات الرمزية والأشعار خلال حكم الملك البالي تشاندرا خلال القرن العشرين، والشاعرتين «شايلا بهاتاريكا» من القرن التاسع الميلادي؛ و«فيكاتنيتامي» التي عاشت في القرن التاسع أيضاً.
هل تكفي الترجمة وحدها؟
يجدر التنويه هنا إلى صعوبة فهم دلالات معظم النصوص التي احتوتها «خزانة الشعر السنسكريتي» رغم جهد المترجم وتمكنه وإبداعه كشاعر، بسبب جهل القارىء العربي بمصادرالتناص التاريخي والملحمي في بعضها، وارتباطها بالتراث الهندي الموغل في القدم، وبُعد الهوة التي تفصل بيننا وبين الثقافة الهندية. وهذا يقودنا إلى دور الترجمة في ردم هذه الهوة، كما يقودنا إلى تساؤلات عن طبيعة هذه الترجمة وشروطها لكي تحقق مهمتها التثاقفية والمعرفية. فهل يكفي أن تترجم كتباً ثقافة ما لنفهمها، أم أن الأمر يحتاج إلى جهد من نوع آخر؟
الواقع هو أن ما نحتاج إليه لتفعيل دور الترجمة هو فتح مراكز للدراسات الشرقية، وتبادل الزيارات، والبعثات الطلابية والثقافية لتخريج مترجمين أكفاء يترجمون من لغة ما كالسنسكريتية مثلاً بدون لغة وسيطة، كما حدث في ترجمة هذا الكتاب وغيره من الكتب التي نستسهل ترجمتها من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية. فالأمريكي مثلاً لن يقرأ رواية هندية مترجمة من العربية إلى الإنجليزية. واعتماد اللغة الوسيطة في الترجمة هو في نظري سبب رئيس للحاجز الثقافي بيننا وبين ما نقرأه من أدب مترجم.
جدل الترجمة عن لغة وسيطة
ويوجز الدكتور سمير عبدالحميد إبراهيم، أستاذ اللغات الشرقية وأدبها في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية المشكلات التي يمكن أن تحدث عند الترجمة من لغة وسيطة، وأولها هو النطق غير السليم لكثير من الحروف في اللغة المترجم منها. وكذلك افتقاد روح النص الأصلي وضياعها بين نصين مترجمين حتى تصل لقارئ العربية. «فروح النص هي ثقافة المجتمع المترجم منه، وثقافة شعبه، وهذا لا يتأتى إلا لمن تمكن من اللغة التي ينقل منها. وثمة مشكلة أخرى تواجهنا عند الترجمة من لغة وسيطة هي فقدان الرؤية فيما يتعلق بأوجه المطابقة بين النصين الأصلي والمترجم لأن الترجمة تمت عن طريق نص آخر مترجم»(3). وعادة ما يثير موضوع اللغة الوسيط جدلاً كبيراً عند مناقشته كما حدث بين الناقد والشاعر اللبناني عبده وازن والشاعر المغربي محمد بنيس، بخصوص الترجمة، التي قام بها الباحث والناقد المغربي حسن حلمي لبعض من مختارات الشاعر الألماني Friedrich Hölderlin فريدريش هلدرلين بعنوان «مختارات شعرية»، مما أثار ردود فعل متباينة، حيث انقسم المثقفون والنقاد بين مؤيد للترجمة عن لغة وسيطة وبين محبذ للترجمة، انطلاقاً من اللغة الأم كما عبَّر كثير من المثقفين المغاربة عن استغرابهم لتحامل الكاتب والشاعر عبده وازن، عبر مقالاته في صحيفة «الحياة» اللندنية بعنوان «خيانة مزدوجة»، فعبده وازن في انتقاده لترجمة حسن حلمي لهلدرلين، التي اعتمدت اللغة الإنجليزية لغة وسيطة، يقول «إنها ترجمة ناقصة وعرضية ومصيرها السقوط، وأنه لا يمكن لهلدرلين أن يترجم عن لغة وسيطة نظراً لـ «عبقرية» اللغة الألمانية المتجلية في قصائده، وهو المنطلق الذي بنى عليه الفيلسوف هيدجر نظريته حول «الشعر والكينونة»، وهذا ما جعل عبده وازن يعتبره شاعراً استثنائياً، على عكس الشعراء الآخرين(4).
وما من شك أن تلقي القارئ لنصوص «خزانة الشعر السنسكريتية» منقولة شعراً، ومباشرة بدون لغة وسيطة إلى لغته الأم يختلف عن تلقي القارئ لشعر مترجم مرتين، خاوٍ من روح النص الأصلي وشعريته التي جهد مصنفه هاسكار الحفاظ عليها لترجمة النصوص إذ استعان بترجمات لأكثر من أربعين كاتباً معظمهم من الشعراء المعروفين. وتشي المقدمة التي كتبها أ.ن.د.هاسكال مصنِّف هذا الكتاب وعرَّاب هذا المشروع التثاقفي الهندي-الغربي، بإيمانه بإمكانية الترجمة من السنسكريتية إلى لغة مغايرة لها بشرط نقل الأصل وإحساسه.
وفي محاولة منه لإثبات جماليات الترجمة التي تمت للشعر السنسكريتي إلى اللغة الإنجليزية أو غيرها، وبإمكانية تخطي عقبات الترجمة التقنية والنظرية، يستشهد هاسكار بمقولات بعض الأدباء والشعراء المشهورين كالشاعر والناقد المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل، أوكتافيو باث الذي كتب مقالة عن جماليات الشعر السنسكريتي معتمداً فيها على قراءته لترجمات أعمال «كاليداسا» باللغة الإنجليزية، وأشار فيها إلى قصائد حب بيلهانا. واستشهد كذلك بالفيلسوف الصيني يوتانغ الذي كتب بعد قراءته لبعض هذه الترجمات الشعرية في القرن التاسع عشر: «إن حبي وتقديري الحقيقي للهند قد ولدا حين قرأت لأول مرة من الملحمتين الهنديتين، الراميانا (الراميانة) والمهابهاراتا (المهابهاراتة)، بالترجمتين الحديثتين اللتين كانتا تحفتين رائعتين(5). أما الشاعر الألماني العظيم جوتة (غوتة) فقد عبَّر عن إعجابه بالمسرحية الشعرية «شاكونتالا»، رائعة الشاعر الهندي كاليدسا، بعد أن قرأها بترجمة ألمانية مأخوذة عن ترجمة السير وليام جونز، وكتب الابيغرام الشهير الذي ورد في كتاب باربرا ميلر عن مسرحيات كاليدسا، والذي يراه أ.ن.د. هاسكال «التعليق الأفضل على قابلية الشعر السنسكريتي للترجمة من عدمها»:
إن شئت أن تحظى بعنفوان الشباب وثمار سنوات العمر الأخيرة،
إن رغبت بما يفتن، ويحقق المتعة، ويشد عضدك،
إن رغبت في أن تحتوي السماء والأرض في اسم واحد –
فإني أقول شاكونتالا ولا مزيد لقول بعد ذلك(6).
ولئن نجح مصنِّف أشعار «الخزانة السنسكريتية» في إقناع القارئ الإنجليزي أو من يستخدم الإنجليزية في قراءاته بإمكانية «أنجلزة» الشعر السنسكريتي دون أن يفقد أواره الشعري والتأملي. فهل نحتاج إلى من يقنعنا بعدم إمكانية الاستمتاع بقراءة النص الإبداعي خاصة الشعر وإن نجحنا في ترجمته، طالما نحن مصرِّين على استخدام اللغة الوسيطة. وهل عقمت مؤسساتنا التعليمية والثقافية عن تأسيس جيل من المترجمين من كل اللغات العالمية خاصة دول الهند والصين واليابان وكوريا وغيرها؟ أم أننا استمرأنا تلقف الترجمات الجاهزة بالإنحليزية أو الفرنسية لإعادة تدويرها باللغة العربية؟