أدب وفنون

بواعث اليوتوبيا في شعر الصعاليك

ILLUSTRATION2البحث عن المدينة الفاضلة أو البحث عن المجتمع المثالي اسمان مختلفان لمسمى واحد وهو اليوتوبيا (Utopia). ترجم العرب كلمة يوتوبيا إلى طوباوية، نسبة إلى طوبى، وأتفق مع هذه الترجمة لأن من المستحيل الحصول على طوبى في هذه الحياة الدنيا. ويعتقد كثير من النقاد الغربيين أن من المستحيل الحصول على اليوتوبيا في واقعنا المعيش الآني. فكلمة يوتوبيا تتكون في أصلها اليوناني من شقين: الأول يعني المكان الفاضل، والشق الآخر يعني مستحيلَ الوجود، أي المكان غير الموجود.

في أدبيات النقد الغربي تكون اليوتوبيا مضادة للإيديولوجيا. أي إن اليوتوبيا هي النظرة الإيجابية التي يتضمَّنها النص الأدبي أو العمل الثقافي، بينما الإيديولوجيا تتضمَّن الجانب السلبي الذي يعمل على تأطير وإغلاق أي آفاق في العمل الثقافي بحيث تجعله أسيراً لفكر معيَّن. كذلك يعتقد النقاد الغربيون بأن الحصول على اليوتوبيا أو المجتمع المثالي يتطلب تغييراً جذرياً للمجتمعات البشرية وكسر كل قوى الإيديولوجيا التي تولد كل المشكلات الاجتماعية، مما يجعل هذه الأمنية صعبة المنال في وقتنا الحالي، لكنهم يرون بأن الأعمال الأدبية والثقافية تعمل على نشر بواعث أو دوافع اليوتوبيا التي تحث الناس على استلهام فكرة اليوتوبيا في الواقع المعيش. ويرى هؤلاء النقاد – ومن أهمهم الفيلسوف الألماني آرنست بلوخ – أن اليوتوبيا تفتح الآفاق التي تسعى الإيديولوجيا إلى إغلاقها. وهذا ما فعلته العنصرية القبلية في العصر الجاهلي، التي سعت إلى إغلاق آمال البشر وجعلتهم رهائن لفكر سبب فوضى اجتماعية وحروباً بين القبائل. بيد أن هذا الفكر العنصري المدمر تبدَّد عندما فتح الشعراء الصعاليك الآفاق من خلال بث دوافع طوباوية تحث الناس على رفض تلك الأفكار والممارسات العنصرية. من أهم تلك الدوافع هو الخروج على القبيلة، ورفض الظلم الاجتماعي الذي يقع على أفراد القبيلة بسببها.

بحث الصعاليك عن المجتمع المثالي
يفرّق الأمريكي فريدريك جيمسون – ناقد ما بعد الحداثة – بين النص الطوباوي الذي يحلم فيه كاتبه بتصوير مجتمع مثالي خيالي، وبين ملامح اليوتوبيا التي يمكن اكتشافها من خلال عملية التأويل للأعمال الأدبية والثقافية. أي إن هناك عملاً طوباوياً ككتاب «الجمهورية» لأفلاطون، وهناك بواعث اليوتوبيا التي تظهر في ممارسة الناس لحياتهم الواقعية كممارسة الكرم وقول الصدق. يرى جيمسون بأن بواعث اليوتوبيا هي التي تحث البشر على البحث عن مجتمع مثالي، ويركز في أبحاثه على نقد الرأسمالية وكيفية فقدان الناس لأي دافع يحثهم على استلهام مجتمع مثالي في مرحلة الرأسمالية المتأخرة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.

يأتي تأكيد الإسلام على أهمية الإيثار في بناء المجتمع البشري دليلاً على تأثير بواعث اليوتوبيا في شعر الصعاليك على ظهور المجتمع الإسلامي المثالي الذي كفل حق الفقير قبل الغني وحق الضعيف قبل القوي

يدلّ حضور اليوتوبيا والسعي للحصول عليها في أي عمل أدبي وثقافي في أي مرحلة من التاريخ على حركة تاريخية توحي بتحول في حركة التاريخ سواء إيجابية أو سلبية. على هذا الأساس، تُعد جهود شعراء الصعاليك في البحث عن مجتمع مثالي وخروجهم على قبائلهم بشائر معبرةً عن تحول تاريخي إيجابي ظهر في بروز المجتمع المثالي الإسلامي في عهد النبوة. لكن فقدان أي باعث أو دافع لليوتوبيا في مرحلة الحداثة في ثلاثينيات القرن الماضي سبب ظهور ما بعد الحداثة كمرحلة تاريخية من أهم مميزاتها التشظي وعدم الإيمان بالمسلّمات.

ثورة الصعاليك ضد مجتمعاتهم وضد الظلم وغياب العدالة الاجتماعية في المجتمع البشري لم يكن عملاً طوباوياً حالماً بل ممارسة واقعية اعتمدت على دوافع اليوتوبيا. ولم تسعَ تلك الثورة إلى رسم مجتمع مثالي خيالي بل صوَّرت اليوتوبيا باعتبارها ممارسة واقعية. ظهرت بواعث اليوتوبيا في شعر الصعاليك جلية في ممارستهم للخروج على القبيلة. ذلك الخروج وتبني فكرة رفض الظلم الاجتماعي أهم دافع يعتمد عليه الشاعر الصعلوك. ولذا نجد الشنفرى يقول:

لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على امرئٍ
سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ

ولهذا يمكن اعتبار حث الشعراء الصعاليك على الخروج من قبائلهم، وكذلك ممارستهم للخروج كممارسة يومية، باعثاً يحث الناس على البحث عن اليوتوبيا. أضف إلى ذلك أن رفضهم لغياب العدالة الاجتماعية والثورة ضد قبائلهم أو مجتمعهم يجعل أعمالهم الشعرية تحمل طاقة إيجابية تفتح ما أغلقته الإيديولوجيا. بمعنى آخر، يكون الظلم الاجتماعي والتفرقة بين أفراد القبيلة ممارسةً إيديولوجيةً تسعى إلى إغلاق المجتمع، لكن خروج الصعاليك على قبائلهم وحثهم على تلك الممارسة في شعرهم يعطي نصوصهم الإبداعية طاقة إيجابية تكافح الطاقة السلبية (الإيديولوجيا) التي تتحكم في المجتمع.

من الجاهلية إلى الإسلام
Adab1جاءت حركة الصعاليك وثورتهم ضد ظلم المجتمع الجاهلي كحلقة وصلٍ مهدت الطريق لظهور المجتمع الإسلامي المثالي في عهد النبوة. لقد حرك شعراء الصعاليك عجلة التاريخ ليتقدَّم نحو ظهور مجتمع يتميز بالعدل والمساواة فليس هناك مجتمع إنساني عدل بين جميع الناس غير مجتمع النبوة. ولأن العدل والمساواة أهم مطالب شعراء الصعاليك، فإننا ننظر إلى تلك المطالب باعتبارها دوافع نحو مجتمع طوباوي يحقق شروط الحياة المثالية. تلك المثالية التي ظهرت في مجتمع النبوة تُظهر حركة التاريخ العربي من المجتمع الجاهلي التي تحكمت فيه إيديولوجيا العنصرية والتخلف الاجتماعي إلى مجتمعٍ انفتح فيه ذلك الانغلاق الإيديولوجي لتبرز بواعث اليوتوبيا والمجتمع الإنساني المثالي.

لن تتحقق اليوتوبيا – حسب الرؤية التي تؤمن بإمكانية تحققها – إلا بشروطٍ لعل من أهمها التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع. وفي شعر الصعاليك ظهر الإيثار كباعث أو دافع للحصول على مجتمع مثالي، حيث أكد الشعراء على أهمية الإيثار في نتاجهم. وعمل تصويرهم الشعري للإيثار كدافع للناس نحو العيش في مجتمع مثالي. على سبيل المثال، يقول الشنفرى:

وَإنْ مُـدَّتِ الأيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أكُـنْ
بَأَعْجَلِهِـمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ

وفي السياق نفسه يأتي تأكيد الإسلام على أهمية الإيثار في بناء المجتمع البشري دليلاً على تأثير بواعث اليوتوبيا في شعر الصعاليك على ظهور المجتمع الإسلامي المثالي الذي كفل حق الفقير قبل الغني وحق الضعيف قبل القوي.

على المستوى الفني، يمكن اعتبار البناء الشعري عند الشعراء الصعاليك باعثاً طوباوياً يوحي بتوحيد المجتمع وبث روح التكافل الاجتماعي بين أفراده. وكأن الشعراء الصعاليك يقولون إنه بالوحدة الاجتماعية يمكن للناس الحصولُ على مجتمع مثالي. ولذا يقدِّمون نموذجاً للوحدة ظهر في البنية الشعرية. ولسان حالهم يقول بأن الثورة على شعر الأسلاف والأجداد الذي لم يتسم بالوحدة العضوية إنما هو نموذج يمكن محاكاته في التغيير الاجتماعي.

النص وظروفه الاجتماعية
ILLUSTRATION6ويحمل البناء الشعري في داخله أيضاً عملية توسطية بين النص وبين ظروفه الثقافية والاجتماعية. تلك العملية التوسطية تتضمن عند أغلب الشعراء الصعاليك سمة شبه سردية، ساعدت في بث بواعث بين أفراد المجتمع للسعي نحو مجتمع مثالي. أي إن الروح السردية عند الشعراء الصعاليك عكست العلاقة بين النص والظروف الاجتماعية التي نشأ فيها النص. كذلك يمكن اعتبار الروح السردية دافعاً طوباوياً للحصول على مجتمع مثالي، إذ يظهر تأثير ذلك البناء الشعري غير المألوف عند الجاهليين في شعر الصعاليك كدلالة توحي بتطور التاريخ من المجتمع الجاهلي الذي يهتم بالشعر كثيراً إلى مجتمع إسلامي أهم دعائمه السرد أو النثر الذي ظهر في الأحاديث النبوية الشريفة.

أخيراً، فإن الحصول على مجتمع مثالي أشبه ما يكون مستحيلاً. والأعمال الأدبية والثقافية التي تسعى لتصوير ذلك المجتمع اختلفت في نهجها وتباينت في تناولها، فمنها ما صوّر مجتمعاً مثالياً خالياً لا يمت للواقع بصلة، ويمكن أن نسمي تلك الأعمال أعمالاً طوباوية. لكن هناك أعمالاً أدبية وثقافية عملت على تصوير دوافع وحوافز تحث البشر نحو الحصول على مجتمع مثالي يكون بديلاً للمجتمعات الآنية، وهذه الحوافز أو الدوافع تمثل النقطة الرئيسة عند نقاد الأدب والثقافة، لأن تلك الدوافع الطوباوية تسعى لتحرير المجتمعات من عُقد الإيديولوجيا التي تسعى للتحكم بالبشر أو كما عرَّفها الناقد الفرنسي ألتوسير بقوله إن «الإيديولوجيا هي تلك التصورات التي تسعى لتشكيل الذات البشرية»، أي إن الإيديولوجيا تمنح الفرد صفته الشخصية.

الدوافع والحوافز التي ظهرت في شعر الصعاليك جعلتهم يسعون للحصول على مجتمع بديل للمجتمع الجاهلي الذي كان يعاني الظلم الاجتماعي. لذا نجد أن الخروج على القبيلة – في حد ذاته – حافزٌ للإنسان العربي في عصر الجاهلية نحو الحصول على مجتمع يكفل العدالة الاجتماعية. أيضاً، صوّر الشعراء الصعاليك دوافع طوباوية للبشر تجعلهم يتخلصون من العقدة الإيديولوجية في المجتمع الجاهلي، كان من أهمها الإيثار، والأخذ من الأغنياء لإعطاء الفقراء، والعمل الجماعي.

أضف تعليق

التعليقات