قول في مقال

رقاب الشعر

في إطار القضية التي أثارتها القافلة في العددين السابقين، في علاقة القارئ بالشعر المعاصر، بدءاً بالحال في أمريكا، وصولاً إلى الحال عندنا، يضيف الأستاذ عبدالله الوشمي* وجهة نظر مميَّزة في سلوكها اتجاهاً معاكساً للشائع من مواقف وآراء طغت بوضوح على الآراء التي تناولت هذه القضية على المستوى العربي.
لن يستطيع طبيب العيون أن يتنازل ولا أن ينسى أو ينسلخ من سنوات الطب والدراسة عندما تحكُّه عيونه فيبادر لعركها – ولو من باب الغفلة – بيديه، ولن يستطيع، بدرجة أصعب، أن يحدق بعينيه عندما يريد الكشف عليهما، وهكذا العربي والشاعر، تحديداً، عندما يقارب حيثياته الشعرية، وأنا من هؤلاء، فالكلام على الكلام صعب، وأصعب القصائد أو الأقوال هي التي تحاول أن تصف منهج القول وطريقة التنغيم فيه.

سأتخفف هنا من مسائل البعد الثقافي لمسألة الشعر والشعرية، وسأتجه بقواي كاملة إلى حيث السؤال، فالقارئ ما زال يقرأ الشعر ويتذوقه ويذوب في مضامينه، بل إني أحسب أن قراءته قد زادت وارتفع مستواها، وتعددت أوجه نشاطها، ولكن المحزن أن هذا الاطراد والزيادة إنما نشأ بأسباب عديدة أقلُّها السبب المتصل بالشعر نفسه، وأكثرها يتوزع بين الإعلام ووسائل التقنية المختلفة وهكذا. وهنا يكمن الأمر المعضل ثقافياً، وينمو السؤال باتجاه آخر، ألا وهو الترشيد الثقافي، والبحث عن صيغة أخرى لتسويق الشعر وتقديمه من جديد.

سوق ما زالت رائجة، ولكن…
فالراصد المتابع يجد أن سوق الشعر، من حيث القراءة والمتابعة، ما زالت رائجة، بل إنها تتجه إلى الازدهار والتحول، والعربي ما زال شاعرياً بطبعه، وتتجاوب أصداء الشعر في نفسه، وما زال حنين الإبل يشهد بهذا الثبات، والأكاديميون خاصة يُدركون حرفية ما أقصده هنا، فأوقات الأساتذة وساعاتهم المكتبية وأوقات الحوار ورسائلهم الإلكترونية، تنضح بتجارب الشعر التي يسترشد بها طلابهم، وهذا القول لا ينحصر في الطلاب فقط، وإنما يطرد وينسحب على الطالبات، فكتابة الشعر سُلّم أدبي يغري ببهرجه وإيقاعاته وتوهجه بالدخول في مغامرة القول والإبداع فيه.

ولئن كان ما سبق يُساق على مستوى الرؤية الفردية، فإننا نتلمس من الظواهر ما يشي بالامتداد الشعري بعد الانكماش، والتوسع بعد الانقباض، والمدّ بعد الجزر، فشعراؤنا السعوديون الذين توقفوا، لأسباب مختلفة، عاد أكثرهم وفق شاعريته المعهودة، أو شاعرية متحولة. فمهرجان عكاظ التاريخي يعود من بوابته الجميلة وهي الشعر، ويحفل بأمسيات ثريَّة ومتعددة، وبيت الشعر في نادي الرياض، وجماعته في نادي القصيم، وأمثالهما في نادي جدة وجيزان وغيرها، كلها تتحرك وفق هذه الرؤية وهذا الاتجاه، وهو الاتجاه الذي يُعيد الشعر وجماهيره إلى سيرتهم الأولى.

للحداثة العربية
جماهيرها الحاضرة
وربما نتجاوز هذا إلى السقف العربي الكبير لنجد جماهيرية برامج الشعر الفضائية الفصيحة في ازدياد، حتى أصبحت محفزاً اقتصادياً جيداً، واللافت هنا أن حضوراً واضحاً، وتناغماً لافتاً، يحدثان بين الشعر الحداثي والجماهير الحاضرة، وما عادت القصيدة التقليدية فقط سيدة الموقف والحضور.

وهناك في مصر نجد الاحتفاء بجائزة الشعر لمحمود درويش، والصخب الواضح الذي بدأ ولم ينقطع إلى الآن لمناسبة ذكرى شوقي وحافظ، ولا نستطيع أن نُغفل في هذا العرض السريع التمثيلي الإشادة ببرنامج كتاب في جريدة الذي تنظمه اليونسكو، وكيف احتلَّ الشعر موقعاً لافتاً في برامجه ونشاطه.

وكل ما مضى يدلُّ على أن القارئ ما زال يطارد الشعر، وما زال الشعر قادراً على أن يحمل الواحد منا في صخب مدينة الرياض، مثلاً، ومدنيتها وضجيجها وازدحامها وأوقات الانتظار الطويلة فيها، أن يُكيِّف أوقاته وبرامجه في يوم إجازته ليحضر أمسية شعرية تمتد ساعتين، كما حدث في ليلة قاسم، وهي الأمسية التي أقامها نادي الرياض الأدبي للشاعر البحريني قاسم حداد، وكنت أشاهد في تقديمي للشاعر تحفزَّه وإيمانه بالشعر وفي عيون الحضور يقينهم به، فاختلط المكان بالإعلاميين والشعراء والقاصين والروائيين والأكاديميين في اجتماع وحشد يندر أن نجد مثيله على مستوى الكثرة والتنوع ضمن أي نشاط آخر. هذا يقال وأنا أعي مسار التجربة الخاصة والعميقة بقاسم حداد، أما عن تجارب الشعر الجادة الأخرى كغازي من السعوديين ونزار من العرب، فتلك حكاية أخرى.

فمهما تواترنا على القول بزمن الرواية، أو إن مادية العصر تختلف مع عواطف الشعر، أو خفوت الولع بمناهج الشعر، فإن حضور الشعر وجماهيره ما زال واضحاً، وهو قابل للاشتعال بين فينة وأخرى وفق المحددات والموجهات الثقافية المتعددة، والسؤال الكبير الكبير هنا : عن أي شعر نتحدث؟ وماذا عن الكثافة الجماهيرية في متابعة الرديء والضعيف من القول؟

لا يستفزني كثيراً ما أجده من جماهيرية للضعيف من الشعر، ولا من ضوضاء كضوضاء الحارث بن حِلِّزة للشاعر الخطابي المنفلت من حبكة الفنيات، لأنني أجد ذلك استجابة طبيعية للشعر ورسالته التي يحملها، وهو ما أظنه يتحقق في الشعر القديم أيضاً، فأنا أجزم أن كثيرين كانوا يتحلّقون حول جرير والفرزدق وهم إنما حضروا بسبب العصبية لا الفن، والذين بكوا مع ابن الرومي من أجل ولده أو مع كثيّر من أجل عزّة، إنما كانوا يقعون في فخ المضامين أكثر من تعلقهم بإضاءات الجمال؛ بل إن كثيرين ما زالوا إلى اليوم يذرفون دموعهم على الصورة الشعرية التي بكاها أبو البقاء الرندي في قصيدته، أكثر من الصورة الحقيقية التي يشاهدونها قريباً منهم في بغداد، وهي المصيبة العظمى بلا شك.

تغير وظيفة الشعر
إن من أزمات الشعر الحديث أنه ينتمي إلى سياق لم يعد يمتلئ بأسئلته، فالوظيفة الإعلامية والإخبارية التي كان ينهض بها الشعر القديم لم تكن تُسعف الشاعر الحديث. ويظلّ النقد والمتابعون والمتلقون يطالبونه بما يطالبون الشاعر القديم به، فاستوى أمامهم محمد الثبيتي مع زهير بن أبي سُلمى، مع انهما ينتميان إلى سياقات ومحاور ثقافية مختلفة، وكأنهم بهذا الصنيع إنما يهزُّون شجرة التوت لتُسقط عليهم ثمرة التفاح، ولعل سبب ذلك يعود في ما يعود إليه أنَّ احتفالية الشعر وإعلاميته قد هربت منه أو سُلِبت إلى أجهزة أخرى، وما زال المتلقي يطالب الشاعر ويقرأ تجربته بوصفه جهازاً إعلامياً يُسجل المفاخر ويرصد المنجزات، مع ان هذه الوظيفة متحولة لا ثابتة، فتواطأت هذه الرؤى مع أجهزة الإعلام على إقصاء الشعر، أو عدم الاحتفاء به، وكأنَّ الإعلام ينتقم من جدِّه التاريخي، وهو الشعر.

إن الشعر -كأي نتاج تختلط في وصفه بين لحظات الفكر وجمح العاطفة- لا يعاني شيئاً، أكثر من معاناته الابتزاز المنهجي الذي يحاصره المتلقي أو المبدع.

فالمبدع حين يقع في شرَك المذهب أو في فخِّه، فإنه يقع في أسر اللا شعر، ويصبح متأخراً ومنطلقاً بعيداً حتى عن نقطة الصفر، إذا كان الشعر هو نقطة المئة، فالشعر هو الذي يُنسيك شكله ولونه وانتماء قائله، الشعر هو الشعر نفسه، وليس شيئاً أكثر من ذلك ولا أقل.

وأما المتلقي، فإنه يوقع الشعر في شركه، حين يدفع المبدع ليكون صوته وبوقه وصداه، أو حين يوقعه في الإطار الحرفي لرؤية الشعر القديمة عند بعض نقادنا القدامى، ومن هنا تحدث أزمة من أزمات الشعر في هويته، ويصبح الشاعر مطالباً بأن يظل في حيز المألوف المعروف من مسالك القول ومباهجه، بينما الشاعر الحق هو الذي يحمل النبوءة في داخله، ولا يرضى إلا بالمبتكَر والجديد من الفعل الشعري، ويحتشد هؤلاء جميعاً في مركبة أبي تمام الذي يؤصل للبكارة في القول على مستوى المذهب والمعنى، وهو حين يفكُّ رقاب الشعر – كما يقول – فإن عيونه الشعرية نابعة من الأرض الجديدة في الوقت الجديد وللمتلقي الجديد.

أضف تعليق

التعليقات