تنطوي زيارة أي محترف فني على شيء من المتعة، التي قد تكبر عندما يجد المرء نفسه أمام أعمال شهيرة ومعروفة، ولكنها لا تصل أبداً إلى تلك المتعة التي يشعر بها الزائر عندما يقف أمام أعمال فنية يجهلها، وتتميز بمستوى من الجمال والجدية والإتقان أعلى بكثير مما كان يعلم أو يتوقع. فمتعة الاكتشاف تنطوي على ذلك الشعور الغامض واللذيذ المتولِّد عن «معرفة ما لا يعرفه كثيرون». وكان هذا بالضبط شعورنا خلال زيارة محترف الفنان عصام جميل واستكشافه.
ليس في محترف الفنان عصام جميل بحد ذاته ما يُدهش. فهو يشبه إلى حد بعيد محترفات النحاتين المعاصرين بغلبة أدوات القطع والنشر والصقل الكهربائية منها واليدوية، وكثير من الغبار أينما كان.
وقد يكون هذا المحترف أكثر تواضعاً من غيره من جهة الحجم، ولولا تلك الصخرة أمام الباب وثلاث منحوتات في الداخل، لبدا أشبه بتلك الورش الصناعية الصغيرة في حي الثقبة، علماً أن محترف عصام جميل يقع في واحدة من أرقى نواحي الظهران، قرب فرع وزارة البترول والثروة المعدنية في المنطقة الشرقية.
يقول الفنان إنه اختار هذا الموقع لقربه من مكان عمله الإداري في فرع الوزارة. فما إن ينتهي الدوام حتى يهرع إلى صخوره وحجارته ليعمل عليها.
المنحوتات الثلاث في المحترف كانت لا تزال غير مكتملة. وعندما رآنا نَهُمُّ بالتقاط صورة لإحداها عرض علينا غسلها من الغبار المتكدِّس عليها لتظهر مادتها الحجرية على حقيقتها. وهناك عرفنا أن الحجر الغالب على المواد التي يستخدمها هو الحجر الرسوبي المعروف باسم حجر الرياض، وهو حجر أصفر اللون، لاحظنا من خلال مقارنة السطح الأملس لإحدى المنحوتات هناك بالصخرة الخام أمام الباب، أن لون هذا الحجر يصبح فاتحاً أكثر بعد التلميع. وبجوار حجر الرياض، أو حتى معه، يستخدم عصام جميل الخشب كما هو الحال في منحوتة «الغجرية» التي تجتمع فيها المادتان، وأيضاً الحجر الرسوبي المستخرج من المنطقة الشرقية ورخام نجران كما عرفنا لاحقاً.
ويلفتنا الفنان إلى أنه ينفِّذ في هذا المحترف الأعمال الصغيرة الحجم فقط. أما الأعمال الكبيرة، فينفذها على الموقع الذي ستقام وتبقى فيه.
أعماله على الشاشة الصغيرة
الأعمال الثلاثة التي شاهدناها في الورشة كانت كافية لإعطائنا مجرد لمحة موجزة عن اتجاهه الفني، ولأن الاطلاع على الحقيقة الكاملة لأعماله يتطلب رؤية المزيد، دعانا عصام جميل إلى مكتبه لمشاهدة هذه الأعمال على شاشة الكمبيوتر. وما إن فتح الملف الأول، حتى تبدَّد ما ساورنا من شكوك في أن يكون ذلك كافياً. فالفنان يوثِّق بالصور الفوتوغرافية مراحل عمله على كل منحوتة من الألف إلى الياء، ومن مختلف الزوايا. حيث إن لكل منحوتة عشرات الصور الفوتوغرافية التي تُظهر تحولها من حالة الحجر الخام إلى ما هي عليه بسطحها الأملس اللماع. الأمر الذي يتكشَّف عن كثير من شغف الفنان بعمله، ولكنه دفعنا إلى طرح السؤال حول ما إذا كان تقدُّم العمل على المنحوتة يؤدي إلى تغيرها كثيراً عن تصوره الأولي لها، فأجاب: «قليلاً جداً فقط.. التغييرات التي أجريها خلال تقدُّم العمل لا تتجاوز الخمسة في المئة. لأنني أرسم المنحوتة قبل الشروع في تنفيذها. ولكن، خلال التنفيذ، يحصل بينك وبين الحجر حوار، كأن يقول لك الحجر: احذف من هنا، اترك هناك، افعل كذا.. ولا تفعل كذا.. الأمر الذي يؤدي إلى بعض التغييرات المحدودة».
عصام يوسف جميل
• حاصل على بكالوريوس في علم النفس ودبلوم سكرتير تنفيذي.المشاركات الفنية:
– مسابقة شعار الأمير سلمان بن عبدالعزيز لتحفيظ القرآن الكريم 1419هـ.
– المعرض العام للفنون التشكيلية بالشرقية 1420/1421هـ.
– مسابقة المعرض العام للمنطقة للفنون التشكيلية السعودي بالدمام 1421/1422هـ.
– مسابقة ملون السعودية (الخطوط العربية السعودية) الخامسة 1421هـ.
– معرض المسابقة الأولى للفنون التشكيلية بالدمام 1422هـ.
– المعرض العام السابع عشر للفن السعودي المعاصر في الفنون الجميلة بالرياض 1421هـ.
– مسابقة متحف الفن التشكيلي السعودي المعاصر بالرياض 1422هـ.
– المشاركة في شهر التسوق والتراث العربي في مجمع الراشد التجاري بالخبر عام 1424هـ.
– المشاركة في المعرض التشكيلي بدولة البحرين 1425هـ.
– المشاركة في المعرض السعودي الأول للأعمال ثلاثية الأبعاد بالرياض في 20/4/1427هـ.
– المشاركة في مسابقة تصميم معالم وميادين أمانة المنطقة الشرقية 1428هـ.
– مهرجان صيف شركة أرامكو السعودية 31 في 2010م.
– معرض الفنون التشكيلية بوزارة التعليم العالي 2011م.
– معرض مركز الأمير سلطان (سايتك) 2011 و2012 و2013م.
– معرض الفنون التشكيلية لجمعية الثقافة والفنون بالدمام – الشراع مول 2011م.
– مسابقة السفير بوزارة الخارجية 2011م.
– مهرجان صيف شركة أرامكو السعودية 2011م.
– الملتقى التشكيلي العربي السادس بالدوادمي 2011.
– سمبوزيوم النحت الأول بالدوادمي 2012م.
– معرض المركز السعودي بجدة 2011م.
– معرض مشكاة جالري (رؤى معاصرة) 2013م.
– معرض أمجاد وطن 3 بالدمام 2013م.
تجريد لا يعصى كثيراً على القراءة
لغة عصام جميل الفنية تجريدية مقيَّدة إلى حدِّ كبير بحضور الموضوع. ولربما كان من وصفها بأنها تشبه اللغة الشكلية التي ظهرت عند بعض الأساتذة الأوروبيين عندما حاولوا الانتقال من التكعيب ذي الموضوع الواضح والقائم على تفكيك الأحجام وإعادة جمعها، إلى التجريد الهندسي المتميز بنقاء الخطوط والمساحات وخلوّه من الزخارف والتعقيد. ولعل أبرز ما يمكن أن يوضِّح ما نعنيه هنا، مقارنة منحوتته «قصة كمان» بأي من «الكمانات» التي رسمها أستاذ التكعيبية في فرنسا جورج براك خلال العقد الأول من القرن العشرين. فالكمان هناك مرئي من خلال عشرات المساحات الصغيرة المتكدِّسة فوق بعضها، وهنا أيضاً مرئي ولكن من خلال بضعة خطوط منحنية ولولبية.
نقاء الخطوط عند حدوده القصوى
ويصل نقاء الخطوط إلى حدوده القصوى في منحوتته الرخامية البيضاء «المتعبِّدة» التي تقتصر عملياً على تجسيد شكل الإطار الذي تتخذه عباءة امرأة راكعة، والخط الرفيع الذي يؤطر الشكل العام ينتهي في الأسفل بمستطيلين صغيرين هما اليدان، أما تجويف الجسد داخل خط الإطار فمستمد من تحولات الشهيق والزفير عند شخص تَعِب.
الأمر نفسه نلحظه أيضاً في منحوتة «مملكتي» التي استوحاها من عائلته المكوَّنة من ثلاثة أولاد وأمهم. وهي عبارة عن خمسة أحجام مستطيلة الشكل ومتفاوتة الارتفاع، تتكسَّر في بعض المواضع لإضفاء شيء من الحركة والحيوية عليها، ولعل التكسُّر الأبرز هو في أعلى المستطيل الأكبر الذي ينحني جزؤه العلوي فوق المجموعة في رمزية إلى حنو الأب الذي يشبه المظلة فوق الأولاد.
خلال التنفيذ، يجري بينك وبين الحجر حوار، كأن يقول لك الحجر: احذف من هنا، اترك هناك، افعل كذا.. ولا تفعل كذا.. الأمر الذي يؤدي إلى بعض التغييرات المحدودة
ولا بد للرمزية من الحضور في أعمال نادراً ما تستمد مواضيعها من أشياء مرئية.. فمعظم هذه المواضيع مستمدَّة من صور ذهنية مثل «اعتذار» أو «افترقنا» أو «ذكريات بحَّار»، (ولا غرابة في ذلك طالما أن الفنان تخصَّص في دراسته الجامعية بعلم النفس)… ومن أعماله التي تطغى عليها الرمزية منحوتته الكبيرة «الربيع العربي».
نفَّذ الفنان هذه المنحوتة خلال مشاركته في سمبوزيوم النحت الأول بالدوادمي عام 2012م، حيث لا تزال قائمة هناك حتى اليوم. وتتألف هذه المنحوتة الرخامية من مكعب ضخم يرمز إلى العالم العربي، نقش على إحدى جهاته مربعات طاولة الشطرنج (في رمزيتها لما تحتويه من فرسان وقلاع وحكام)، وفوقه طبقة غير مصقولة الحواف ترمز إلى حراك الناس، وفوقها مستطيلات مخططة الحواف تشبه الكتب في رمزيتها للدساتير، وفي الأعلى كرة ترمز إلى العالم فوق سطح غير أفقي يهدِّد بدحرجتها.
والمفارقة الخاصة في شخصية المنحوتة عند عصام جميل، هو أن قراءة مثل هذه الأعمال الحافلة بالرمزية تتطلب شيئاً من المساعدة غير الضرورية لقراءة غيرها، حتى حين يبلغ التجريد حدوده القصوى.
ففي منحوتته «حلم» لا نرى شيئاً واضحاً على الإطلاق، مجرد تجاويف ملساء ومساحات من الحجر بحالته الخام وثقب يتوسَّط الخطوط المنحنية.. غير أن فيها شيئاً من غموض الأحلام وحركتها وأيضاً نسيانها عندما يصبح الحلم شيئاً نعرف أنه حدث ولكننا لم نعد نذكر ملامحه.
أهمية الضوء
في عالم النحت المعاصر، يركز كثير من الفنانين والنقَّاد على أهمية الخطوط والأحجام والمقاييس، ويسقطون من حساباتهم الضوء والدور الخطير الذي يمكن أن يلعبه في تكملة شخصية المنحوتة. أما العرض المصوَّر الذي قدَّمه لنا عصام جميل فبدأ منذ الوهلة الأولى عرضاً «للنحت والضوء». فقد حرص على تصوير منحوتاته المنجزة تحت ضوء النهار الطبيعي. ولكنه التقط عشرات الصور للمنحوتة تحت الأضواء الصناعية من زوايا مختلفة، حيث يزداد التناقض ما بين الأسطح اللماعة والتجاويف التي تصبح داكنة حتى السواد في بعض الأحيان. وفي هذا دليل على احترافية عالية، لأن معظم هذه الأعمال صغيرة الحجم، وستستقر في أماكن داخلية، وستتبدل خطاباتها الجمالية بتبدل الضوء المسلَّط عليها.
الشغف خير معلِّم
حول نشأته الفنية، يقول عصام جميل إنه لم يتلقَّ أية تربية فنية في معهد متخصص. فدراسته الجامعية كانت في مجال علم النفس. غير أن ميله للفنون يعود إلى أيام فتوته. ويروي أنه عندما كان على مقاعد الدراسة الثانوية رسم صورة شخصية لأحد مدرسيه، فقام زملاؤه بتصويرها وكتابة تعليق ساخر من الأستاذ في أسفلها، الأمر الذي دفع المشرف على المدرسة إلى منع عصام من الرسم بتاتاً في المدرسة.. ويضيف أن مسيرته الفنية الحالية هي وليدة اختلاط ميله الدائم إلى الفنون بعلم النفس الذي درسه. ولربما كان تواضعه هو ما منعه من سرد الجهد الذي بذله بالاتكال على نفسه للوصول بأعماله إلى ما هي عليه اليوم.
صحيح أن عصاماً أشار في حديثه إلينا إلى افتقاد المنطقة الشرقية لمعهد جامعي متخصص في الفنون، كما أشار إلى تدني الاهتمام العام بالنحت مقارنة مع الاهتمام الذي يحظى به الرسم في المملكة بوجه عام، ولكن لهجته كانت مختلفة وتشي بالكثير بطريقة غير مباشرة.
ففي حين أن كثيراً من الفنانين عندما يتحدثون عن الأحوال العامة التي لا تفي الفن (أو فنهم) حقه من الاهتمام، يغلب عليهم التذمر وكأنهم يعيشون ظلماً ومعاناة هم غير مسؤولين عنهما فيبعثرون التهم بكآبة شمالاً ويميناً. عصام جميل لم يكن أبداً كذلك.. فالغالب على مزاجه خلال لقائنا معه الذي استمر ساعتين، كان الحبور والفرح بما يعرضه أمامنا. فهو يحب الحجر ويحب لمسه وحمله ونقله والعمل عليه وتحويله إلى شكل جمالي.. وبكثير من الثقة يتطلع إلى أعماله، ويحدثنا عنها مبتسماً دائماً وكأنه يريد أن يقول لنا كم أنه يحبها. إنه مزاج فنان عرف ويعرف تماماً ما يريد، ومرتاح تماماً إلى ما وصل إليه.