طاقة واقتصاد

حذار من العبث بمهارات طفلك!

  • How-Children-Succeed

هل نحن بحاجة للمزيد من الكتب المتعلقة بتربية الأطفال، وذلك بعد صدور العدد الهائل منها التي حاولت منحنا الوصفات المختلفة لأطفال ناجحين؟

قد يعتقد البعض بأن هناك تخمة بالنظريات التربوية المختلفة، إلا أن كتاب بول توف Paul Tough «كيف ينجح الأطفال؟» يقدِّم نظرة شاملة عن التربية لها علاقة مباشرة بالنجاح وسبل التغلب على مستوى الفقر في المجتمع المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالازدهار الاقتصادي. ولذلك يشير إلى أن علماء اقتصاديين كبار من أمثال آدم سميث أظهروا اهتماماً بالمجال التعليمي كأداة للنمو الاقتصادي. فقد درس سميث العلاقة بين التعليم والاقتصاد ولاحظ كيف ساعد الواحد الآخر. وهنا يبدأ بول توف كتابه بالنقطة الأساسية الأولى ويسأل سؤاله المحوري «كيف ينجح الأطفال؟».

قد يوافق معظم الناس على ما يسميه بول توف «بالنظرية الفكرية». فهناك اعتقاد سائد في العالم اليوم بأنّ نجاح الأطفال المستقبلي يعتمد في الأساس على المهارات الفكرية، أي على نوع من الذكاء يمكن قياسه باختبارات الذكاء مثل اختبار الـ IQ بما فيها القدرة على التعرّف على الأحرف والقدرات الحسابية واكتشاف الأنماط المختلفة والتحليل. وتقول النظرية الفكرية إنَّ الطريقة الأفضل لتطوير تلك المهارات هي بالتمرّن عليها بكثافة والبدء بذلك في أبكر وقت ممكن. ومنذ أن برزت بعض الدراسات التي أظهرت التأثيرات الإيجابية للأنواع المختلفة من التحفيز العقلي المبكر، هرع الأهالي لإسماع أطفالهم موسيقى موزار وهم أجنَّة في بطون أمهاتهم، وأصدرت الشركات منتجات تضمن للأطفال البدء في تعلّم القراءة بعد وقت قصير من الولادة وبدأت المنافسة على أفضل الحضانات الحديثة. ولكن توف يقول إنّ هذا التدخّل المبكر، على الرغم من كونه ذا نيات حسنة، إلاّ أنّه قد يكون مضلّلاً. فلا شك في أنّ المهارات الفكرية مهمة بالطبع ولكن هناك دلائل حديثة جاءت من مجموعة من المجالات الأكاديمية المختلفة، كعلم النفس وعلم الاقتصاد ومجال التعليم التربوي والعلوم العصبية، وكلها تشير إلى أنه، في الواقع، هناك عامل آخر يسهم في النجاح المستقبلي للأطفال أكثر من معدل الذكاء والقدرات الفكرية المتفوقة. وهذا العامل مرتبط باكتساب مهارات مختلفة أخرى قد تكون أكثر أهمية من أجل النجاح في الحياة. هذه المهارات هي المهارات غير الفكرية التي تدخل تحت التسمية المعروفة «بالشخصية».

ويحاول توف تعريف الطباع الشخصية ويعترف بأن هناك تعريفات عدّة لها وخلافات حول ما يجب إدخاله في تلك التعريفات. وتشمل بعض التعريفات قيماً دينية وأخلاقية مثل العفة والتقوى بينما تعتمد تعريفات أخرى على إدخال قيم إنسانية مثل الصدق والاستقامة. إلاّ أنّ التعريف الذي اعتمده توف له علاقة بالقيم العملية التي تساعد الأشخاص على النجاح مثل الثبات وضبط النفس وحب الاستطلاع وروح المسؤولية والعزيمة القوية والثقة بالنفس. وهي ما يشير إليها توف بأنّها من مكوّنات «نظرية الشخصية» بدلاً من «الفكرية» كأساس للنجاح.

المهارات غير الفكرية
يقول توف إنّ علماء النفس المختصين بعلم الأعصاب قاموا باكتشافات كبيرة خلال العقود الماضية حول المكان الذي تأتي منه المهارات غير الفكرية المتعلقة بالشخصية والطريقة التي تتطور من خلالها. وتظهر هذه الاكتشافات بأن التعرض لأجواء ضاغطة وتجارب مأساوية في مرحلة الطفولة الأولى يعوق بشكل كبير تطور الشخصية بشكل سليم، وأن الاهتمام والرعاية والحنان في السنوات الأولى يساعد على اكتساب المهارات المطلوبة للنجاح. ولكن في مرحلة الطفولة اللاحقة وسنوات المراهقة يكمن المكان الأساسي لتطور المهارات الشخصية في مواجهة الصعاب والتغلب عليها. في هذا الكتاب المهم والمثير، يشرح المؤلف لماذا يفتقد الأطفال في أقصى طرفي التركيبة الاجتماعية- الاقتصادية هذه التجارب المهمة. إنّ أطفال الأهالي الأثرياء معزولون عن التجارب الصعبة ابتداءً من الحضانات المرفهة التي يذهبون إليها، وانطلاقاً إلى حياتهم الراشدة الممولة من قبل أهاليهم في أفضل المدارس والجامعات وحيث تتم تلبية أمورهم الحياتية الأخرى. أما أطفال الطبقات الفقيرة فيواجهون لائحة طويلة من التحدّيات تبدأ من النقص في التغذية والعناية الطبية إلى المدارس والأحياء والعائلات المفككة. ونادراً ما يتوافر الدعم الكافي لمساعدتهم على تحويل هذه العوائق الثابتة في حياتهم إلى انتصارات تعزّز شخصيتهم.

يقوم توف بمقارنة مدرستين في حيين مختلفين من أحياء مدينة نيويورك، واحدة في حي راق لا يذهب إليها إلا الطلاب الأغنياء حيث تبلغ الأقساط مبالغ كبيرة، والأخرى يرتادها طلاب من حي فقير جداً. كلتا المدرستين لهما مهمتان متشابهتان تتلخصان بتحضير الطلاب لدخول الجامعة وتزويدهم بالأدوات التي تمكنهم من تحقيق النجاح المستقبلي (وتعرّف كلتا المدرستين الشخصية بالطريقة نفسها التي يعتمدها توف أي بالمعنى الأوسع للقيم الاجتماعية بالإضافة إلى المميزات الأخرى التي أشار إليها)، ولكنّ الفرق الديموغرافي عند المدرستين يعني أنّه غالباً ما يتم إنجاز هذه المهمة بطرق مختلفة. غالباً ما يكون طلاب المدرسة الواقعة في الحي الغني من أبوين يحملان شهادات جامعية وأن مصيرهم في الجامعة هو جزء من الهواء الذي يتنشقون. أما القسم الآخر ممن يرتادون مدرسة الحي الفقير فيأتون من أسر ذات أبوين لا يحملان أية شهادة جامعية ولا يأملون في الدخول إلى الجامعة أساساً، حتى أنهم في بعض الأحيان يُقنعون بعدم الدخول إليها ولا تكون لديهم لا الإمكانات الدراسية ولا المادية للقيام بذلك.

بالنسبة لتوف فغالباً ما يكون التحدّي بالنسبة لطلاب المدرسة الأولى (مدرسة حي الأثرياء) متعلقاً بقضايا مرتبطة بالطباع الشخصية وخصوصاً تلك المتعلقة بالنجاح مثل العزم والثبات والمقاومة. فهم يجدون أنّ الحصول على العلامات الجيدة سهل وممكن وأنّ التواصل مع المدرسين سلس ولا يشوبه أي معوّقات. ولذلك نادراً ما يواجهون أي فشل وإذا ما واجهوه لايسمح لهم، لا من قبل مدرسيهم ولامن قبل أهاليهم، بمواجهته بأنفسهم والاتكال على أنفسهم للتغلب عليه. ولذلك يكون تطوير المهارات الشخصية بعيداً جداً عن أطفال هذا الفريق.

أمّا طلاّّّب مدرسة الحي الفقيرفهم الذين يعانون من الضغوط والتجارب المأساوية التي يواجهونها في حياتهم الخاصة، ويقول توف إن علم الأعصاب أظهر أن القسم من الدماغ الذي يتأثر أكثر من غيره بالتجارب المأساوية المبكرة هو قشرة الفص الجبهي، وهي المنطقة الأساسية في تكوين أنشطة التنظيم الذاتي بجميع أنواعها العاطفية والفكرية. نتيجة لذلك يجد الأطفال الذين ينتمون إلى تلك البيئات الضاغطة صعوبة في التركيز والجلوس بهدوء لفترات طويلة والالتزام بالتعليمات وكل ذلك له تأثير سلبي على إنجازهم الدراسي، وبذلك يدخلون في دائرة مفرغة من العوز الذي يُولّد المزيد من الفقر مما لا يسمح لهم بتطوير أي مهارات من أي نوع كانت.

و هذا يعني أنّ الطلاب الأكثر قدرة على تجاوز المشكلات الحياتية واجتراح الحلول غير التقليدية هم الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى لا الغنية و لا الفقيرة. فلدى هؤلاء ثقة بالنفس من ناحية وحاجة إلى التقدم في المجتمع من ناحية أخرى.

دور الوالدين
وهنا يكتشف المؤلف نظرية التعلّق ودورالارتباط بالوالدين في التخفيف والتغلب على الآثار السلبية للفقر على الأسر المحتاجة. يقف توف طويلاً عند هذه النقطة لأنّه على الرغم من أنّه يدرس متاعب الفريقين إلاّ أنّ مأزق الأطفال المحرومين هو الذي يسترعي اهتمامه ومشاعره. يقول المختصون بعلم الأعصاب إنّ تأثير التربية الجيدة لا يقتصر على الناحية النفسية أو العاطفية بل يتجاوزه إلى الناحية البيولوجية الكيميائية، وأن الأهالي الذين لايتجاوبون مع أطفالهم بطريقة جيدة يؤثرون على هؤلاء الأطفال بطريقة تولد لديهم مجموعة من المشكلات الصحية والنفسية المزمنة. ويشير توف إلى دراسة تسلط الضوء على نظرية تعلّق الأولاد بأهاليهم وتلقيهم الاهتمام الكافي، فيرى إنّ ذلك كفيل بأنّ يضمن نجاح الأطفال المستقبلي أكثر من معدّل الذكاء أو أي أمر آخر. و قد أظهرت تلك الدراسة أنّ التدخل المبكر لدى مجموعة من الأهالي من الطبقة الفقيرة ومحاولة مساعدتهم على التغلب على المصاعب التي يواجهونها قد أسهمت في تحسين علاقتهم بأطفالهم وأعطت نتائج واعدة فيما يتعلق بتطوير المهارات الشخصية اللازمة لتأمين نجاحاتهم. وهكذا يضيء بول توف إحدى أهم المسائل في القرن المعاصر حيث يلقي عدد من الناس باللوم على الفقراء ويتهمونهم بأنهم يتسببون هم أنفسهم في الفقر الذي يعانونه بسبب الخيارات الخاطئة التي يتخذونها. كما يشكِّل تحدياً بالنسبة لمن يقولون إن الفقر يعود إلى عوامل بيئية خارجية وليس له أي علاقة بما يفعله أو لا يفعله هؤلاء الفقراء. ولكن توف يقول إنه بالإمكان كسر حلقة الفقر المفرغة هذه والتغلب عليها من خلال التدخل المبكر من جانب الأهل.

أضف تعليق

التعليقات