رأي ثقافي

«حكايا»..

الطفل يصنع حكايته

DSC_5241‮«‬إن‭ ‬المؤلفين‭ ‬الذين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسمّوا‭ ‬‮«‬الكُتَّاب‭ ‬الحقيقيين‭ ‬للأطفال‮»‬‭ ‬هم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يتقنون‭ ‬معرفة‭ ‬الأطفال،‭ ‬ويعرفون‭ ‬كيف‭ ‬يفاجئونهم‭ ‬في‭ ‬لعبهم،‭ ‬ويصغون‭ ‬إليهم،‭ ‬ويراقبونهم‭ ‬عن‭ ‬كثب،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تدخّل‭ ‬أو‭ ‬طرح‭ ‬أسئلة‮»‬،‭ ‬ولكنّ‭ ‬منح‭ ‬الطفل‭ ‬الفرصة‭ ‬ليكتب‭ ‬لنفسه‭ ‬وما‭ ‬حوله‭ ‬بنفسه،‭ ‬ويقوم‭ ‬بتحريك‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تختزله‭ ‬ذاكرته‭ ‬من‭ ‬شخوص‭ ‬وأحداث‭ ‬جامدة‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬الواقع،‭ ‬لهو‭ ‬الكمال‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الطفولة،‭ ‬وإعادة‭ ‬الأدوات‭ ‬الفنية‭ ‬للطفل‭ ‬كي‭ ‬يعبِّر‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬الآخرون‭ ‬بالتحدث‭ ‬نيابةً‭ ‬عنه‭.‬

ذلك‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬نظري‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬حكايا‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬مطلع‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر‭ ‬الماضي،‭ ‬ومنح‭ ‬زائريه‭ ‬الأطفال‭ ‬مجالاً‭ ‬واسعاً‭ ‬كي‭ ‬يجولوا‭ ‬بخيالهم‭ ‬الواسع‭ ‬ويبدعوا‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬القصة‭ ‬وتعلم‭ ‬كتابتها،‭ ‬ورسم‭ ‬لوحاتها،‭ ‬وتصور‭ ‬مشاهدها،‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بمتابعتها‭.‬

واحتوى‭ ‬المهرجان‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬أجنحة‭ ‬متنوعة‭ ‬للطفولة‭ ‬ضمت‭ ‬فعاليات‭ ‬ترفيهية‭ ‬تعليمية‭ ‬لمن‭ ‬تقل‭ ‬أعمارهم‭ ‬عن‭ ‬6‭ ‬سنوات،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬حكايا‭ ‬الأطفال‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬للطفل‭ ‬صناعة‭ ‬قصته‭ ‬بالربط‭ ‬بين‭ ‬الصور‭ ‬والنصوص‭ ‬بطريقة‭ ‬مسلية‭ ‬وجذابة،‭ ‬باستخدام‭ ‬أجهزة‭ ‬الحاسب‭ ‬اللوحية‭. ‬فيما‭ ‬أقيمت‭ ‬ورش‭ ‬تفاعلية‭ ‬لمن‭ ‬تتراوح‭ ‬أعمارهم‭ ‬بين‭ ‬6‭ ‬و13‭ ‬عاماً‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬مصنع‭ ‬الحكايا‮»‬،‭ ‬يتم‭ ‬فيها‭ ‬تعليم‭ ‬الطفل‭ ‬فن‭ ‬كتابة‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬‮«‬نكتب‮»‬،‭ ‬وفن‭ ‬رسم‭ ‬شخصيات‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬‮«‬نرسم‮»‬،‭ ‬ومهارة‭ ‬تحريك‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ “‬نحرك‭”‬،‭ ‬وفن‭ ‬إلقاء‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬‮«‬نروي‮»‬‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬المهرجان،‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬ويسعى‭ ‬إلى‭ ‬ربط‭ ‬شرائح‭ ‬المجتمع‭ ‬كافةً‭ ‬بالقراءة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬فئة‭ ‬الأطفال،‭ ‬بتحفيزها‭ ‬على‭ ‬التخيل‭ ‬والابتكار‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬القصة،‭ ‬وتعلم‭ ‬كتابتها،‭ ‬ورسم‭ ‬لوحاتها،‭ ‬وتصوُّر‭ ‬مشاهدها،‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بمتابعتها،‭ ‬يستهدف‭ ‬اكتشاف‭ ‬المواهب‭ ‬ودعم‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬القصصية‭ ‬التفاعلية،‭ ‬وتنمية‭ ‬روح‭ ‬الحوار‭ ‬والتواصل،‭ ‬والتعريف‭ ‬بالتراث‭ ‬القصصي‭ ‬المحلي‭ ‬والعالمي،‭ ‬وتدريب‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابة‭ ‬القصص،‭ ‬والاستفادة‭ ‬من‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬وإعداد‭ ‬القصص‭ ‬التفاعلية‭ ‬المفيدة‭ ‬وتطوير‭ ‬آليات‭ ‬عرضها‭.‬

ويُعد‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬ثقافية‭ ‬تربوية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬مغامرةً‭ ‬شيقة‭ ‬ومعلومة‭ ‬النتائج‭ ‬مسبقاً،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الطفولة،‭ ‬والتنقيب‭ ‬عن‭ ‬أسرارها‭ ‬الغائرة،‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬لهذه‭ ‬المكنونات‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬لهي‭ ‬عملية‭ ‬حضارية‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وأخذت‭ ‬تزدهر‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬مع‭ ‬تحسين‭ ‬أنظمة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬ما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬طلب‭ ‬المؤلفات‭ ‬المخصصة‭ ‬للأطفال‭ ‬بلغات‭ ‬مختلفة،‭ ‬ومع‭ ‬ظهور‭ ‬أدباء‭ ‬يكرسون‭ ‬معظم‭ ‬وقتهم‭ ‬لكتابة‭ ‬مؤلفات‭ ‬للأطفال‭.‬

وقد‭ ‬شهد‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬اعتُرف‭ ‬فيها‭ ‬للأولاد‭ ‬بحقهم‭ ‬في‭ ‬التسلية‭ ‬وفي‭ ‬التعلم‭ ‬معاً‭. ‬وعرفت‭ ‬خصائص‭ ‬الطفولة‭ ‬الفردية،‭ ‬وأخذت‭ ‬قابليات‭ ‬الطفل‭ ‬واهتماماته‭ ‬بالحسبان‭. ‬ولقي‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬إميل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬الفرنسي‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬عن‭ ‬التربية‭ ‬اهتماماً‭ ‬واسعاً‭. ‬وجاءت‭ ‬بعده‭ ‬عدة‭ ‬كتب‭ ‬أخرى‭. ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬الكتّاب‭ ‬يؤلفون‭ ‬قصصاً‭ ‬خاصة‭ ‬بالأطفال‭ ‬والفتيان‭ ‬ذات‭ ‬أهداف‭ ‬محددة‭ ‬مثل‭ ‬اكتساب‭ ‬المعارف‭ ‬وتعلم‭ ‬شؤون‭ ‬الحياة‭ ‬والمعيشة‭ ‬وتبني‭ ‬السلوك‭ ‬الحسن‭.‬

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال،‭ ‬فإن‭ ‬الطفل‭ ‬أخذ‭ ‬يقرأ‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬قصصاً‭ ‬مترجمة‭ ‬وأخرى‭ ‬موضوعة،‭ ‬وإن‭ ‬كتب‭ ‬الأطفال‭ ‬بدأت‭ ‬تنتشر‭ ‬انتشاراً‭ ‬واسعاً‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬وهذه‭ ‬ظاهرة‭ ‬تلفت‭ ‬النظر،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬إذا‭ ‬أضيفت‭ ‬إلى‭ ‬كتب‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬المجلات‭ ‬الجميلة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالصغار،‭ ‬والزوايا‭ ‬التي‭ ‬تخصصها‭ ‬لهم‭ ‬صحافة‭ ‬الكبار،‭ ‬وركن‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬والشاشة‭ ‬الصغيرة‭ ‬والأفلام‭ ‬السينمائية‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬توجّه‭ ‬إليهم،‭ ‬ومسرح‭ ‬الأطفال،‭ ‬ومسرح‭ ‬العرائس‭ ‬والدمى‭ ‬المتحركة،‭ ‬والألعاب‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬لهم،‭ ‬والأغاني‭ ‬والأناشيد‭ ‬التي‭ ‬تنظم‭ ‬وتلحن‭ ‬لهم‭.‬

وفي‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هناك‭ ‬رواد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬أدب‭ ‬الطفولة‭ ‬برزوا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬واتجهوا‭ ‬بأدبهم‭ ‬إلى‭ ‬الطفل،‭ ‬مراعين‭ ‬حاجاتهم‭ ‬النفسية‭ ‬والفروق‭ ‬الفردية‭ ‬لكل‭ ‬مرحلة‭ ‬عمرية،‭ ‬ومن‭ ‬أبرزهم‭ ‬كامل‭ ‬كيلاني‭ ‬الكاتب‭ ‬والأديب‭ ‬المصري‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بأعماله‭ ‬الموجهة‭ ‬للأطفال‭ ‬وأطلق‭ ‬عليه‭ ‬النقاد‭ ‬‮«‬رائد‭ ‬أدب‭ ‬الطفل‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬ترجمت‭ ‬قصصه‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬اللغات‭. ‬وأيضاً‭ ‬من‭ ‬الرواد‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬أحمد‭ ‬شفيق‭ ‬وأحمد‭ ‬نجيب‭ ‬ومحمود‭ ‬مفلح‭ ‬ويعقوب‭ ‬الشاروني‭ ‬ويحيى‭ ‬علوي‭ ‬فريد‭… ‬وغيرهم‭ ‬كثير‭.‬

ولكن‭ ‬تبقى‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬حكايا‮»‬‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إعطاء‭ ‬الطفل‭ ‬منصّة‭ ‬خاصة‭ ‬به،‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬الحاكي‭ ‬لا‭ ‬المستهدف‭ ‬من‭ ‬الحكاية،‭ ‬يحرك‭ ‬شخصياته‭ ‬كيفما‭ ‬شاء،‭ ‬ينتقل‭ ‬بين‭ ‬الأحداث‭ ‬بحرية‭ ‬كاملة،‭ ‬ويصعد‭ ‬بالأحداث‭ ‬وينزل‭ ‬بها‭ ‬وفق‭ ‬وتيرة‭ ‬تتلاءم‭ ‬مع‭ ‬عالمه‭ ‬الخاص‭. ‬

ما‭ ‬صنعه‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬حكايا‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الاقتراب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الطفولة،‭ ‬أو‭ ‬بالأصح‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬الأطفال‮»‬‭ ‬وفق‭ ‬معايير‭ ‬جديدة،‭ ‬أبرزها‭: ‬إعادة‭ ‬الورقة‭ ‬والقلم‭ ‬للطفل‭ ‬ليكتب‭ ‬ما‭ ‬يحلو‭ ‬له،‭ ‬ويقوم‭ ‬بصناعة‭ ‬حكايته‭ ‬بنفسه‭ ‬وبأدواته‭ ‬الخاصة‭ ‬به

أضف تعليق

التعليقات