حياتنا اليوم

عربيّة بين التطور والتدهور

  • 66a
  • 58a
  • 60a
  • 62a
  • 65a

بين حين وآخر، يصطدم جيل الآباء أو المسنين عموماً، بأبنائهم يستخدمون في أحاديثهم معهم مفردات غريبة غير مفهومة، تبدو كأنها آتية من لغة أجنبية، وقد تكون كذلك فعلاً في بعض الحالات. ولو أنصت هؤلاء الكبار إلى أحاديث الشباب فيما بينهم، لهالهم عدد المفردات الغريبة هذه.
فريق التحرير جمع إسهام كل من ابتسام محمد1 من السعودية وأمينة خيري2 من مصر وزياد سحّاب3 من لبنان عن لغة الشباب، التي يفترض أن تكون العربية العامية، لكنها تبدو وكأنها عربية عصف بها إعصار أو تعرضت لوابل من أمطار النيازك التي سقطت عليها من أماكن مجهولة.
قبل أن نبدأ بـ محاكمة الشباب على اللغة التي يتحدثون بها وما أدخلوه عليها من مفردات ليست غريبة عن قواميسنا فحسب، بل عما يمكن لآبائهم أن يفهموه أيضاً، نتوجه بالسؤال إلى هؤلاء الآباء الذين تراوح أعمارهم اليوم بين أربعين وستين سنة لنسألهم: ألم تستعملوا في شبابكم كلمات مثل شبّيح و فنّاص للإشارة إلى الشخص المتبجح بشيء غير حقيقي؟ أو خنْتريش للشيء المبتذل والرخيص؟ أولم تعَرّبوا كلمة gigolo الإنجليزية لتصبح عندكم جغَلْ للإشارة إلى الشاب الذي يسعى دوماً وراء الفتيات؟ .

ليس انتشار مفردات غريبة على اللغة الفصحى والمحكية، ظاهرة جديدة ولا قضية تطرح على بساط البحث أول مرة. إلا أنها تبلورت خلال السنوات العشر الماضية، على نحو أكبر وأوسع. فأخذت الألفاظ الغريبة في التنامي والانتشار، وزادت جاذبيتها بين فئات الشباب المختلفة من الجنسين، ومن شتى المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية المختلفة. فاللغة الجديدة لا تعتمد الألفاظ الشعبية التي تستخدمها الفئات الدنيا في الهرم الاجتماعي على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي، كذلك ليست حكراً على طبقات النخبة. ولكنها، ولعل هذه إحدى ميزاتها، نجحت في صهر الشباب من كل هذه الطبقات في بوتقة شبابية واحدة من خلال تعزيز رابطة الكلام المتبادل والموحد بينهم.

بدأ الأهالي ينتبهون إلى ما يحدث. فالأب الذي يسترق السمع إلى مكالمة ابنه الهاتفية في إطار الرقابة، يكاد لا يفهم شيئاً مما يقال. وكذلك الأم التي تستمع إلى ابنتها وهي تتحدث إلى رفيقاتها. وتسلل عدم الفهم هذا إلى أوساط المدرسين والمربّين. حتى صارت لغة الشباب هماً من هموم الأهل، يضاف إلى هموم التدريس الخصوصي والمجموع المُحرَز في الثانوية والمصاعب الاقتصادية وما شابه. كذلك باتت تستنفر الخائفين على سلامة لغة الضاد، من الاندثار تحت وطأة اللغة الخمفشارية (اللفظ الذي يطلقه الشباب على اللغة والألفاظ التي لا معنى لها). ومع إمعان الكبار في التعبير عن رعبهم من اللغة الجديدة، وإسهاب الخبراء في التنظير والتحذير من انتشار هذه اللغة الشبابية وكأنها غول سيأتي على حضارتنا، أمعن الشباب كذلك وأسهبوا، ربما برد الفعل، في التحدث بلغتهم، لا بل تمادى بعضهم حتى بلغ محاولة التدوين.

بعض المفردات والتعابير
لو بدأنا بالشباب السعودي على سبيل المثال، للاحظنا أنه يستخدم كلمات ومفردات، بعضها جديد ولا مثيل له في أي قاموس، وبعضها عربي، ولكن السياق الذي تَدرُج فيه يعطيها معنىً مختلفاً تماماً.

فما معنى أن تصف الشيء بأنه أبو كلب؟ وما معنى أن يطلب منك شخص أن تعطي جنط لشخص آخر؟ ومن ابتكر كلمات مثل دافور الإشارة إلى الشاطر، و هسهسة لتأدية معنى الانشراح؟

قد يكون بعض هذه التعابير مرتبطاً ببيئة جغرافية محدودة، وله ما يقابله في منطقة أخرى. فعبارة إديلو جنط المستخدمة عند شباب المنطقة الغربية من المملكة، ترادفها عبارة عطه خير في المنطقة الشرقية، وكلا العبارتين يعني: لا تأبه له أو: لا تهتم به. وكلمة مزة عند شباب جدة، ترادفها كلمة كنديشن في الرياض للإشارة إلى الفتاة الجميلة.

غير أن هناك لغة مشتركة بين كثير من الشبان على اختلاف المناطق التي ينتمون إليها: حركات، وناسة، فلة، وكول، وغيرها.

ليست لغة الشباب السعودي مقصورة على الجنس الخشن. بل يتحدث بها الذكور والإناث على السواء مع بعض الاختلاف البسيط. فالبنات يملن إلى استخدام الكلمات الرقيقة على اللفظ مثل لول و حماس و فلة و نايس و كيوت و كول و عسل وغيرها. لكنهن يفهمن الألفاظ الخشنة مثل أبو كلب ، انبلق ، أعطيلو جنط ، اطبعو ، وغيرها.

والواقع أن بعض المفردات مشترك بين الشبان السعوديين وغيرهم من الشبان العرب. فكلمة كول التي تعني جيد أو على سجيته مستخدمة في مصر ولبنان أيضاً.

في مصر، يمكن للمراقب أن يجمع معجماً كاملاً من مفردات الشباب التي لا يعرف مصدرها: الاستكانيس وتعني الراحة والطمأنينة، و ظرفه أي أعطاه ظرفاً أو رشاه، و استمورننج وهي كلمة تقال في الصباح للإشارة إلى تناول الفطور أو شرب الشاي ليفيق الشاب من نعاسه، فيقول: ها روح أعمل استمورننج على الأهوة وجاي .

غير أن الشبان المصريين تفوقوا على أقرانهم من البلدان العربية الأخرى في تركيب جمل خاصة بهم، تحولت إلى محطات كلام، تعني أمراً واحداً، مثل: اختفي شوية و احلق له و ضربها طبنجة هي مجرد دعوات للابتعاد عن مشكلات الحياة وتناسيها. و سلكني المسائل أي سهل الأمور عليّ، جيب من الآخر أي اختصر، العوء أي المشكلات، و بهيظنا الفهايص أي أطلنا حتى غاب الجميع عن الوعي.

ونصل إلى لبنان لنجد مثلاً ثالثاً. نجد القضية تبلغ حدودها القصوى، ولربما جمعت لغة الشباب اللبناني من المفردات الغريبة ما يبلغ أضعاف مجموعها عند الشباب السعودي والمصري مجتمعين.

ففي لبنان يندر أن يلقي عليك أحد الشبان السلام أو يحييك بالعربية، أو حتى بعبارة مرحباً، إذ حلت محلها التحية الأمريكية هاي . وأيضاً للتعبير عن الشكر تسمع ثانكس . وينادي الشاب صديقه بكلمة يا مان الكلمة الإنجليزية التي تعنى رجل . وإذا شاء أن يصفه بأنه ظريف قال عنه سلبي ، أمّا مجنط فتعني أنه مفلس، و مدبرس تعني أنه مكتئب (من كلمة depression بالإنجليزية). وعندما لا يريد الشاب أن يعصر ذهنه للعثور على اسم شيء معين فإنه يسميه حَفَنْكَليش أو الفِشِنْكاحْ ، أو سكالنس . ويمكن استخدام هذه الكلمات الثلاث لتسمية أي شيء بدءاً بالكتاب وانتهاءً بالبيت أو الجامعة. أما عبارة احلق له التي تعني في مصر تلافى همه ، فتعني في لبنان: تخلص منه.

القيم الاجتماعية عند حافة اللغة
نعود إلى مصر، لنشير إلى انتعاش موجة الأفلام السينمائية التي قام ببطولتها الفنان محمد سعد صاحب شخصية اللنبي الشهيرة، في السنوات الخمس الأخيرة. وقد بنى سعد شهرته في صفوف الشباب معتمداً على طريقة نطقه الغريبة ألفاظاً وكلمات لا أصل لها في أي من قواميس اللغة. وأدهى من الكلمات الجديدة التي ابتدعها اللنبي وانتشرت بين الشباب حديثاً، الحِكَم والأقوال التافهة التي صارت مأثورة، وتبدي قدراً غير قليل من انقلاب القيم والمعايير التي يتناقلها الشباب على سبيل الدعابة (غير المضحكة إلا في صفوفهم)، مثل الجملة التي رددتها والدته في الفلم وهو متجه إلى امتحان محو الأمية قلمك في إيدك، مطوتك في جيبك، عينك على ورقة رفيقك !

ومن دون أن ننجرف من حديثنا عن لغة الشباب إلى الحديث عن قيمه، نشير إلى ما يقوله عالم الاجتماع المصري الدكتور عزت حجازي إن هذه الأعمال الدرامية من مسلسلات وأفلام يفترض أن تكون هزلية، وبالتالي تضحك من يشاهدها. والنسبة الكبرى من مشاهديها من الشبان والمراهقين. إذ هم يضحكون لها، وعندما يضحكون تتعزز صورها في مخيلتهم، وتتحول بطريقة غير مباشرة إلى جزء من ثقافتهم المختزنة التي تعبر عن نفسها بالقول في مواقف معينة. كذلك لا يمكن إنكار أثرها في تكوين شخصياتهم وأفكارهم وثقافتهم على المدى الطويل .

محاولات تدوين؟!
هناك لغة مكتوبة يعرفها الشاب السعودي وكذلك اللبناني والمصري، ألا وهي اللغة المستخدمة في الرسائل الإلكترونية ورسائل الهاتف الجوال. فالتواصل الإلكتروني بين عربي في الرياض وآخر في كندا مثلاً، يفترض استخدام الأحرف اللاتينية لأن أجهزة الحواسيب في كندا غير مزودة أحرفاً عربية. وهكذا ظهر الحل عبر لغة ثالثة هي العربجليزية . وفي هذه اللغة المستنبطة التي تكتب بالأحرف اللاتينية ما يماثلها صوتياً في اللغة العربية، تحل الأرقام محل الأحرف العربية التي ليس لها مماثل صوتي في الإنجليزية فحرف الحاء= 7، والطاء=6، والظاء=’6، والصاد=9، والعين=3، والخاء=5، والقاف=8، وهكذا.

وعندما يتسلَّم شخص غير متمرس جداً بالرسائل الإلكترونية العربجليزية، فعليه أن يكافح كأي طفل في السادسة من عمره ليتمكن من تهجئة الجملة حرفاً حرفاً وليفهم فحواها. ناهيك بالاختصار المسوّغ لا سيما في رسائل الجوال لتوفير التكلفة والوقت فتحذف من الكلمات الإنجليزية بضعة أحرف مثل because التي تصبح coz، وyou are تصبح UR وهكذا.

ولكن إذا كان للغة الإلكترونية ما يفسِّر عبثها باللغة بحجة الوسيلة وضغوط تدفع إلى ذلك، فالمؤكد أن محاولة الشبان ترسيخ أسس لغتهم أو لغاتهم الخاصة تَدرُج في إطار الفعل المتعمد لأسباب كثيرة، ليس للضغوط ولا للتكنولوجيا أي أثر فيها.

من العصفوري إلى الروشنة
في مصر، تسمى لغة الشباب بلغة الروشنة . وقبل عام، خرج صحافي شاب يدعى ياسر حماية بقاموس خلص بهذه اللغة حمل عنوان قاموس روش طحن .

يقول مؤلف هذا القاموس إنه وجد أن الشباب اختار لنفسه ألفاظاً مبتكرة مختلفة لكي تعبر عنه وعن حبه وحياته وأفكاره وآماله وأحزانه. وهو رأى لغة الروشنة هذه: كائناً ينمو مع الأيام، ويحتاج إلى الرعاية والتربية والثقافة والجهل والغبار والاستظراف، ونكتة حلوة ونكتة بايخة، وعمل وبطالة وحب وكراهية . هذه الأغراض العجيبة التي ذكرها، حماية لنمو اللغة الجديدة وازدهارها هي عنده المواصفات المطلوبة من الكائن اللغوي من أجل نموه وتضخمه وليمتلئ بقوة الشباب وحماسه !؟!

أما في لبنان فهناك لغتان متكاملتان قابلتان للكتابة بشرط احترام القواعد الخاصة بهما. أولى هاتين اللغتين هي العصفوري ، التي سميت كذلك لأن وقعها على الأذن يشبه زقزقة العصافير استناداً إلى رواية أنصارها. ولهذه اللغة قواعدها الخاصة وأصولها. فكرتها الأساسية إضافة حرف الزاي بعد كل حرف مد في الكلمة، ومن ثم تكرار حرف المد نفسه بعد حرف الزاي، أو يوضع حرف الزاي بعد الحركة ويضاف إليها حرف مد بعدها يكون وفق الحركة، مثل حرف الألف للفتحة، والواو للضمة والياء للكسرة. فكلمة لغة مثلاً تصبح في العصفوري لُزوغَزا . أما إذا كانت الكلمة منوّنة لغةٌ تصبح في العصفوري لزوغزاتزن . ولا أحد يعرف من الذي اخترع هذه اللغة ووضع قواعدها. ولكن المعروف أنها شاعت كثيراً بين تلاميذ المدارس، وتحولت إلى لغة مكتوبة ليحافظ هؤلاء على سرية ما يكتبه بعضهم لبعض، بعيداً عن أعين الأهل والأساتذة وفهمهم على السواء. غير أن مكانتها تراجعت بعض الشيء في السنوات الأخيرة حسبما يروي الشبان أنفسهم. ويبدو أن هذا التراجع لم يكن في وجه الفصحى بل لغة أخرى هي الشقلوب .

الشقلوب هي كلمة عامية تعني المقلوب ، وهي تطلق على اللغة القائمة على قلب أحرف الكلمات التي تكتب بدءاً بحرفها الأخير. ولهذه اللغة ثلاث طرق للتطبيق: الأولى هي قراءة الكلمة من اليسار إلى اليمين مع نقل حركة الحرف معه، والطريقة الثانية هي في قراءة الكلمة بالمقلوب مع الإبقاء على الحركات في موضعها الأساسية فكلمة لُغَة تصبح تُغَل . أما الطريقة الثالثة فهي ألا تكون هناك طريقة ثابتة: المهم أن نفهم بعض ، كما يقول الشباب أنفسهم.

ليست بالضرورة شيفرة سرية
وما الذي يريده الشباب أن يفهمه من بعضه ؟
ما إن يستشعر الأهالي أن ثمة ما هو غير مفهوم في كلام ابنهم أو ابنتهم (أو حتى في تصرفهم)، حتى تذهب أفكارهم نحو أقصى احتمال سوءاً. فلو لم يكن موضوع الحديث معيباً لما كان هناك ما يوجب التكتم. هذا ما يعتقده الأهل، وإن كانت هذه الظنون والوساوس طبيعيّة ونابعة من الحرص على حسن سلوك الأبناء، فإنها ليست بالضرورة على حق دوماً.

فلغة الشباب لغة مستخدمة عموماً بعيداً عن مسامع الأهل، عندما يكون الشبان وحدهم. وليس محتملاً أن يتحدث شاب إلى زميـــله عن أمر معيب على الهاتف وهو يعلم أن والده ربما يستمع إلى حديثه. فلغة الشباب ليست رموزاً لنقل الرسائل السرية كما قد يعز على بال المتشائمين أن يتصوروها أو يصوروها، حتى لو استخدمها بعضهم كذلك في بعض الحالات. إنها طريقة للتعبير، شاءها الشباب مختلفة عما تلقنه من أهله وفي المدرسة. وضمن هذا الوصف العام، هناك من يستعملها للفت الانتباه إليه، أو إدعاء المعرفة أو إثبات المقدرة الكلامية وخفة الظل، أو زعم الانفتاح على الحياة الاجتماعية في أوروبا وأمريكا، وما إلى هنالك.

من أين أتت هذه اللغة؟
قبل الاسترسال في أي تحليل، لا بد من السؤال: ما هي المصادر التي يستمد منها الشباب هذه المفردات، أو يخترع منها معاني جديدة لمفردات قديمة؟

تروي فتاة سعودية عن إحدى صديقاتها أنها أخطأت مرة في كتابة كلمة شوكولاتة بينما كانت تحادث صديقتها عبر المسنجر ، فكتبت لاتة بدل شوكولاتة. وعندما تنبهت إلى الخطأ وأخبرت صديقتها، أجابتها هذه: أتعرفين؟ أستطيع في ظرف شهر واحد أن أجعل كلمة لاتة البديل عن كلمة شوكولاتة ، أتتحدينني؟ .

لا، لا عاقل يجرؤ على تحدي هذه الآنسة، لا سيما إذا قارن أدواتها والمناخ الذي يمكن أن تحقق فيه مسعاها بهشاشة المكانة التي تحتلها الفصحى في صفوف الشباب.

كثير من مفردات الشباب ابتُكر بالصدفة. ففي موقف معين تقال كلمة عن قصد أو عن غير قصد، فتكون معبرة أو مضحكة أو متميزة بإيقاع جميل على الأذن، فتعلق في الأذهان، وتقال مباشرة لاحقا ومن غير تخطيط عند التعرض لموقف مشابه.

وتلعب شركات الإعلان دوراً مهماً في الترويج لبعض المفردات والألفاظ جذباً للشباب، مثل حركات و كول و رهيبة و شوربة وغيرها.

أما التأثير الذي قد يكشف عن جانب سلبي في لغة الشباب، فهو في الكلمات الإنجليزية التي دخلت كما هي على عامية الشباب العربي مثل كول و مان و واتس أب؟ وما شابه.

فالكثير من برامج التلفزيون عرض أمام الشباب العربي المنهك ببرامج مدرسية متخلفة ومناخ أمني وسياسي مُرهِق (كما في لبنان تحديداً)، وبأوضاع اقتصادية صعبة، صورة للشباب الأمريكي المرح السعيد دوماً والذي يعيش في بحبوحة، ويحسد على مشكلاته المحدودة التي تلقى الحل فوراً. (ولعل مسلسل فرندز (أصدقاء) الذي عرض على مدى ست سنوات أو أكثر، صورة نموذجية لهذه البرامج). فارتسمت في لاوعي الشباب العربي المشاهد، رغبة في التقرب من هذا العالم الجميل الخالي من الهموم. ولما لم تكن هناك من وسيلة للتقرب فعلاً وحقيقة من هذا المبتغى، تصور البعض (عن وعي أو من دون وعي) إن استعارة بضعة كلمات من لغة الكرام قد تختصر شيئاً من المسافة الطويلة الفاصلة بينه وبينهم.

حوار الطرشان بين الأجيال
تسهم القضية التاريخية المسماة صراع الأجيال، في تأجيج المواجهة بين الأهالي والمسنين من جهة والشباب من جهة أخرى، في شأن اللغة التي يستعملها هؤلاء. وتتغذى هذه المشكلة من اختلاف طبيعي بوجهة الاهتمام والأولويات والهموم. وكلما اتسعت الفجوة بين الجيلين اندفع الشباب أكثر نحو ابتكار لغته الخاصة بعيداً تماماً عن عالم الكبار، وكأنه يريد المزيد من الحدود الفاصلة عن جيل آبائه. وكلما اشتم رائحة غضب الكبار وغيظهم من هذه اللغة تفنن في الإغراق في استخدامها.

وفي مقابل ذلك، يبتعد الكبار، مع انغماسهم في ما يعتري حياتهم من هموم، شيئاً فشيئاً عن عالم أبنائهم واهتمامهم، ويتصورون أن هذه اللغة سلاح يستخدمه الصغار لإغاظة الكبار، أو حتى لتنبيه الكبار إلى وجودهم في هذا العالم. تقول امتثال ثروت خبيرة علم النفس التربوي إن الصغار من شبان ومراهقين يلجأون إلى ابتداع كل عجيب وغريب، ومنها لغة الروش طحن لإعلان رفضهم أسلوب تعامل الكبار معهم وهو أسلوب يقتصر عادة على مجموعة من الأوامر والنواهي، وهذا ما يرفضه الأبناء لانتمائهم إلى فئة عمر معروفة بالميل الطبيعي إلى التمرد، أو على الأقل عدم سهولة تقبل الأمور غير المقنعة لهم.

اللغويون مذعورون أيضا
وليس الأهالي وحدهم في قلق من لغة الشباب. فهناك اللغويون الذين ينقلب القلق عندهم إلى ذعر من هذه اللغة الخمفشارية وآثارها المحتملة في اللغة العربية واستخدامها الصحيح، هذه اللغة التي تعاني أصلاً هزات قوية، تارة تحت وطأة منظومة الإعلام وعدد كبير من أدواته الرخيصة، وطورا بسبب تدني مستوى تدريسها وتلقينها في المدارس والجامعات. وقد وصل الأمر في مصر إلى تنظيم ندوات وبرامج تلفزيون وورش عمل تحت شعارات حماية لغتنا العربية من الهجمة الشنعاء ، و لغة الضاد مهددة بالفناء ، وغير ذلك من صرخات الإنذار المخيفة التي ترى في هذه الكلمات والمفردات خطراً على الحضارة والثقافة.

وما الذي يقوله الشباب
عن لغته بلغته؟
لو استعرنا لغة الشباب المصري على سبيل المثال للتعبير عن موقف الشباب العربي عموماً حيال ما يساق ضده وضد لغته من تهم، لسمعناه يقول شيئاً يشبه ما يلي:
ليس صحيحاً أن الشباب ما لوش في النظام (أي ان الشباب ليسوا عاجزين عن لغة الحوار البناء) وهو كذلك لا يحوكس (أي يدعي البلاهة). الشباب يطالب بعدم إغلاق الأبواب على أصبعه (أي عدم الإمعان في الغضب منه أو افتعال الثورة ضده). ويكفي أن حياته أغلبها سكح مراجيح على الضيق (أي أن معيشته كلها ضيق نفسي وتعب)، وهو يحاول بين الحين والآخر أن يجيب لوَرا (أي يتراجع نتيجة الضغوط ويعيد التفكير في وضعه الحاضر). هذا التفكير ينتج أحياناً إما من أن يعلن فراره (أي ينسحب من الساحة تماماً) أو أن يثبت لنفسه ومن حوله أنه شاب البرومة ماداستلوش على رفرف (أي انه عنوان للشرف والنزاهة ورجاحة العقل)، أو يجد نفسه في الهزيع (أي يهديه تفكيره إلى فكرة جديدة تماماً قد تحسن حياته ووضعه). وقد يجد الشاب أيضاً نفسه في الأونطة (أي انه يعيش في عالم لا يمت إليه بصلة) أو انه في الهشوم (أي غارق في الوهم والخيال). ربما نجح الشباب في أن يبهيظ الفهايص ولكنه حتماً في حاجة ماسة إلى من يضع يده على البلف (أي من يلمس جوهر المشكلة) وليس الجعجاع (أي من يصرخ ويهدد دون تصرف فعلي).

ودفاع آخر عن الشباب
وبلغة من هم أقل شباباً، يقول علماء النفس إن اللغة والتفكير وجهان لعملة واحدة. وإن اللغة وسيلة للتعبير عن التفكير. وكلما كانت هذه الوسيلة مرنة، تمكن صاحبها من التحكم بها على نحو تلقائي، وتمكن بالتالي من أن يعبر عن أفكاره تعبيراً أوضح. لذا، فمن حق الشباب أن يكون صاحب القرار في انتقاء المفردات التي تريحه أكثر من غيرها. ولذا أيضاً نجد أن ابتكار ألفاظ وكلمات جديدة ظاهرة عالمية. ففي ألمانيا مثلاً تنتشر بين المراهقين ألفاظ وكلمات غير ألمانية، مثلاً كلمة يلاّ العربية، التي تعني هيّا . لقد نجحت هذه الكلمة في اختراق قاموس اللغة الألمانية، وأصبحت تتردد على نطاق واسع على الرغم من اعتزاز الألمان بلغتهم وتمسكهم بها. فالظاهرة ليست مقصورة على السعوديين ولا المصريين ولا اللبنانيين، بل هي ظاهرة عالمية تتغذى من مستجدات الحياة اليومية بكل ما فيها من أدوات ومفاهيم، لم تكن مألوفة في الماضي، وما كانت لها أسماء ملائمة، وتعزز وسائل الاتصال المتكاثرة والمتطورة من انتشارها.

هجوم الكبار المضاد
لا يتأخر الكبار كثيراً في شن هجوم مضاد على كل من يدافع عن الشباب ولغتهم. وبدلاً من التفكير بما سمعوه من أبنائهم والتفاعل معه بروح منفتحة سعياً في إصلاح الخلل حيثما هو، نرى مساعيهم تكاد تقتصر على تفنيد الحجة بالحجة. فيقولون إن دخول كلمة عربية إلى لغة الشباب الألماني لا تقارن بدخول عشرة آلاف كلمة إنجليزية على لغة شبابنا! ويسألون إذا كان تلاميذ الثانويات الأمريكية أو الجامعات الفرنسية تلهوا باختراع لغة مثل العصفوري أو الشقلوب ؟ ويهز اللغويون رأسهم بالموافقة. وهم كلهم ليسوا على خطأ تماماً.

فالمرجح أن لغة الشباب عندنا تتضمَّن من ضخامة الحجم على حساب اللغة العربية السليمة (الفصحى والعامية) ما يجعلها موضع شكوك في شأن سلامتها، أو صدقها في التعبير الذي يجب أن يكون عفوياً
لا مصطنعاً لتقليد من نعتقده مثلاً أعلى. ولا شك أيضاً في أن القسم الأكبر من مفردات الشباب
لا تتعدى إطار الموضة ، أي ما يروج استعماله بعض الوقت ثم يندثر. وإن كانت مراقبة تاريخ اللغات الحية تؤكد أنها كلها مفردات مستنبطة من لغات أخرى، ودمجتها في قواميسها الرسمية لاحقاً. ولهذا فإن محاكمة لغة الشباب إذا كان هناك ما يُوجب المحاكمة والتقييم والمحاسبة أو العلاج، فيجب أن تتناول كلاً من مفردات هذه اللغة على حدة، والبحث عن مصدرها وسبب اعتمادها ورواجها، وصدقها في التعبير والكثير غير ذلك، وعدا ذلك، يبقى الحوار حوار طرشان.

لا داعي لنصب المشانق
حتى لو سلمنا جدلاً بصحة كل انتقاد موجه إلى الشباب، فإن السخط عند بعض الأهالي والمسنين يصل إلى حد اتهام الشباب بما يتجاوز كثيراً مساوئ لغتهم الخاصة بهم. ويندر أن يسمع من يراقب هذه المسألة كلاماً بالاعتدال والثقة اللذين يميزان كلمات الأستاذ سيد أحمد مدرّس اللغة العربية في إحدى المدارس الثانوية في مصر منذ 34 عاماً. فهو يعترف بأنه كثيراً ما يتعرض لمواقف حرجة في الفصل، حين يبدأ الطلاب في مناقشة قضية ما بلغتهم الخاصة التي يفزع من ألفاظها المستخدمة، والأدهى من ذلك أنه لا يفهمها. لكنه يعود ويقول:
أحاول قدر الإمكان أن أعطي أولئك الأولاد العذر فيما يفعلون، بل أشفق عليهم في كثير من الأحيان. فوقت كنت في عمرهم كان لدي عدد من مصادر التواصل وموارد البحث عن المعلومات ومناقشة القضايا التي تشغلني، فالأستاذ في المدرسة كان صديقاً وأباً، وعائلتي الصغيرة كانت مهتمة بي وبإخواني وبتربيتنا، لا مجرد أكلنا وشربنا وتعليمنا، كذلك كان المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي منبئا بكثير من الأمل في المستقبل، حتى لو كان أملاً غير واضح أو مبالغاً فيه بعض الشيء. أما الآن فمعظم الشباب يعيش في خواء كامل، وهذا الخواء ليس طبيعياً، وهو كذلك مثبط للهمم وقاتل للطموح. وأجدني متقبلاً لردود فعل الشباب سواء لغتهم العجيبة أو تصرفهم غير المقبول .

ولا يرى الأستاذ سيد أحمد أن هذه اللغة مهددة للغة العربية، إنها لغة راسخة تماماً. فهي لغة القرآن الكريم، وهي إن كانت تتعرض أحياناً لهزّات، فذلك بسبب التراخي والإهمال في تدريسها وتنمية حبها واستخدامها بين الصغار، أي انها خطأ الكبار ، فلا داعي إذن لنصب المشانق .

أضف تعليق

التعليقات