الثقافة والأدب

حسين علي حسين:
شبَّيتُ على القصة القصيرة.. وسأشيب عليها

  • Writer(GS)
  • SAUDI MEN G
  • MAN

ضيف بيت الرواية والقصة لهذا العدد هو القاص السعودي المعروف، حسين علي حسين، الذي ولد عام 1950م بالمدينة المنورة. وبدأ الكتابة عام 1969م، ثم عمل مراسلاً ومحرراً في مجلة اليمامة عام 1970م، ومديراً لمكتب صحيفة المدينة في مدينة الرياض عام 1975م. شغل حسين عدة مواقع صحفية، ثم عُيِّن مسؤولاً عن قسم التحقيقات بصحيفة الرياض، وسكرتيراً لتحرير مجلة اليمامة عام 1986م.
كتب ضيفنا زوايا يومية وأسبوعية في عدد من الصحف والمجلات السعودية، وأصدر خمس مجموعات قصصية، هي: الرحيل، وترنيمة الرجل المطارد، وطابور المياه الحديدية، وكبير المقام، ورائحة المدينة، وترجمت بعض قصصه إلى اللغتين الإنجليزية والروسية.

كتبت القصة القصيرة بمحض الصدفة، كنت أعد نفسي لكتابة المسرحية، دون أن أعرف كيف ولماذا؟

عندما أسترجع هذه الرغبة أضحك كثيراً، فمقومات المسرح، حيث كنت أعيش في المدينة المنورة، لم تكن موجودة لديَّ، ولم يكن هناك سوى عروض بدائية، كانت تقام في الأحياء احتفالاً بالليالي الرمضانية، وفي المدارس الثانوية، وهي عروض سطحية، يقوم عليها مدرِّسون لديهم اعتقاد بأنهم من الفنانين الشموليين في الإخراج والتمثيل والكتابة وإدارة المجاميع. وعلى الرغم من وجود هذه النشاطات المسرحية، إلا أنني لم أشارك في أي منها، بل إنني لم أكتب في صحيفة حائطية من تلك التي يتسابق الطلاب المميزون على الكتابة فيها، ولا ينسى كل واحـد منهم أن تكون صورته مصحوبة بخواطره التي يقدِّمها بإلحاح لمن يتولى أمر هذه الصحيفة! لقد كنت بعيداً عن المشاركة، خجولاً وصامتاً، وكنت طالباً بسيطاً، لا أنا فوق ولا أنا تحت، إنني في منطقة الوسط، وهذه المنطقة حققت لي عدة مزايا، أولاها ألاَّ تكون عين المدرس باتجاهي حالما يدخل الفصل، وثانيها وهو المهم، عدم تعرضي لتأنيب الذات لعدم وصولي إلى قائمة الأوائل. كان شعاري النجاح أولاً وأخيراً، بغض النظر عن درجة هذا النجاح، ومع ذلك فقد تعثرت كثيراً دون أن يشعر بي أحد.

هذه الخيبات الدراسية التي بدأت تزورني بين وقت وآخر، ليست بسبب المرض، أو الانشغال بالبحث عن طريق إلى لقمة العيش، ولكن لها عدة أسباب أخذت تطل على التوالي، وقد بدأت بهواية جمع الطوابع والصور من العالم، كانت هوايتي المفضلة، فهي على الأقل تُعزِّيني عن رغبتي العارمة في معرفة الدنيا أو زيارة مدن غير مدينتي، كنت أدخر القروش لشراء طابع جديد أو منظر معروض في المكتبات التي تتناثر في شارع العينية وأمام باب السلام، وزدت على ذلك انغماسي في هواية المراسلة، فهذه المراسلة طريق جديد للإمدادات الصورية والطوابعية، تجعلني أتخاطب جواباً لجواب مع الشباب والشابات من كافة الدول العربية، كانت الرسائل تتوالى من الجنسين، وكنت أقضي ساعات في غرفة السطوح للرد على هذه الرسائل، وتزويد كل رسالة بما تيسر من الطوابع والمناظر الطبيعية، وفوق كل ذلك صورتي الشخصية بالمعطف والنظارة السوداء واليد التي على الخد، مع الاستغناء عن الطاقية والغتره، فقد كانت هذه الطريقة تُعبِّر عن قمة الحداثة والتمرد على العُرف والتقاليد، وعلى الرغم من أن كل هذه الأفعال الطائشة كانت للتصوير فقط، فقد كنا نستعير الكرافتة والنظارة والمعطف وفوق ذلك الدهان الذي يجعل الشعر أكثر نعومة ولمعاناً في الصورة.. الذي يرى الصورة يتخيل أننا لا نلبس الثياب ولم يكن يدري أننا نضع الكرافتة في ياقة الثوب!

كانت هذه الهوايات الصغيرة ممتدة من المرحلة الابتدائية، وحتى المرحلة المتوسطة، لكي أصل إلى الهواية التي امتدت بعروقها في داخلي، حيث أصبحت مغرماً بالقراءات المسرحية. كان الكتاب ينتهي في ساعات لأبدأ في كتاب جديد، في شهور كنت أجهزت على مسرحيات لـ «تشيخوف، برنارد شو، بريخت، ميللر، إهرنبرغ، سارتر، كامو، لوركا، إضافة إلى مسرحيات لتوفيق الحكيم، ألفريد فرج، ميخائيل رومان، جورج شحاته والعشرات غيرهم. كنت أقرأ بمتعة في النهار، وأتخيل نفسي ممثلاً ومخرجاً وكاتباً، مع أنني على أرض الواقع لـدي الاستعداد التام للبقاء صامتاً بالساعات أمام أي ثرثار، كان ميلي إلى الصمت والخجل يقضّ مضجعي، لم أستطع التخلص منهما إلا بشق النفس، وهو تخلص لم يكن تاماً وباتراً، ربما تمشياً مع مقولة أجدادنا من «شب على شيء شاب عليه».

وإلى جانب النصوص المسرحية، كنت أقرأ مؤلفات مارون عبود اللاذعة، وبعده انتقلت إلى مؤلفات طه حسين والعقاد وغالي شكري وأحمد الشايب ومحمد يوسف نجم ومحمد الجزائري ويحيى حقي ومحمود أمين العالم، كل هذه القراءات كانت تتمحور في داخلي على شكل نظريات ودراسات، أحمد الله أنه لم يظهر أي شيء منها على أرض الواقع، فقد كنت آخر الناس في الإقدام على الكوارث النقدية، كان أي كتاب من هذه الكتب أشبه بساحة معركة، تستخدم فيها كافة الأسلحة، ولم يبق في ذاكرتي إلا القليل من هذه الدراسات، وكان كل كاتب من هؤلاء يعتقد أنه سيصلح حال الأدب العربي بمقالة أو دراسة أو توجيه!

حتى هذه المرحلة من العمر لم أكن قد أمسكت بالقلم، ولم يكن في ذهني لون من الألوان الأدبية، كانت الرؤية غائمة، باستثناء أن أدرس المسرح أو النقد، ولم أحقق ما أريد، بل إنني لم أدخل الجامعة أصلاً.. لكن هذه القراءات المتنوعة في المسرح والأدب والتاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة، تتمحور في داخلي، ومن واقع العزلة الاجتماعية بدأت الكتابة، وأرسلت ما كتبته فوراً إلى صحيفة المدينة، وكانت سعادتي بالغة عندما رأيت ما بعثت به بوساطة البريد منشوراً ومعه صورتي إياها!

كان هناك العديد من الأصوات الجديدة في القصة والنقد، وقد بدأت تأخذ وضعها في صفحة الأدب بجريدة المدينة، منها سليمان سندي وعبدالله السالمي وأنور عبدالمجيد وفهد الخليوي وعبدالله باخشوين وعبدالله بامحرز، وكان هناك نقاد، لكن ما كان يشدني أكثر هي الدراسات التي ينشرها شاكر النابلسي عن المعمار الفني في القصة السعودية، ومقالات مشعل السديري عن اللامنتمي، هذه الحركة الثقافية الجديدة كانت دافعاً لكي أكتب، فأصبحت لا أنتهي من كتابة قصه حتى أشرع في كتابة قصة جديدة، بل إن الوهم والمراهقة، هيَّئا لي بأنني ربما أصبح روائياً كبيراً، والحمد الله أنني قنعت بالقصة، ومن يدري فربما كنت سأنطفئ من لحظتي كما حصل للعشرات من كتَّاب القصة القصيرة، فبعضهم كتب قصة واحدة ، وبعضهم كتب أكثر من قصة، ثم توقفوا تماماً!

لقد وُهبت فضيلة التواضع والصبر، فأصبحت أقدِّم رِجلاً وأؤخِّر أخرى، وبين كل خطوة وخطوة كنت أقبل على القراءة، المزيد من القراءة والقليل من الكتابة، ذلك جعلني أطمئن بأن ما أكتبه قابل للنشر على الأقل، كنت أكتب لأن ذلك يدخل السعادة والطمأنينة إلى نفسي، فقد وجدت أن الكتابة مثل الماء الزلال، لذيذ ومنعش.

كان العام 1389هـ (1969م) بداية دخولي عالم الكتابة القصصية، فقد نشر القاص الراحل سباعي عثمان أول نصوصي باحتفاء جعلني أقبل بحماس على قراءة القصة القصيرة والرواية، من هنا بدأت وما زلت أتوقف كثيراً وأكتب قليلاً، هذا أراحني، وجعلني قريباً من القراءة، وزاد الأمر حُسناً، بُعدي عن الصحف والمجلات، وعن تجمعات الكتَّاب، كنت في محيط شبه أمي، محيط يحتفي فيه الناس بمن يقرأ الرسالة أو يصعد إلى المنبر في المناسبات وحوله يصطف الرجال أمامهم سماور الشاي وفي أيديهم ليات الشيشة، وكلما جاء موقف حاسم في الرواية ارتفعت الأصوات.. هذه أمور كانت تلهب المخيلة، لكن ما كان يلهبها أكثـر ارتياد الأسواق، وبالذات تلك التي تأخذ صفة الاحتفالية مثل حراج الغنم أو ليلة العيد أو ليلة النصف من شعبان أو عصاري رمضان، مثل هذه الأسواق التي كنت أغشاها، كانت تولِّد الحماس في داخلي لعمل يعيد التوازن إلى نفسي المتأرجحة بين الطوابع والمراسلة والمناظر، حبست نفسي طويلاً بعد بدء الكتابة، لكنني كنت أتحرَّق لمشاهدة هذه الأصوات الجديدة التي تكتب النقد والقصة القصيرة، ولم تهدأ نفسي حتى اتجهت ذات صباح إلى مواقف سيارات الأجرة في الباب الشامي، من هناك انطلقت خارج حدود المدينة، لتتوثق صداقتي أو معرفتي فوراً بمن رأيت أنهم الأقرب إليَّ، مثل عبدالله الجفري سباعي عثمان وشاكر النابلسي وعبدالله باخشوين وفهد الخليوي. كان تجوالي في جدة القديمة ومقاهيها لا ينقطع، وكانت حواراتي وسهراتي مع هؤلاء الأصدقاء كذلك، تلك الرحلة علَّمتني الإقبال على تبادل الكتب وأشرطة فيروز وسيد مكاوي التي كان يسجلها لنا محل مختص ببيع الأسطوانات في شارع الملك عبدالعزيز حيث قريباً منه يربض كازينو الشاطئ وعلى بعد خطوات عيادة الدكتور عبدالله مناع، الذي زرته مع تلميذه وصديقه عبدالله باخشوين وكان تكراره الحديث عن عبدالوهاب وأم كلثوم وأحمد رامي سبباً في أن أضمهما إلى فيروز وسيد مكاوي، لقد كان عبدالله مناع ولا يزال قامة كبيرة تَرسَّخ عندي هذا الانطباع من أول مقابلة، وهي مقابلة ربما لايتذكرها الدكتور مناع وإن كان بالتأكيد يتذكر عبدالله باخشوين جيداً حاضراً وغائباً!

مقتطفات
البطاقة
قصة: حسين علي حسين

حضرت مبكراً. أوقدت جهاز التكييف، فأخذ يهدر في الغرفة الضيقة بلا هوادة. تذكرت عبارة موظف زائغ العينين «مكيفك أصيل» فشعرت في داخلي بالضيق!

أخذت زجاجة الماء البلاستيكية، وضعتها في حيز أمام فتحة المكيف. دُرت في الغرفة، أزحت الستارة القاتمة اللون المكوَّنة من شرائح مستطيلة ومتعددة. غمر الضوء الغرفة. وقفت خلف الزجاج الشفاف. كان المشهد مثيراً، اكتشفته للتو، عشرات السيارات تمرق في سرعة رهيبة، هناك عجلة صغيرة يتراقص بها عامل وسط السيارات، رجل عجوز يزحف بعكازه من رصيف إلى آخر. سمعت وظهري للباب صوت «بهناز» فالتفت إليه، لكنه لم يعرني انتباهاً، وضع كوب الشاي، وأخذ بقايا الصحف، ثم صفق الباب خلفه، تاركاً لي طيف ابتسامته المبهمة، يحيرني هذا العابر بين الغرف الكثيرة بنعلين من فلين، يخرج ويدخل كالريح، بيني وبينه حوار صامت وابتسامات مبهمة وورقة صغيرة أبرمها جيداً وأغرزها في جيب قميصه، فلا أجد إلا ابتسامة، تجعلني طوال اليوم نهباً لتفكير ممض.. ماذا يريد هذا العابر بنعلين من فلين؟ لا بد أنه يحترمني أو يحقد علي.. واحدة من اثنين لا ثالث لهما..اللعنة على هؤلاء الأغراب!

دلقت الشاي في جوفي. جلست على الأرض. ألقيت نظرة على صحف الصباح. رن جرس التلفون بإلحاح. خفت أن يسمع جاري الجرس، فيركض للرد، راودت نفسي بالقيام، لكنني أشعلت سيجارتي وواصلت البحلقة فيما بين السطور. توقف الرنين ثم عاد بإلحاح أشد، قلت به مس، وانقضضت على السماعة: «نعم!!».. وضعتها، ثم خرجت حالاً!!

نزلت الدرج عدواً. عدد من الموظفين المتجهمي الملامح والضاحكين والهازلين، يقفون أمامي وربما خلفي، لست أدري بالضبط. وصلت للبدروم الرطب، لأجد الطابور اللعين، وقد امتد والتوى. لم أفتح فمي. وقفت صامتاً، بعد أن وزَّعت تحية الصباح. في المقدمة ثُبِّتت لوحة سوداء صارمة «لا تُقبل المراجعة.. بعد الانصراف من أمام الشباك!». تفقدت جيوبي. أخرجت البطاقة من المحفظة، وضعتها في الجيب العلوي، رفعت يدي وثبتُّ العقال على «الغترة» جيداً، أحسست بأنه قد يطير من فوق رأسي. «تقدَّم!». صاح صوت جهوري من خلفي فتقدَّمت مرغماً وعبارة «لا تُقبل المراجعة!» تكاد تأكلني!!

وصلت للشباك، واجهني الصراف بملامحه الإسمنتية قائلاً «البطاقة!». قدَّمتها. أنزل نظارته السوداء المقعرة، فبانت حفرة غائرة مكان إحدى عينيه، شعرت بضحكة مكتومة، كادت تخرج دون شعور مني، لممتها حالاً، وراقبته وجلاً وهو يتفرس في محتويات البطاقة، لكنه لم يقل شيئاً، فقط صفق باب الشباك في وجهي، اختفى، كدت أسقط، لكنني تمالكت. أطلقت صيحة أمام الشباك المغلق، زادت الهمهمات من خلفي. سمعت الشتائم دون أن أستطيع تحديد مصدرها. ظللت واقفاً, أخذت أحرِّك قدمي العريضتين، على بلاط البدروم، الباهت المحشو بحبات سوداء وبقايا مياه وشاي وسجائر ولفافات ساندويتشات، ثم رفعت عيني بزهق لتواجهني علاقات شاي «اللبتون» متدلية من سقف «البدروم» كأنها عناقيد عنب ناشفة أو معطنة، كل هذه الفوضى والقاذورات أمام مخزن البنكنوت.. ورق ورق ورق، على الحائط والجدران، وداخل الصندوق، وفي الجيوب والمخازن والمقابر والمدارس، ورق لامع وباهت.. «أخرج من الطابور!»..

عادت الهمهمات فالتفتّ بغضب مكتوم، خرجت من مقدمة الطابور، لأدخل دورة المياه. كانت الصنابير تقطر في الفراغ، ورائحة الحمامات حادة ونفَّاذة تتسلل إلى الوجوه والملابس والأقدام. قضيت حاجتي، ثم عدت لأبحث عن مكاني في الطابور دون جدوى. قال لي ذو الوجه الإسمنتي عندما مددت له عنقي «بالدور لو سمحت!» لم يلفظ كلمته، إلا وأخذت الأيدي تدفعني، لأجدني في ذيل الطابور، الذي أخذ يتلوى ويتشكل بطريقة عجيبة!.

أضف تعليق

التعليقات