العملة الخليجية الموحَّدة مشروع بات قاب قوسين من أن يتحقق، وكانت آخر الخطوات الكبيرة في هذا المشروع قرار مجلس دول التعاون الخليجي اعتماد العاصمة السعودية الرياض مقراً للمصرف المركزي للعملة الخليجية الموحَّدة. فلماذا توحِّد البلدان عملاتها؟
الدكتور فكتور سحاب يستعرض بعض التجارب العالمية على صعيد توحيد العملات والدوافع إليها، ويعرّج على الأسباب التي تدفع إلى ذلك، وأيضاً تلك التي تحول دون تحقيقها في بعض الظروف، إضافة إلى ما يلوح في أفق توحيد العملة الخليجية من نتائج إيجابية على اقتصادات دولها.
الوحدة النقدية، أو ما يسميه الخبراء أحياناً الوحدة الاقتصادية والنقدية، هي الخطوة التي تتخذها مجموعة بلدان عندما تعتمد نقداً موحَّداً، وتفتح أسواقها الاقتصادية فيما بينها، لتكوّن منطقة تبادل حر.
تُعد الوحدة النقدية الأوروبية التي اعتمدت اليورو عملة لها، الوحدة النقدية الكبرى في العالم اليوم، لكنها ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة على الأرجح. فدول مجلس التعاون الخليجي تسعى في هذا الاتجاه، وكذلك دول منطقة جنوب شرق آسيا، ودول أمريكا اللاتينية. وكانت دول في غرب إفريقيا أنشأت عملة موحَّدة لها منذ ستينيات القرن الماضي.
يرى الخبراء أن على الوحدة النقدية أن تتسم بشروط، حتى تكون مجدية من الناحية الاقتصادية. ويقول العالِم المالي والاقتصادي بيلا بالاسا، إن الوحدة النقدية هي المرحلة الخامسة في تطور العلاقات الاقتصادية والمالية بين الدول. ويضع بالاسا المراحل الأربع التي تسبق الوحدة النقدية، على النحو التالي:
1 –
مرحلة منطقة التبادل الحر، وهي إلغاء الجمارك وحصص الاستيراد بين البلدان المتعاقدة،
2 –
مرحلة الاتحاد الجمركي، وهي تبادل حر للبضائع، يسانده نظام جمارك موحَّد حيال سلع البلدان الأخرى غير المتعاقدة،
3 –
مرحلة السوق المشتركة، وهي اتحاد جمركي تكون فيه عناصر الإنتاج حرة الحركة بلا عائق بين البلدان المتعاقدة،
4 –
مرحلة الاتحاد الاقتصادي، وهي سوق مشتركة تنسَّق فيها السياسة الاقتصادية، المتبعة في كل البلدان المتعاقدة.
وتُعد هذه المرحلة الأخيرة التي تسبق الوحدة النقدية أصعب المراحل، لأن على الدول خلالها، التضحية ببعض ميزاتها في مجال ما، لتكسب ميزات جديدة في مجالات أخرى. ولذا قد تتجاذب العوامل الاقتصادية القرار السياسي في داخل البلد الواحد، مرة إلى هذا الجانب ومرة إلى ذاك.
وقد كانت الوحدة النقدية الأوروبية تمهيداً سبق مرحلة نشهدها الآن، وهي مرحلة العمل في اتجاه الوحدة السياسية، على غرار ما جرى في ألمانيا، سنة 1834م، حين أعلنت الإمارات والمقاطعات الألمانية، وكانت مستقلة، الوحدة الجمركية (Zollverein)، وهي وحدة أفضت إلى وحدة سياسية سنة 1870م.
تواجه منطقة اليورو، العملة الأوروبية الموحَّدة الآن، عقبات تؤخِّر اكتمال مسار هذا التوحيد، من جرَّاء عوائق تحرُّك اليد العاملة بين البلدان المتعاقدة، وعدم مرونة الرواتب، أي عدم تقاربها شيئاً فشيئاً، على الرغم من الانفتاح النظري بين هذه البلدان. وليس ثمة ما يحول نظرياً دون توحيد السياسة الاقتصادية في بلدان منطقة اليورو، لكن موازنة الإدارة الاتحادية الأوروبية، وهي موازنة ضئيلة جداً، لا تكفي للدفع في اتجاه تسوية مستويات العيش المتفاوتة بين البلدان المذكورة.
ويعتقد بعض الخبراء أن أصداء الأحداث الاقتصادية والسياسية، تخلِّف آثاراً متباينة في كل بلد. فحين توحَّدت ألمانيا، سنة 1990م، احتاجت الحكومة الألمانية إلى اعتماد الصرامة الشديدة في ضبط عجز الموازنة في الإطار الأوروبي، وهو أمر عانت عواقبه فرنسا، في اقتصادها الذي كان يحتاج إلى تشدد أقل.
وإذا قيست الوحدة النقدية الأوروبية على معايير بالاسا، فيمكن تقييم نتائجها كالآتي:
–
في شأن حركة عناصر الإنتاج، ثمة حركة حرة للعمالة، لكنها ضئيلة.
–
مقياس الانفتاح الاقتصادي متفاوت بين 30 و%92.
– تناسق المعايير والميول جيد، بفضل تقارب الثقافة.
– تنوع المصنوعات ممتاز.
–
انتقال المال غير ميسّر جيداً، بسبب سياسة مالية محافظة في الإجمال.
لقد وضع روبرت ماندل، في ستينيّات القرن الميلادي الماضي، نظرية المنطقة النقدية الفضلى. وقال إن للوحدة النقدية حسناتها وسيئاتها, وأهم الحسنات أن المنطقة النقدية الموحَّدة، تنشّط التجارة في المنطقة الموحَّدة، لكنها تحول دون وضع سياسة نقدية مستقلة لكل بلد على حدة. فإذا كان ثمة بلدان فيهما وضعان اقتصاديان مختلفان جداً، فإن النقد في كل منهما يحتاج إلى سياسة مختلفة. وحينئذ يحتاج أي جهد للوحدة النقدية بينهما إلى جهد يسبقه، من أجل تنسيق الاقتصاد فيما بينهما، قبل الإقدام على التوحيد النقدي. ولا بد للوحدة النقدية من أن تكون قادرة على حل أية مشكلة تنشأ من صدمة التوحيد النقدي، الناشئة من عدم الانسجام الاقتصادي. وأفضل الحلول لمثل هذه المشكلات المحتملة، هو السعي في التناغم الاقتصادي المتدرّج. ولا شك في أن المراحل الأربع التي قال بها بالاسا تدفع في هذا الاتجاه. ويرى ماندل أن وضع موازنة اتحادية، يمكن أن يعالج أي صدمات من النوع المذكور.
عملة غرب إفريقيا
في إفريقيا ثلاثة عشر بلداً، معظمها في غرب إفريقيا التي كانت مستعمرات فرنسية، تسمى عملتها «الفرنك CFA»، والأحرف الثلاثة هذه هي الأحرف الأولى من عبارة: الاتحاد النقدي الإفريقي، باللغة الفرنسية. والبلدان المنتمية إلى هذا الاتحاد النقدي، هي: السنغال ومالي والنيجر وساحل العاج وتشاد وبوركينا فاسو وتوجو وبنين وكاميرون وإفريقيا الوسطى وجابون والكنجو وجزر القمر.
الميزة الأولى التي تجنيها هذه البلدان التي تُعد فقيرة في الإجمال، هي أن العملة الموحَّدة توفِّر عليها موازنة كبيرة لطبع عملة مستقلة. والميزة الثانية، وهي لا تقل أبداً عن الأولى، هي أن اعتماد عدد كبير من البلدان الإفريقية هذه العملة الموحَّدة، يجنبها خفض قيمة هذه العملة بوتيرة سريعة، مثلما يحدث في كثير من الدول الفقيرة، منها زائير وغانا وسييرا ليون وليبيريا وموريتانيا وجامبيا وغيرها. فالعملة الإفريقية الموحَّدة مرتبطة باليورو بعدما كانت مرتبطة بالفرنك الفرنسي. لقد أعيد تقييم هذه العملة في سنة 1994م، مرة وحيدة منذ إنشائها.
وفي السنوات الأخيرة قررت خمس دول إفريقية غربية، بعضها من دول الاتحاد النقدي، أن تنشئ عملة جديدة سمتها: إكو ECO، اختصاراً لكلمتي الاتحاد الاقتصادي باللغة الإنجليزية. وهذه البلدان هي: جامبيا وغانا وغينيا ونيجيريا وسييراليون. وقررت هذه الدول عام 2004م أن تدمج عملتها مع الفرنك CFA.
إلا أن الفقر وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ولا سيما تذبذب سعر النفط في كبرى الدول هذه، نيجيريا، وهبوط سعر الكاكاو، وهو مصدر دخل أساسي لدى بعض هذه الدول، يلقي بظله على الخطوات اللازمة لتسوية مسار الاقتصاد في الدول الساعية إلى الوحدة النقدية. كذلك يثقل اليورو، بتصاعد قيمته النقدية، على هذه العملة الموحَّدة.
آفاق العملة الخليجية الموحَّدة
في آخر اجتماع عقده وزراء المال في مجلس التعاون لدول الخليج العربية تقرَّر أن يكون مقر المصرف المركزي لدى إنشاء العملة الخليجية الموحَّدة في الرياض. وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة ترغب في أن يكون المقر فيها، ولذا امتنعت عن المشاركة، وظلت العملة الخليجية المنشودة، مشروعاً تؤسسه أربع دول الآن، هي: المملكة العربية السعودية ودولة الكويت ودولة قطر ومملكة البحرين. أما الموعد المتفق عليه لإنشاء العملة الموحَّدة، التي لم يُعرف اسمها بعد، فهو سنة 2010م، مثلما كانت دول المجلس قد قررت أصلاً منذ سنوات. ويأمل المراقبون أن تتوسع الوحدة النقدية في السنوات المقبلة. إذ مما يُذكر، أن سلطنة عمان تنحّت عن المشاركة منذ سنوات، لأنها كانت ترى أن إنشاء العملة الموحَّدة في موعد أقصاه 2010م، غير ممكن، وإن كانت لم تعترض على مبدأ إنشاء العملة الموحدة. فهي رأت أن تنسيق السياسة النقدية والاقتصادية تمهيداً لوحدة العملة، يحتاج إلى مهلة أطول.
وتملك دول مجلس التعاون الخليجي جميعاً، عملات ثُبتت قيمتها بالدولار الأمريكي. ولذا فهي غير معرضة للتذبذب الذي قد يُحدث خللاً فيما بينها، في مرحلة التوحيد. وكانت الكويت قد اختارت في سنوات سابقة ربط قيمة عملتها بسلة عملات قوية، منها الدولار الأمريكي، لكنها عادت إلى معيار الدولار وحده، فيما بعد.
وبفضل هذا الاستقرار النقدي، لا سيما في القيمة النسبية بين عملات دول الخليج، تستطيع دول المجلس أن تتخذ مسارات متقاربة جداً في شأن التضخم والدَّين العام ونسب العائد، وهي أمور أساسية حين تهم البلدان في توحيد عملاتها. ذلك أن التعديل المطلوب من أجل تطابق هذه العوامل في بلدان المجلس، هو طفيف جداً.
وإذا قارنّا وضع دول المجلس بدول أوروبا، وجدنا أن حالة أوروبا أعقد. فالفروق الاقتصادية الكبيرة بين ألمانيا واليونان مثلاً، لا تُقارَن بالتماثل القائم بين اقتصاد دول الخليج. يضاف إلى هذا أن فوائد توحيد دول الخليج عملاتها واضحة جداً. فالعملة الموحَّدة ليست جيدة فقط لمؤسسات الأعمال العابرة للحدود بين هذه الدول، وهي مؤسسات تحتاج اليوم إلى التحول بين ريال ودرهم أو دينار، حالما تعبر الحدود، بل إنها حافز قوي وقريب المنال أيضاً، لتقارب الشركات على جانبي الحدود، ولتأسيس شركات أكبر حجماً، تقلل النفقات الإدارية والرأسمالية، وتعزز الإنتاجية. ولو مكث التبادل النامي بين هذه الدول على التعدد النقدي القائم اليوم، لصار تبديل العملات الست الشغل الشاغل، بدل الانصراف إلى إنماء الأعمال في النشاط الاقتصادي البحت.
الشركات العابرة للحدود
ويعتقد الخبراء أن العملة الموحدة، من حيث المبدأ، هي أم الإصلاح الاقتصادي. فهي دافع قوي لتسهيل عمل الشركات، لأن توحيد العملة في الأساس هو الخطوة الأولى نحو فتح الأسواق بين الدول المتعاقدة. إذ لا يعقل أن تتعاقد دولة على توحيد عملتها مع دولة أخرى، ثم تضع العراقيل دون عبور الشركات الحدود في الاتجاهين، من أجل إنشاء مشاريع في الجانبين معاً. وبذلك تشتري شركة في جانب مواقع لها في الجانب الآخر، وتتشابك المصالح الاقتصادية، ويتعين إذن أن تذلَّل الحواجز وتذاب الفروق، وتُعتَمَد معاملات مختصرة وتزال عقبات، وإلا فما الفرق حينئذ بين معاملتك لدولة عقدتَ معها وحدة نقدية، وأية دولة أخرى.
لقد بدأت أوروبا أخيراً تلمس فوائد العملة الموحَّدة، بعد السنوات الأولى من التردد. فظهرت حركة قوية نحو دمج الشركات المتوسطة والصغيرة، لأجل اكتساب حجم أكبر واختصار نفقات الإدارة والإنتاج. وهذه الحركة واضحة جداً للعيان، ومؤثرة، ولا تزال تتصاعد.
ويرى خبراء المال والاقتصاد أن أحد أهم عناصر قوة الدولار الأمريكي، أنه استفاد منذ زمن بعيد، من كبر السوق الأمريكية، قبل أن يمد سطوته خارج البلاد. وحين توحِّد دول الخليج عملاتها، فهي لا توسِّع سوق تحرك عملتها فقط، بل تستند في الوقت نفسه إلى عنصر قوة آخر، هو سرعة التماثل الاقتصادي المتوقعة نظراً لتشابه الاقتصاد فيها، واتكاؤها على أساس متين هو النفط، الذي تملك منه كل دولة ما يضمن، إلى حد بعيد، أماناً نقدياً واقتصادياً يجعل لهذه البلدان ميزة نسبية جيدة على ما عداها، في الاقتصاد العالمي المضطرب.
وفي زمن يتحدث فيه بعض الخبراء عن تفكير جاد في العالم، بالإشاحة عن الدولار الأمريكي، بسبب الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة في خريف 2008م، لا يُستبعد أن تحل سلة عملات قوية محل الدولار، عملة احتياط عالمية، وأن تقعد العملة الخليجية الموحدة على مرتبة مريحة داخل هذا السلة.
لماذا ظلت بريطانيا خارج اليورو؟
ولكن ما الذي يحول أحياناً دون توحيد العملة، فتمتنع دولة معينة طُرحت عليها الفكرة من الانضمام إلى المشروع؟ هنا يمكننا أن نتناول على سبيل المثال الأسباب التي حدت ببريطانيا، مثلاً، على إدارة ظهرها للعملة الأوروبية الموحدة اليورو، على الرغم من أنه صار عملة دول أوروبية متزايدة، فيما تتعزز مكانته في العالم.
يرى علماء الاقتصاد والسياسة، أن فكرة إنشاء العملة الأوروبية الموحَّدة، في أساسها، فكرة فرنسية ألمانية، وُلدت في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، والمستشار الألماني الأسبق كونراد أديناور، من أجل مواجهة ما كانا يريان أنه نزوع الولايات المتحدة الأمريكية إلى السيطرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ويقول هؤلاء، انطلاقاً من هذا الافتراض المؤسَّس على وقائع التحالف الألماني الفرنسي في ستينيّات القرن الميلادي العشرين، إن كون فكرة العملة الأوروبية الموحدة نوعاً من النزوع للتفلت من هيمنة النقد الأمريكي، هو السبب الأعمق لإحجام بريطانيا عن اعتماد اليورو وإلغاء الجنيه الإسترليني، على الرغم من أن بريطانيا اجتهدت بشدة لدخول السوق الأوروبية المشتركة أولاً، ثم الاتحاد الأوروبي فيما بعد. ذلك أن لندن تعد أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية إليها.
صحيح أن الجنيه الإسترليني كان عملة الاحتياط الدولية، أيام عز الإمبراطورية البريطانية، وأن الدولار الأمريكي هو الذي أنزله عن عرشه ليحل محله، إلا أن بريطانيا التي ارتضت على مضض بالدولار «الملك» بدلاً من الجنيه في التبادل الدولي، لم تكن مستعدة للقبول بتنصيب اليورو محل الدولار. فالعلاقة بين لندن وواشنطن أوثق مما كان بينها وبين القطبين الأوروبيين الكبيرين، باريس وبون (برلين فيما بعد). ولهذا السبب صار علم السياسة ينظر إلى لندن على أنها الكابح الذي يمهّل اندفاع أوروبا، للخروج من الكنف الأمريكي. كذلك يرى المحللون أن صعود أوروبا إلى منصة القوة الكبرى الجديدة في العالم، بدل أمريكا، ليس مما يَطمئن له البريطانيون، لا سيما وأن الفرنسيين والألمان، لا بريطانيا، هم الذين يلعبون دور القاطرة الأوروبية، ولا تستطيع لندن أن تركب إحدى المقطورات خلفهما. وإن اضطرت، فليكن ذلك في مقطورة تجرها أمريكا، لا غيرها. ولم تكن أمريكا بعيدة عن هذا الميل، فاعتماد بريطانيا اليورو بدل الجنيه، يعني انخراطها التام في المشروع الأوروبي، وخسران أمريكا حليفاً قوياً في معارك حرية التجارة والأسواق المفتوحة والتعاون الأطلسي، وفقدانها موطئ قدم موثوقاً به، في داخل أوروبا.
هذا صحيح في الحساب السياسي والاقتصادي والنقدي، لكن الشعوب تترجم هذا الأمر إلى مواقف يغلب عليها الطابع المعنوي. فالبريطانيون الذين استُفتوا مراراً في استطلاعات الرأي في هذا الموضوع، عارضوا إحلال اليورو محل الجنيه الاسترليني، بنسب بلغت أحياناً نحو 70 في المئة، وكانت مشاعر «الكبرياء الوطني» الباقية من عهد الإمبراطورية البريطانية، عاملاً أساسياً في موقفهم هذا. فهم لم ينسوا بعد زمناً كانت فيه لندن عاصمة المال في العالم، وكان الجنيه الملاذ الآمن للمستثمر والمدخر معاً. يضاف إلى هذا أن الحكومة البريطانية، التي تحركت بحوافز سياسية ولا شك، نظمت قبل عشر سنوات، حملة دعائية شديدة التأثير، حذرت فيها الشعب البريطاني من انهيار اقتصادي وكارثة نقدية لو انضمت بلادهم إلى منطقة اليورو. وكان عدد من رجال الأعمال البريطانيين قد أنشأوا في عام 1998م، تجمعاً سمَّوه: «الأعمال من أجل الإسترليني»، وهو تجمع من كل الأحزاب الكبرى في البلاد، أوحى أن رجال الأعمال يتمسكون بالإسترليني. وكان عمل التجمع مؤثراً جداً في الرأي العام.
وكانت حجة معارضي دخول منطقة اليورو في الأساس سياسية، إذ ان منظري الرفض قالوا إن أية عملة في التاريخ تستند إلى دولة, وإن قول مؤيدي اليورو بأن الأمر اقتصادي لا سياسي غير صحيح، ولذا فإن دخول بريطانيا في منطقة اليورو يعني ضمناً فقدانها المتدرج استقلالها السياسي.
أما على الصعيد النقدي، فرأت الحكومة البريطانية أن أنصار اليورو البريطانيين يقولون إن العملة الأوروبية الموحَّدة ستمد بريطانيا باستقرار نقدي مستند إلى هذه العملة. وهذه حجة رأت الحكومة البريطانية إنها لا تشمل بفائدتها سوى %15 من الحركة النقدية البريطانية، هي نسبة المبادلة التجارية بين لندن ودول الاتحاد النقدي. وفي مقابل هذا، سيكون على بريطانيا أن تخضع لسياسة نقد ونسبة فائدة موحَّدتين. ورأى رئيس الحكومة البريطانية غوردون براون، وكان وزير المال آنذاك، إن استقرار النقد لا يعني استقرار الاقتصاد، وأن اعتماد هذا الخلط بين الأمرين أدى إلى مشكلات اقتصادية معقدة في بريطانيا نفسها. وصدف أن بريطانيا كانت قد غادرت نظام التنسيق النقدي الأوروبي، فنعمت بعقد من النمو الاقتصادي. وكانت تلك حجة قوية في جعبة براون.
كذلك كان النزوع إلى التضخم في خمس من دول الوحدة النقدية الإحدى عشرة، سنة 2000م، أمراً غير مقنع، لا سيما أن هذا النزوع كان يرافقه هبوط قيمة اليورو حيال الدولار الأمريكي. وكانت الضريبة البريطانية أقل بنسبة الخُمس، ونسبة البطالة البريطانية لا تزيد على نصفها في منطقة اليورو. واستطاع الاقتصاد البريطاني في السنوات العشر الأخيرة، أن ينشئ فرص عمل تساوي كل ما أنشئ في دول الوحدة النقدية مجتمعة، في السنوات نفسها.
لكن كل هذه الحجج، وهي صحيحة واستطاعت أن تقنع البريطانيين برفض دخول منطقة اليورو، أخذت في الحسبان الحالة الاقتصادية في سنة معينة أو في مرحلة معينة، ولم تنظر في حركة التنسيق والتكييف الضرورية والمتدرجة، التي تؤهل الدول للوحدة النقدية، حين تكون بعد غير مؤهلة، مثل زيادة المرونة في سوق العمل وتقريب الأنظمة الضريبية وتحرير التبادل التجاري وما إلى ذلك، تطلعاً إلى المدى البعيد الذي تبدو فيه أوروبا عملاقاً قوياً، ولا سيما أن الحال الاقتصادية في سنة ما، ليست من الأمور التي يمكن ضمان بقائها زمناً طويلاً. ولا بد من زمن يأتي، تكون فيه بريطانيا في حاجة إلى هذه الوحدة النقدية الأوروبية.
لقد كان صعباً على هذا المنطق أن يُقنع الناخب البريطاني، الذي نظر إلى الوضع في ساعته، فأعرض عن اليورو، وتحركت عنده فوق هذا حمية الإسترليني، فأصيب اليورو بأشد نكساته، منذ تأسيسه.
فلسفة مختلفة
أعمق من هذا الخلاف، يقول المحللون إن فلسفة الاقتصاد الحر الأنجلو ساكسونية، وفلسفة التوجيه الاقتصادي الأوروبية، هما النقيضان اللذان يختبآن في عمق هذا التنافر. فالأنجلو ساكسون، في بريطانيا وفي أمريكا، يسمون سياسة خفض الضريبة، سياسة البيئة المؤاتية للأعمال. أما الأوروبيون فيسمونها سياسة التنافس غير العادل. وفيما يميل الأنجلو ساكسون إلى «ترك السوق تعمل»، يتمسك الأوروبيون بسياسة الحماية الاجتماعية. وقد تعمقت هذه الهوة بين الفلسفتين، في عهدي رونالد ريجان في أمريكا، ومارجريت ثاتشر في بريطانيا. وفيما يعرب زعماء أوروبا عن تأييدهم تحرير السوق في العلن، إلا أن سلوكهم السياسي والاقتصادي ينم عن مسايرة أكبر للمقتضيات الاجتماعية في بلدانهم. بل ان بعض المحللين الاقتصاديين يُسِرّون بأن جمهرة من الزعماء الأوروبيين كانوا في سرهم يتمنون ما حدث لأسواق المال الأمريكية في خريف 2008م، ليثبتوا صحة نظرتهم، فتخف الضغوط التي أثقلت عليهم لدفعهم إلى تحرير الأسواق.
ولذا يُختَصَر الشد والجذب في هذا الأمر، بأنه صراع بين فلسفتين، تعبّر كل منهما عن مصالح طرف من طرفي الخريطة الاجتماعية: أصحاب الأعمال في طرف، والموظفون والمستخدَمون في طرف آخر. لكنه أيضاً صراع بين نزوعين في خريطة العالم: واحد أنجلو ساكسوني يمتد عبر الأطلسي يتمسك بهيمنته على احتياط النقد العالمي، وآخر أوروبي قاري، يتوق إلى الارتقاء إلى مرتبة القوى العظمى.