قضية العدد

الشجرة في
المدينة

  • 19d
  • 19e
  • 19f
  • 20a
  • 21a
  • 12a
  • 13a
  • 15a
  • 16a
  • 17a
  • 19a
  • 19b
  • 19c

أدى الاهتمام بجمال المدن الحديثة وبتحسين الحياة فيها إلى انتشار الاقتناع بأن للتشجير والمساحة الخضراء في هذه المدن دوراً مهماً في هذا المجال. ولكن هذا الاقتناع الذي لم يعد ثمة من يعاكسه، لا يطال من جبل الجليد إلا ما يطفو منه على سطح الماء. فالشجرة في المدينة قضية. والأصح أن نقول إنها مجموعة قضايا تتجاوز موضوع الجمال، لترتقي في بعض أوجهها إلى المستوى الثقافي والحضاري، ناهيك ببعدها البيئي، والتعامل معها الذي أصبح عملاً مستقلاً في ذاته، كما يُظهر هذا البحث، الذي اشترك في إعداده كل من سلمى سماحة وأحمد عثمان وهناء حداد، مواكبة ليوم المدينة العربية الذي يصادف الخامس عشر من مارس، وأسبوع الشجرة الحادي والثلاثين الذي ينطلق في الثامن عشر من مارس.
تتعدَّد معايير الجمال حول العالم، لكن يبدو أن المدينة الخالية من الشجر بشعة وفق كل المعايير. حتى أن مشاريع العمران الضخمة تحرص دوماً في رسوم الترويج على إظهار مبانيها وكأن موقعها في جنة عدن.

وأول ما نفكِّر فيه أمام هذه الرسوم، أن المهندس مصرٌ على إقحام الشجرة في موقف حميم مع عدوتها اللدود. ولكن هل المباني فعلاً على عداوة مع الشجرة؟ إنَّ الرسوم هذه طأطأةٌ لرأس المبنيّ أمام المزروع، فيها يعترف الأول للثاني: «مهما كنتُ جميلاً، فلن أكون جميلاً من دونك».

من الريف المفقود إلى المدينة الراقية
لقد وَعَت مدن العالم المتقدِّم هذا الأمر باكراً، فلم تتركه يغيب عن بصرها أصلاً. ونذكر في هذا السياق مدينة لندن إبان القرن التاسع عشر. لقد شهدت لندن موجةً هائلة من النزوح إليها آنذاك، فاستقبلت عدداً هائلاً من الناس تركوا قراهم في سبيل العمل في المصانع. وكانت لندن الثورة الصناعية هذه المسرح المثالي لثنائية الريف – المدينة، كما ندرسها اليوم. وقد تألفت من غرباءَ تجمعهم صدمة العمران والحنين إلى الريف. وكان أحد الحلول المتعددة التي وُجدت لهذا النزوح من الريف، موجة إنشاء مساكن مبنيّة في حلقاتٍ كبيرة، مطلة جميعها على حديقةٍ كبيرة هي مركز الحلقة. كانت الحديقة الكبيرة هذه أشبه ما تكون بالحديقة العامة، إلا أنها مسيّجة ومزودة ببوابات، فلا يستطيع دخولها سوى قاطني المساكن المحيطة بها، الذين كانوا يحملون مفاتيح لبوابات الحديقة.

تطوَّرت هذه المساكن في حلقات تتوسطها الحدائق الصغيرة الخاصة، ورأيناها جميعاً في الأفلام الأمريكية، بعدما نقلها الأمريكيون عن البريطانيين، وأضافوا بعض التعديل عليها. ومن جهةٍ ثانية، كان كل من مدينتي لندن وباريس يكتشف حلاً آخر لمشكلة أنها مدينة غير مزروعة، هو الحدائق العامة، ونذكر في هذا السياق حديقة هايدبارك في لندن، وحديقة لكسمبورغ في باريس. الأولى كانت ميداناً لصيد الأمراء الإنجليز، والثانية كانت منذ بدايتها حديقة كلفت الأميرة ماري دو ميديتشي إنشاءها، المهندس المدني الفلورنسي توماسو فرانتشيني، وانتقلت الحديقتان من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة أثناء القرن التاسع عشر.

لعب الحنين إذن دوره في نشوء الحديقة في بريطانيا، وفي حالة حديقة لكسمبورغ كانت الحديقة نفسها تجسيداً لحنين الأميرة إلى حدائق صباها في بلدها الأم إيطاليا. لكن تجربة حديقة سنترال بارك في نيويورك، لم تكن حنيناً قدرَ ما كانت تعبيراً عن رغبة نخبة المدينة في ترقية مدينتهم إلى مصاف مدن أوروبا. ولهذا الأمر ثقله لأنه يعبِّر عن تحول جذري في دلالة شجرة المدينة؛ كانت تعني الريف المفقود، فصارت تعني المدينة الراقية، ولم يأتِ هذا من فراغ، بل هو واضح تماماً إذا ربطناه بتحليل بروفسور دانييل جانزن، أستاذ علم الأحياء في جامعة بنسلفانيا، في كتاب «قوة المكان»، الذي جاء فيه أن «الطبيعة، أياً كان تعريفنا لها، أكانت شجرة أم غابة كاملة، تقدِّم لنا جزءاً عريضاً من المعلومات التي يمكن للدماغ أن يستوعبها، وإن حططنا من قيمتها، فإننا نكون بذلك حططنا من التنوع الذي يمكن لأدمغتنا أن تحصل عليه. عندما نلغي الطبيعة من حياتنا، ننتهي من دون أن يكون لدينا إحساس حقيقي بالشم، بالسمع، بالرؤية. ويصبح التلفزيون واقعنا. ويمكن لنا أن نفعل ذلك، لكن التلفزيون ليس معقداً كفاية ليحفز أدمغتنا على العمل بالوضع نفسه الذي تدفعه إليها الطبيعة».

وبعد، فالشجرة في المدينة أكثر من رمز لرقي الإنسان (وإن كان هذا في ذاته سبباً أكثر من كافٍ للاهتمام بها)؛ هي أيضاً حاجة عملية وضرورة عيش يتزايد إلحاحها بتزايد العمران والتصنيع وانبساط المدن على وجه الأرض.

ثاني أكسيد الكربون ومثلثات الشارع
ولئن كنا جميعاً فهمنا أن قيمة التشجير الأولى في المدينة هي في كونه أداةً فعالة لخفض نسبة ثاني أكسيد الكربون فيها، فهذا لا يمنع أن نذكر بعض الأرقام المثيرة للاهتمام، التي تتدفَّق من منظمات البيئة بين الحين والآخر، وآخرها دراسة وضعتها منظمة فايرفاكس ريليف الأمريكية غير الساعية في الربح، والتي صورت فيها 57 مليون شجرة تنمو على مساحة تقارب ألف كيلومتر مربع، معدل أعمارها 18 سنة.

استخدمت المنظمة برنامجاً رقمياً لتقدير قيمة كل شجرة بالدولار، بناءً على الفوائد التي يجنيها المجتمع المدني منها، حسب الأبحاث العلمية. واحتُسبت الفوائد السنوية التي قدّرها فريق المنظمة بحساب ما كان المجتمع ليدفعه للحصول على المستوى ذاته من السيطرة على التلوث الجوي، والنزع البيئي للكربون، وتصريف مياه الأمطار، وحفظ الطاقة، إن لم تكن الأشجار موجودة.

فخلال سنة، على سبيل المثال، تمتص مساحة فدان (4 آلاف متر مربع) مزروعة شجراً ناضجاً من ثاني أكسيد الكربون مقدار ما تبثه سيارة حين تسير 41 ألف كيلو متر، وهذه المسافة أطول من مسافة الدوران حول الأرض. وفي الوقت نفسه الذي تمتص فيه هذه الأشجار هذا المقدار من ثاني أكسيد الكربون تبث من الأكسجين مؤونة 18 شخصاً تكفيهم عاماً كاملاً. على أن الأرقام هذه تتناسى أن ثمة علاقة عكسية بين أشجار المدينة ونسبة ثاني أكسيد الكربون، أبعد من امتصاص الشجر له. عندما تزداد الأشجار في مدينة ما، تزداد المساحة المظللة في هذه المدينة هي الأخرى، كذلك تنخفض حرارتها ويلطُف جوّها، وهذا بدوره يشجِّع الناس على التنقل سيراً على الأقدام لا بالسيارة. ومع انخفاض حركة السيارات، تنخفض نسبة انبعاث ثاني أكسيد الكربون أكثر، فيزيد انخفاض حرارة الشوارع ولطف جوها، وبالتالي استعداد الناس للمشي فيها بدل ركوب السيارة، وتصبح هذه دورةً حميدة لا مثيل لها.

من جهة ثانية، يعدّ الشجر موطناً لعصافير المدينة وحيواناتها، والأمر هذا في ذاته، قد لا يعنينا كثيراً للوهلة الأولى، بل قد يبدو مصدر إزعاج لبعضنا، إلا أن الغطاء النباتي والحيواني في المدينة هو حبل السُّرَّة الذي يربطها بمحيطها الريفي، أي ان المدينة -على غرابة الطرح- امتدادٌ طبيعي للريف أو الطبيعة، فإن انقطعت عنهما تحولت كائناً أشبه بجزيرة، وطبيعتها هذه لن تكون جغرافية فحسب، أي إن المدينة لن تصبح غريبة عن محيطها الجغرافي فقط، بل تصبح غريبة عن ماضيها، وهذا أمر لا يخلو من آثار اجتماعية وربما سياسية خطرة. ولمن لا تعنيهم الحيوانات ولا السياسة ولا علم الاجتماع، نضيف أن لاختفاء الغطاء النباتي – الحيواني من المدينة أثرين في حشراتها؛ أولاً، من دون شجر وحيوان تفقد الحشرات مواطنها الأولى، وتجد نفسها مضطرةً إلى اللجوء إلى بيوت البشر. وثانياً، تفقد متصيّديها الطبيعيين وتتكاثر على سجيّتها.

من علم النفس إلى علم الطاقة
أضف إلى ما تقدَّم أن اتصال الغطاء النباتي الحيواني إلى المدينة، عامل يفيد نفسية أهلها. وقد جاء في دراسة ستيفن كابلان، الأستاذ في جامعة متشيجن الأمريكية، عن تأثير المناظر الطبيعية في سلوك الإنسان، أدلة على أن المناظر الطبيعية تخلّص الأشخاص من ظاهرة تسمى علمياً الإرهاق العقلي، وهي حالة من أعراضها عدم القدرة على التركيز والاستيعاب بعد ساعات أو أشهر من العمل الذي يتطلب تركيزاً شديداً. كذلك أثبتت الدراسة أن هذه الحالة قد تنتهي نهاية مفاجئة، فور خروج المصاب بها من مكتب مزدحم إلى شارع تصطف على جانبيه الأشجار.

فإذا انتقلنا من علم النفس وما يقوله، إلى عالم الطاقة واستهلاكها، نشير إلى أن الأشجار، عندما توزَّع حول المباني توزيعاً استراتيجياً، تنشئ ظلاً يمكن أن يقلل تكلفة التكييف في المباني على نحو محسوس، وعدم حاجتنا إلى الطاقة ينقص من حاجتنا إلى مولدات الطاقة، ويقلل بدوره التلوث الناجم من هذه المولدات. ولربما يقلل الحاجة إلى بناء مولدات الطاقة أو على الأقل يطيل عمرها قبل الاستغناء عنها. وفي هذا السياق، تشير خدمات أبحاث الغابات الأمريكية إلى أن زرع الشجر والمحافظة عليه، يمكن أن يكون أقل تكلفة من بقية مناهج حفظ الطاقة. إذ إن شجرة عادية زُرعت لتظلل مسكناً، على سبيل المثال، ويبلغ ارتفاعها 8 أمتار تقريباً، يمكنها أن توفِّر %15 من الطاقة المستخدمة لتبريد هذا المسكن.

وما دمنا في الأرقام، حري بنا أن نعود إلى دراسة منظمة فايرفاكس ريليف، التي وجدت أن الشجرة قادرة على أن تضيف أكثر من 1000 دولار في خفض تلوث الجو ونزع ثاني أكسيد الكربون (أي في الإسهام في جهود العالم لتخفيف الاحتباس الحراري) وتصريف الباقي من مياه المطر وتقليل مصاريف الطاقة. وبحساب ما يمكن أن يقدِّمه مجموع الأشجار في المقاطعة فإن فايرفاكس وحدها تقدِّم ما قيمته 400 مليون دولار من فوائد البيئة كل سنة، دون أن ننسى تقدير قيمة الأشجار وهي نحو ثلاثة عشر بليون دولار.

هذه بعض منافع الأشجار العامة ضمن محيط المدينة. لكن للشجر بعض المنافع الخاصة، وفي استعراض ذلك سنتدرج من الاستعمال الأقل إلحاحاً، إلى ذلك الأشد إلحاحاً، ومما يتطلب مساحة كبيرة إلى ما يتطلب مساحة صغيرة.

الحدائق العامة وقضية الجذور
نبدأ بالحدائق العامة. فهي رئة المدينة، لأن تركيز الأشجار فيها مرتفع إذا قورن مع باقي المواقع، وهي مواقع التشجير الوحيدة الخالية من مشكلة الجذور. فإحدى أكبر المشكلات التي تعترض المدن الراغبة في تشجير نفسها، هي في السؤال: «وماذا سنفعل بالجذور؟»، ذلك لأن حجم الشجرة، لا سيّما فروعها، متوازنٌ مع حجم جذورها. فبنمو الشجرة نفسها صعوداً لا تنفك جذورها تنمو أعمق وتزداد تشعباً. إلى هنا، والصورة جميلة. ولكن المشكلة هي أن تربة المدينة تكاد أن تكون بمثل ازدحام سطحها، بسبب أسس المباني والقنوات الصحية التي تخترقها بكثافة. في وجه هذا الضغط، تجد الجذور نفسها في صراع لإيجاد مكانٍ لها، وهو صراع غالباً ما تنهيه منتصرةً، فتصل إلى قبو أحد المباني وتخترقه، معدةً المسرح لتسرب المياه، أو تصل إلى أنابيب الصرف الصحي فتسدها، مانعةً بذا تدفق الماء فيها.

ميزة الحدائق العامة خلوها من هذه المشكلة، وشأن هذا أن يمنح مسؤولي المدن هامشاً واسعاً من حرية زراعة أشجار كبيرة من دون أن يقلق الزارع على مصير جذورها. فيتعزَّز دور الحدائق العامة بصفتها رئات للمدينة ومواقع استجمام، لا سيما إن كانت الأشجار المزروعة ذات أوراقٍ تتحرك مع النسمة (كالصفصاف مثلًا)، فتُحدث التأثير المريح الذي ينشأ من حفيف الشجر في الأعصاب.

هذا في الحدائق العامة، أما مواقف السيارات فشاهدة على توظيفٍ جديد للأشجار، إذ تُزرع فيها لقدرتها على خفض حرارة المكان. فالأشجار المزروعة في مواقف السيارات تُحدث تدنياً في حرارتها يقارب خمس درجات مئوية، فتوفر لموقف السيارات المشجر ميزة عند السائق على موقف السيارات الأجرد، لا سيما في البلدان الحارة. وترافق هذه الحسنة حسنة أخرى، هي تحوّل مواقف السيارات إلى مساحة خضراء أو تزودها على الأقل خضرة، تحتاج إليها معظم مدن العالم حاجة ماسة.

أما على الطريق، فإن تشجير مستديرات المدن ومثلثاتها يُكسبها حجماً حيال الطريق نفسها، وقد لا يكون هذا بالضرورة أمراً مهماً لسائقي المدينة المخضرمين، إلا أنه كذلك لزوار المدينة. والغرباء في المدن كثر. وعلى الطريق أيضاً، يحجب الشجر المزروع في الوسطيات، رؤية الجهة المعاكسة للسائق، فيتيح له زيادة التركيز على الطريق في النهار، أما في الليل فيحجب مع ما يحجب أضواء سيارات الجهة المعاكسة، وهو أمرٌ مريح في أقل الأحوال، ومنقذٌ للأرواح في أفضلها. عدا ذلك، عند انزلاق سيارة عن مسارها، يبقى اصطدامها بشجرة أرحم من اصطدامها بسيارة آتية من الاتجاه المعاكس، وإن لم يكن هذا الأمر صحيحاً على مستوى الصدمة نفسها، فهو يبقى كذلك على مستوى عدد الضحايا. فسرعة الاصطدام بين سيارتين متقابلتين مضاعفة، وعدد الركاب الذين قد يُصابون مضاعف أيضا، من حيث المبدأ.
ما العمل إذن؟

اختيار الشجرة
تشجير المدينة خطوة في الفراغ، ما لم يُحسَن انتقاء الشجرة الملائمة، ذلك أن كل صعوبة إضافية في مجال العناية بها ترتب تكلفة باهظة كل سنة، وهذا أمر نبَّه المسؤولين إلى خصائص كانت تؤخذ في الحسبان في السابق، علماً بأن معرفة النبات عامة والشجر خاصة، لا يمكن أن تكون جامدة، بل انها محكومة بالتطور مع تطور خصائص الاختيار.

يمكننا القول إن لكل شجرة ملفاً تقنياً يسمح لنا باختيارها أو استبعادها، وينطوي هذا الملف على خصائص الشجرة الموضوعية وغير الموضوعية. ونعني بالأولى كل الخصائص الحسية، وهي: الحجم والشكل ولون الورق والملمس وتساقط الورق أو ثباته وتغير الشجرة مع مر الفصول ودرجة تحرك الورق مع الهواء ولون الجذع وشكل الأغصان وملمسها وقيمة الزهور الجمالية ودورة التخصيب والثمار والرائحة، وأي تفصيل استثنائي آخر.

ولكن هذه، والعوامل الموضوعية وحدها غير كافية لانتقاء الشجرة، لأنها تفترض أن البشر لا يعدون كونهم كائنات حسية، وهنا تدخل العوامل غير الموضوعية دائرة الضوء. وهي العوامل التي تجعلنا نرغب في التشجير بالنخيل في ستوكهولم، وبالأرز في جدة، وهي عوامل ذات بعد نفسي أو رمزي أو معنوي. لقد حمَّلت الإنسانية الشجرة رموزاً ما (الحياة والقوة والأبدية)، والرمز يلحق بالشجرة بغض النظر عن نوعها. وأحياناً، تضاف إلى الرمز هذا، معان خاصة كخلود السنديان المزعوم وتواضع التوت وحزن الصفصاف المتهدل. كذلك كثيراً ما نسبغ على الأشجار معاني فردية لا جماعية، وتكون هذه المعاني مرتبطة – بل حتى متجذرة – بقصة حياتنا، وفي هذه الحال، قد تصبح شجرة اللوز رمزاً للقاء أو لفراق أو لحدث.

وبعد الأشجار المعنوي امتدادٌ لكون الشجرة ابنة بيئة حسية معينة، أي ان لدى عقل الإنسان ميلاً إلى تثبيت الشجرة في بيئةٍ معنوية معينة، على غرار ثباتها في بيئتها الحسية. من هنا، قد يشبّه المرء في مواجهة شجرة لم يرها قبلاً، بشجرةٍ أخرى مألوفة لديه. وفعلاً، يحدث كثيراً أن نقع على أناسٍ يصنفون كل الصنوبريات على أنها أرز، أو على آخرين يرون في كل الأشجار ذات الشكل الملتوي حوراً مستحياً. هذا التعميم ما هو إلا إشارات على أن الأشجار «حاملة أجواء» معينة للأماكن التي تتحدر منها. وهذه الأجواء مرتبطة مباشرةً بانتشار الشجرة ضمن مجالها الجغرافي، ومدى كثافة هذا الانتشار (أو عدم كثافته؛ فلنتذكر هنا أن ندرة نوعٍ معين من الشجر في منطقةٍ ما قد تمنحه هالة احترام). فضلاً عن ذلك، فإن تشجير المدينة بنوعٍ واحدٍ من الشجر شأنه أن يضفي على المدينة طابعاً واضحاً أو شخصية مميزة، هي شخصية الشجرة المذكورة، حتى أن اتجاه التشجير قد يعبر عن توجه ثقافي معين. فمدينة بيروت اجتاحتها موجة نخيل في ثلاثينيّات القرن العشرين، وقد يبدو الأمر كأنه لم يعدُ دارجاً دروجاً عابرا، إلا أن الملاحظ الدقيق قد يرى فيه أيضاً حالة رفض للوجود الفرنسي في البلاد، لا سيما أن هذا الوجود انتهى في أول الأربعينيّات.

الآن، وقد غصنا في الحديث عن البعد غير الموضوعي في الشجر، حري بنا أن نشير إلى أننا لا نستطيع تشجير المدينة من دون أن نكون واعين للدلالة أو الطابع الذي سوف تنطبع المدينة به، ففي تشجير مدينة بصنف معين من الشجر تعميمٌ لهذا الصنف، وهو أمر قد يسخّف رمزيته. لذا، يُنصح بتجنب الشجر المثقل بالرمز، واختيار شجر أكثر حياداً. ومن حسنات أمرٍ كهذا أنه يمكننا من التركيز على صفات الشجر الموضوعية.

شروط موضوعية لتشجير المدن
وأبعد أو أقرب من البعد المعنوي، هناك شروط موضوعية لتشجير المدن، منها ما يأتي:

1 على التشجير أن يكون كثيفاً فلا يتجاوز الانتقال من مساحة خضراء إلى جارتها عشر دقائق. وهذه المساحة بدورها يجب ألا تكون جزراً؛ ونشر المساحات الخضر في مدينةٍ ما إنجازٌ ناقص إن لم يصحبه نشر للخضرة على امتدادها. والمدينة الخالية من المساحات الخضر ذات الأرصفة المزروعة، خيرٌ من المدن التي تحوي جزر مساحات خضر؛ ذلك لأن الخضرة في المدينة الأولى هي خضرةٌ «ديموقراطية»، معممة، متداخلة مع نسيج المدينة ومع حياتها اليومية، فيما الخضرة في الأخرى خضرة «نخبوية»، على طلاق مع حياة المدينة.

2 شجر المدينة يجب أن يكون ابن بيئتها؛ نعود هنا إلى استطرادنا عن بعد الشجر غير الموضوعي، إذ وصفنا عوامله بأنها تلك التي «تجعلنا نرغب في التشجير بنخيل في ستوكهولم، وبأرز في جدة». ليست الرغبات المجنونة غريبة على مجال التشجير، إلا أنها ليست سبباً كافياً لإلحاق الظلم بالشجر المسكين. فزرع النخيل في ستوكهولم والأرز في جدة ظلمٌ للشجر، لأنه يفرض عليه حياةً لم يُعد لها. فالشجر خارج بيئته الأصلية ينمو ضعيفاً ويكون عرضة للمرض، ومكلفاً وقصير العمر، فيما الشجر المزروع في بيئته لا يتطلب الكثير من الماء ولا المال ولا العناية للمحافظة عليه، ويكون قادراً على تحمل الضغط اليومي المفترض أن يتحمله أصلًا، كأذى الأطفال وتلوث المدن.

فإذا عدنا إلى البعد غير الموضوعي هنا، فتشجير المدينة بشجرها الأصيل يؤكد اعتزاز المدينة بما عندها، واقتناع سكانها بأن التطور ليس معجزةً مستوردة، بل هو أخذ الموجود واحتضانه إلى أن يشع. وفي العنصر الجمالي تكون الشجرة المظلومة المستوردة المعتلة، دون الشجرة ابنة بيئتها الصحيحة.

3 على الأرصفة المزروعة ألا يقل عرضها عن مترين، لأن تشجير الأرصفة يجب ألا يعطل وظيفة الرصيف الأصلية بصفته مساحة لتنقل المارة. فالرصيف الضيق بحكم طبيعته قادر على أداء وظيفة واحدة، والأولوية في هذه الحال لوظيفة تسهيل التنقل.

4 على الشجر المزروع على الأرصفة أن يكون حصراً من نوع يتفرع فوق مترين من أصل الجذع، كيلا يعرقل سير المارة.

5 ضروري أن تكون الأشجار كبيرةً إلى حدٍّ ما، لتقاوم أذى المارة وشغب غير الراشدين. فحجم الشجرة لا يأتي من فراغ، بل انه متوازن مع جذورها، ولهذا فعلى القائمين بالمدينة أن ينتقوا شجراً أكبر من أن يقتله أذى المارة، وأصغر من أن يتصارع مع أسس المباني وأنابيب البنى التحتية.

6 يحب معظمنا الأزهار المتفتحة على أمهاتها في فصل الربيع، وما إلى ذلك. لكن مرضى الربو والحساسية لا يشاركوننا السعادة الغامرة نفسها، فطلع الزهور يصيبهم بنوبات الربو، وتشجير المدينة بشجرٍ مزهر أو مثمر، من علامات عدم الاكتراث بالصحة العامة، فيما الشجر المورق لا يقل جمالاً وهو تعبيرٌ راقٍ عن احترام المدن لأهلها وصحتهم.

7 درجت أخيراً عادة استقدام شجرٍ مكتمل النمو إلى المدن المنوي تشجيرها، كسباً للوقت. ما لا يعلمه أصحاب هذا الأمر، هو أن نقل الشجرة بعيداً عن مسقط رأسها يصيبها بما يشبه الصدمة، ويوقف نموها بعض الوقت. وقد تطول مدة التوقف عن النمو هذه كلما كانت الشجرة أكبر، وفي حال الشجر الكبير المستقدم قد تدوم الصدمة سنواتٍ، هي المدة نفسها التي تحتاج إليها الشجرة الصغيرة لتكبر. الفرق الوحيد إذن بين استقدام شجر كبير وبين زرعه صغيرا، أن أهل المدينة تفوتهم فرصة مرافقة نمو الشجرة، وتعلم ثقافة الحنو عليها.

8 وهناك عادةٌ أخرى لكسب الوقت أيضاّ، هي تفضيل الشجر السريع نموه، كالحور، على البطيء كالصنوبر. ولا بأس في هذا طالما أدرك القيّمون على المدينة أن الشجر السريع نموه لا يعمَّر، بخلاف الشجر البطيء. وفي المقابل، تبدي سلطات بعض المدن أخيرا حماسة شديدة للشجر المعمر، مع أن الشجر المتوسط العمر المعتنى به جيداً يمثل مدينته أفضل كثيراً من الشجرة المعمرة لو اعتمد أهل المدينة على عمرها وحده وأهملوا العناية بها.

9 إن كثافة التشجير أمرٌ غير صحي إن زادت على حدها. وهذا يكون عندما يكون الشجر المزروع على مقربةٍ بعضه من البعض، فتتشابك الأغصان وتتعارك على الحيز المتاح. وهو أمرٌ غير صحي للبشر نفسياً، لأنه يحجب ضوء الشمس في الشوارع إلى حدّ كئيب، وهو غير ملائم اقتصادياً لأنه يضع سلطة المدينة أمام خيار من اثنين؛ إما أن توظف عمالاً يشذّبون الأغصان المتشابكة كيفما اتفق، على نحو قد يقتل الشجر في النهاية، أو أن توظف عمالاً يشذّبون الأغصان بإخلاصٍ وتفانٍ، وهذا أمر مكلف.

10 ندرس في علم الحدائق أن اختيار شجرة نفضية مفيد جداً عند زرعها قرب مبانٍ سكنية. لأن أوراق الشجر تحمي سكان المباني من أشعة الشمس في الصيف، وتتساقط مع بدء الشتاء، فتمكن أشعة الشمس بذلك من أن تدخل المنازل لتدفئتها. من جهةٍ أخرى، يؤدي اختيار أشجار نفضية إلى إشعار سكان المدينة بتغير الفصول خلال السنة، وتراكم الغبار بين أوراق الشجر الدائم الخضرة عاملٌ إضافي لمصلحة الأشجار النفضية.

هذا ما ندرسه. أما على صعيد التطبيق، فمعظم البلدان العربية وحيدة الفصل (هو فصل الصيف طبعاً)، ولا يهتم سكان بيوتها كثيراً بدخول أشعة الشمس منازلهم أكثر مما تدخل أصلاً. على ذلك، تبقى الأشجار النفضية خياراً جيداً للتشجير لجميع الأسباب المذكورة أعلاه، وهي أسباب قد تضعف في بلداننا، إنما لا تنتفي تماماً.

وبعد…
يجدر الاعتراف بأن تشجير المدن خطا بضع خطوات نحو الأمام في معظم البلدان العربية، إلا أن الطريق أمامنا لا يزال طويلاً قبل الوصول إلى المصالحة الصادقة بين الشجرة والمدينة. فتشجير المدن العربية ينطوي على إحساسٍ مبهم بقيمة الشجرة الحضارية في المدينة، إلا أن الإحساس هذا لا يزال عاجزاً عن فرض نفسه بالقوة المنشودة. فلدى كثير من الناس استعدادٌ للإعجاب بشجرة، إلا أن قلائل مستعدون لتقديم مصلحة الشجرة ذاتها على مصلحة مشروع عقاري أو حتى واجهة دكان، فشجرة المدينة، والبيئة إجمالاً، لا تزال عندنا، في مصاف الكماليات. والواقع أن المسألة ليست مسألة وقت ولا مسألة مال، بل مسألة تربية وثقافة، وأي تقدم في الاقتصاد يتعذر ما لم يرافقه تقدم في التربية. وللكلام هذا وقع الخطاب المثالي الحالم، لكنه نتيجة دراسة قرأتموها للتو، ونتيجة اقتناع عميق بأن التطور مسألة شاملة لا تراتب فيها. أَوَلَم يشبِّه الإغريق القدامى الشجرة بالإنسان؟ أَوَليست شجرتنا إنساننا الصامت؟
أول تشجير للمدن في العالم
أقدم ما بقي لنا من التاريخ حول ما عرفته البشرية عن فن زرع الشجر في المدن، أي تزاوج العمارة المدنية مع خضرة الشجر، هي حدائق بابل المعلَّقة التي كانت إحدى عجائب الدنيا السبع. وكانت تسمى أيضاً حدائق سمير أميس. موقع بابل اليوم قريب من مدينة الحِلّة في العراق، عند نهر الفرات، على بعد نحو 100 كيلومتر جنوب بغداد.

أنشأ الحدائق المعلَّقة ملك بابل نبوخذنَصَّر، في القرن السادس قبل الميلاد، تلبية لرغبة زوجته أميتيس الميدية، التي حنَّت إلى موطنها مملكة ميديا، وموقعها اليوم بين همذان وأصفهان وأذربيجان، وهي مملكة كان والد أميتيس ملكها.

شيَّد نبوخذنصّر لزوجته أسواراً عالية طوَّق بها مساحة واسعة من مدينة بابل، وردم داخل الأسوار بالتراب، ليرفع فوقه جنائن متدرِّجة عالية، بعيدة عن متناول الناس، وزرع في الحدائق كل أنواع الشجر والنبات العطري الشائع في ميديا، ليعوّض زوجته من غربتها. وعُمِّرت الحدائق سبعة قرون تقريباً، إذ دمرها زلزال في القرن الميلادي الأول.

استخدم البابليون لري الشجر في أعلى الحدائق، نوعاً من الأنابيب اللولبية التي تدار فتضخ الماء إلى أعلى. وهي لوالب الري التي ادعى الإغريق فيما بعد أن أرخميدس هو مبتكرها. وقد عثر العلماء على وصف لهذه الوسيلة في نقوش أثرية في نينوى، بشمال العراق. وخلف لنا البابليون الكثير من المعلومات عن هذه الحدائق في ألواح مسمارية، مثلما أسهب في وصفها مؤرخون يونان، منهم استرابون وديودورس الصقلي.

قال ديودورس الصقلي في وصفه الحدائق: «إنها مشيدة على شكل مدرّج، وتشبه المسرح، وقد أنشئت قناطر تحت المصاطب المتدرجة صعوداً، وتحمل هذه القناطر كل ثقل الحدائق المزروعة. والمصطبة العليا وكان ارتفاعها 75 قدماً (أي نحو 25 متراً) هي قمة الحدائق، وهي تساوي ارتفاعاً علو أسوار المدينة. وكانت أسقف القناطر الحاملة للمدرجات، مصنوعة من حجارة طول بعضها 16 قدماً (نحو 5 أمتار ونيف) وفوقها مباشرة طبقة سميكة من القار ثم طبقتان من القرميد المشوي، يشده المِلاط (ما نسميه اليوم الإسمنت)، ثم طبقة رصاص تمنع رطوبة التربة من النفاذ إلى السقف. وفوق هذا السقف، طبقة من التراب تتيح لأكبر الشجر أن ينمو. وقد سُوّي التراب وزرع بكثافة بكل أنواع الشجر. ولما كانت المصاطب متدرجة، فإنها كانت تتشمس، وكان فيها قنوات ماء يضخ بمضخات من النهر».

شك كثير من المؤرخين في وجود الحدائق المعلَّقة، وظنوا أنها خيال شاعر، واستندوا في ذلك إلى أن المدونات البابلية لم تكن قد أماطت اللثام عن وجودها. لكن الألواح كشفت فيما بعد أن أول من وصف الحدائق المعلَّقة في بابل هو بيروسوس الكاهن الكلداني في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. وقد تبعه فيما بعد المؤرخون الإغريق.

وأثبت الحفر الأثري الحديث في العراق وجود مبنى مدرَّج في مكان قريب. لكن الموضع ناقض ما ذكره المؤرخون الإغريق، عن متاخمة الحدائق نهر الفرات. إلا أن حفريات لاحقة، كشفت على ضفة النهر مباني وأسواراً عرضها نحو 25 متراً. وقد وجدت في المكان آثار بذور تؤكد أن المكان ربما هو مكان حدائق بابل المعلَّقة، أول ما وصلنا من التاريخ حول تشجير المدن في العالم.

أضف تعليق

التعليقات