الثقافة والأدب

واحة الغروب
الصلح المستحيل مع الماضي في واحة سيوه

  • 85a
  • 87aa
  • 82a

بعد الروايتين الكبيرتين «قالت ضحى» و«خالتي صفية والدير» اللتين وضعتا بهاء طاهر في مصاف كبار الروائيين العرب المعاصرين، ينقلنا هذا الروائي، إلى أجواء الصحراء المصرية في روايته الجديدة «واحة الغروب» التي حازت مؤخراً الجائزة العالمية للرواية العربية التي تشرف عليها مؤسسة الإمارات بالتعاون مع مؤسسة جائزة بوكر البريطانية، وذلك من ضمن 131 رواية كانت مرشحة لهذه الجائزة من 18 دولة.
الكاتبة ليلى أمل* تقدِّم هنا عرضاً موجزاً لموضوع الرواية وأبطالها المرهقين بماضٍ يكبِّل حاضرهم. واختارت لنا مقتطفات مختارة يصف فيها بطل الرواية نفسه والبطلة وعالمهما بكل ما فيه من ألوان وتناقض.
يقولون إن الصحراء تغيّر البشر. ويقولون إن نقاءها وقسوتها يردّان الأرواح إلى أصلها، ويستدعيان حقيقتها الكامنة في أعمق نقطة منها. ماذا لو جاءها من اعتاد أن يكون في المنتصف من كل شيء؟ منتصف النبل والخيانة، البطولة والانتهازية، الرغبة والرفض، الكره والحب. ماذا يحدث لو جاءها، فوجد في نفسه غير ما اعتاد عليه؟ هل تكون الصحراء قد غيّرته أم ردّته إلى أصله؟ أبعدته عن حقيقته أم قرّبته؟

مجتمع واحة سيوه
يتّجه بهاء طاهر في روايته الجديدة «واحة الغروب» إلى واحة سيوه، إحدى واحات صحراء مصر الغربية، لتكون مسرحاً لأحداثه. يغوص في تاريخ الواحة حتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، ويفتح لنا نافذة نطل منها على مجتمع شديد التعقّد بحدوده وعاداته وطبقاته، يمثّل مادّة خاماً شديدة الثراء لهذه الرواية. وعبر فصول الرواية، نرى مجتمعاً أنهكته الحدود والأسوار. الحدود العشائرية تقسمه إلى عشيرتين كبيرتين، الشرقيين والغربيين، لم تنقطع بينهما الحروب عقوداً طويلة. تهدأ أحياناً حقباً قليلة مشحونة بالتوتر من الجانبين، ثم تندلع نارها ثانية مع أقل شرارة. والحدود الطبقية تقسم هذا المجتمع إلى فلاحين وسادة أو زجالة وأجواد. يملك الأجواد الأرض والبساتين، ويسكنون في البلدة الكبيرة، ويتحكمون بقراراتهم في كل صغير وكبير من شؤون الواحة وأهلها. أما الزجالة فهم مجندون للعمل في فلاحة الأرض. يعملون وينامون في البساتين، وممنوع عليهم دخول المدينة وعبور أسوارها بعد غروب الشمس.

وعلى الرغم من الخلاف المزمن بين عشيرتي الواحة، والأحقاد التي تراكمت عبر السنين، تدفعهم الحاجة إلى التوحد حيال خطر أكبر يأتيهم من الخارج. هذه الخطر هو الحكومة ورجالها ومحاولاتها فرض سلطانها عليهم. فالواحة التي عاشت على مر قرون، أرضاً مستقلة لا تخضع لأي دولة أو قوة خارجها، تقاوم خضوعها لسلطان الدولة المصرية. ترسل الحكومة جنودها ورجالها، فيثور أهل الواحة عليهم، ويمتنعون عن دفع الضرائب، ويلهب الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر في ذلك الوقت هذا الخلاف، فتتسع الهوة، ويستحيل على الطرفين التوصل إلى حل أو اتفاق.

يتخذ بهاء طاهر من هذه الأرض خلفية لروايته، ثم ينسج أحداثها حول خيطين يستمدهما أيضاً من تاريخ الواحة. أول الخيطين هو حادث انهيار معبد أم عبيدة بالواحة عام 1897م، والخيط الآخر هو سؤال يؤرق علماء الآثار عن مكان وجود مدفن الإسكندر الأكبر، والنظرية التي لم تثبت صحتها بعد عن وجود هذه المقبرة في واحة سيوه. يتناول الكاتب هذين الخيطين، بسلاسة فائقة وحرفية عالية، ويعقدهما معاً، من طريق ربطهما بشخصيتي الرواية الرئيسيتين. الضابط محمود عبد الظاهر، وزوجته الإنجليزية كاثرين.

قربى بين الضابط المصري
وعالمة الآثار
تبدأ الرواية حين يصدر قرار تعيين الضابط محمود مأموراً لواحة سيوه. يرسله رؤساؤه إلى هناك لجمع الضرائب التي يرفض أهل الواحة تسليمها. يعرف محمود أية مهمة صعبة تنتظره، ويعرف كذلك أن شكوك رؤسائه في ولائه للنظام كانت سبب اختياره لتلك المهمة. فهو في نظرهم الضابط المتمرد المغضوب عليه بسبب ماضيه في الكفاح الوطني ضد الاستعمار الإنجليزي. هذا الماضي الذي تبرأ منه قبل سنوات حين علم رؤساؤه بموقفه المعادي للإنجليز والحكومة، فوجهوا إليه تهمة الخيانة.

«هما إجابتان قصيرتان في تحقيق القومسيون أنفيهما من ذاكرتي باستمرار، ولكنهما تقبعان داخلي كالجمر:
سؤال: هل كنت تؤيد أحمد عرابي وزمرته؟
جواب: بل كنت من الساخطين على أفعال البغاة».

بدأت بهذه الإجابة أزمة محمود مع نفسه. فهو لم يستطع أن يتمسك بمواقفه أمام التهديد، ولكنه في الوقت نفسه لم يستطع أن يسوغ ذلك أو يغفره لنفسه. فظلت إجابته تلك عاراً يحمله معه طول الوقت. وإلى جوار محمود، نجد كاثرين زوجته الإنجليزية، ذات الأصول الأيرلندية، والباحثة في علم الآثار. التقاها حين كانت تزور مصر بعدما انتهى زواجها الأول الفاشل برحيل زوجها عن الحياة. حين التقيا، كان كلاهما يحاول أن يجمع أشياء مبعثرة في داخله، وجمع بينهما بالإضافة إلى ذلك كراهة كل منهما لما يفعله الاحتلال الإنجليزي في بلديهما، وماضٍ فشل فيه كل منهما في أن يجد نفسه، ويحيا حياة متسقة في ظاهرها وباطنها.

رسم الكاتب شخصيتي محمود وكاثرين بدقة. فهما شخصيتان تختلفان مقدار تشابههما، وتتحركان بين جانبي طيف واسع من المتناقضات. منذ الفصول الأولى نعرف أن محمود يعيش أسيراً لماضيه، تعذبه أخطاؤه، ويود دوماً لو كان أرقى. لكنه يَعلق بهذا الماضي الذي لا يرضى عنه، دون أي جهد حقيقي لتغييره، أو إغلاق ملفاته القديمة والبدء من جديد. لذلك نراه منذ بدء الرحلة إلى الواحة يتحدث كثيراً عن الموت، حديثاً هو مزيج من النبوءة والرغبة. فروحه اليائسة ترى أن الموت هو الخلاص الوحيد المحتمل، وحساب عقله يؤكد له صعوبة المهمة التي أوكلت إليه، واحتمال أن تنتهي حياته على يد أهل الواحة كما انتهت حياة المأمورين السابقين.

«خوفي من وصول القافلة سالمة إلى مقصدها لا يقل عن خوفي من أن تضل الطريق. أعلم جيداً أني ذاهب إلى المكان المنذور لقتلي».

وباليقين نفسه الذي يرى به محمود أن رحلته إلى الواحة هي رحلة النهاية، تراها كاثرين فرصة للبدء من جديد في كل شيء. في علاقتها بنفسها، وبمحمود، وفرصة لتحقيق مجد علمي باكتشافها دليلاً على وجود مقبرة الإسكندر في سيوه، أو ربما اكتشاف المقبرة نفسها. فهي ترى الدنيا عبر منظار شخصي للغاية. لكنها لا تغرق في ذاتها كما يفعل محمود. وإنما يدفعها ماضيها الحافل بالخيانة والخيبات، تماماً كماضي محمود، إلى أن تتحرك للأمام وتبني مستقبلاً مختلفاً.

«لا أفهم أي معنى للموت، لكنه مادام محتماً فلنفعل شيئاً يبرر حياتنا. فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها».

بعد رحلة طويلة في الصحراء، يصل محمود وكاثرين إلى الواحة. يفاجأ محمود بفقر أهلها، ويرى جسامة الضرائب التي تطالبه الحكومة بجمعها منهم، فيكتب لرؤسائه مقترحاً خفضها إلى النصف، ويسعى في أن ينجز مهمته دون العنف الذي ينصحوه به. يحاول كسب ود أهل الواحة واحترامهم. فيذهب إلى صلاة الجمعة في مسجدهم الكبير، ويمشي في الطرق وحيداً بلا حرس ومواكب، ويخرج على رأس مجموعة من الجنود يطارد لصوص البدو، ويحمي الواحة من غاراتهم. لكن ذلك كله لم يفلح في أن يمتص بعضاً من نظرات الكراهية والتوجس التي لم يخطئها محمود وكاثرين، في كل العيون منذ لحظة وصولهما. فمحمود مهما فعل، في نظرهم المأمور مبعوث الحكومة المكلف جمع ضرائب تثقل كواهلهم، وكاثرين هي المرأة الأجنبية التي تقتحم بلدتهم وتفتش فيها بحثاً عن كنز الواحة الذي خبأه الآباء الأقدمون.

عالم عالق بين الحرب وقسوة الحياة
على أرض هذه الواحة المعزولة في قلب الصحراء، يرسم لنا الكاتب صورة عالم علق أهله بين شقي رحى. الحرب، والحياة القاسية بظروفها وتقاليدها. ونرى كيف تتداخل الخيوط التي تنسج قصص كل من يعيش فيها، لتشكل مستقبل الواحة بأكملها. فأهل الواحة يقررون أن تتزوج مليكة الصبية اليتيمة ذات الخمسة عشر عاماً، من معبد، الشيخ الشرقي، في أول «زواج سياسي» يجمع بين العشيرتين، أملاً في أن تتوقف الحرب بينهما. وحين تكره الصبية حياتها مع زوج في عمر جدها، يتحول الخلاف إلى نذير بحرب بين العشيرتين، لا ترتفع ظلاله عن الواحة إلا بموت معبد. وحين تذهب مليكة لمقابلة كاثرين وطلب صداقتها، تظن كاثرين أنها أتت لإيذائها، فتضربها دفاعاً عن نفسها، ويعرف الجميع أنها خرجت من دارها وهي أرملة تتلبسها روح الهلاك كما يعتقدون، فيتآمرون لقتلها فيتخلصوا من اللعنة التي حلَّت بواحتهم. تتغير الحياة في الواحة بعد حادث مليكة. فمحمود يهدد أهل الواحة بسبب تهجمهم على داره، والغربيون يطالبون بالثأر منه لأنه وزوجته سببا مقتل ابنتهم. والشيخ صابر كبير الشرقيين يستغل الحادث ليشعل العداء بين الحكومة والغربيين، فيقتصوا هم من أعدائه، وينال هو منصب عمدة الواحة. أما الشيخ يحيى، حكيم الواحة وخال مليكة، فينتهي به الحال إلى اعتزال قومه وهجرهم ليعيش آخر أيامه في حجرة صغيرة في بستانه، بعدما يئس منهم، ولم يستطع بعلمه وحكمته أن يوقف القتال المشتعل دوماً بينهم، ولم يستطع حتى أن ينقذ ابنته من الموت.

ثم تأتي النهاية حين يذهب محمود مندفعاً إلى المعبد لينسفه بالديناميت. فالمعبد القديم رمز للماضي الذي يحاصر محمود بذكريات أليمة تبعث في روحه الخزي والانكسار، وهو الذي سبّب حجرٌ هوى من مدخله كسرَ ساق الشاويش إبراهيم وإصابته بالعرج حتى آخر عمره. وهو الذي ألهت نقوش جدرانه كاثرين عن الاهتمام بأختها المريضة التي تعيش آخر أيامها في الدنيا. وهو المكان الذي أحبته مليكة ووجدت فيه جمالاً مس روحها، فأصبحت ترى الدنيا بعيون مختلفة عن تلك التي يراها بها قومها. وهو مجد الأجداد الذي يرى الضابط وصفي أنه لا يمكن بناء مثله، إلا حين تصبح البلاد خاضعة للإنجليز. تتساقط حجارة المعبد، ويسقط محمود تحتها، وتلقى روحه السكينة التي كانت تفتقدها أول مرة، فيودع الحياة وهو يطلب من الجميع أن يسامحوه.

تنتهي الرواية بأن يصل محمود وكاثرين إلى الغاية التي بدأ كل منهما رحلته من أجلها. لاقى محمود الموت الذي كان يجد فيه خلاصه، ووجدت كاثرين مفتاحاً في النقوش على جدران المعبد تشير إلى وجود مقبرة الإسكندر في سيوه. لكنهما في الواقع لم يصلا إلى غاية حقيقية، إذ لم ير أحدهما إلا ما أحب أن يجده ويراه. لم ير محمود في داخله إلا خائناً يستحق الموت. حتى عندما أعلن أمام وصفي رأيه في الإنجليز والاحتلال، لم ير في ذلك إلا شجاعة جاءت متأخرة، كان أفضل لها ألا تجيء. وكاثرين لم يكن اكتشافها إلا احتمالاً، استعانت بخيالها فيه، أكثر مما استندت إلى دليل حقيقي، لكنها كانت مصممة على أن تراه.

«واحة الغروب» رحلة أرواح تحاول أن تعقد صلحاً مع ماضٍ لا ترضى عنه، لتكتشف ذواتها الحقيقية. إنها رؤية للواقع المعكوس في مرآة ذلك الزمن القديم، واستدعاء لتاريخ يلقي بظلاله على الحاضر. وسواء نظر القارئ إليها بتلك النظرة أو غيرها، فإنه سيجد فيها جمالاً وحكمة تمس القلب والعقل معاً.

بهاء طاهر
عندما نشر بهاء طاهر قصته الأولى في مجلة الكاتب، قدَّمها يوسف إدريس بحفاوة، فوصفه بأنه كاتب «لا يستعير أصابع أحد». وعلى مدى سنوات رحلته في الكتابة التي بدأها عام 1964م، ظل بهاء طاهر سائراً على الطريق التي بدأ بها خطواته الأولى. فأسس بكتابته عالماً متفرداً بخصائصه، ومكانة متميزة في الأدب العربي المعاصر.
ولد بهاء طاهر في القاهرة عام 1935م. وحصل على إجازة الآداب من جامعة القاهرة عام 1956م، ثم شهادتي دراسات عليا في التاريخ الحديث، والإعلام. عمل مخرجاً للدراما ومعداً للبرامج ومذيعاً في البرنامج الثقافي بالإذاعة المصرية حتى عام 1975م. ثم سافر إلى جنيف في عام 1981م للعمل في مكتب الأمم المتحدة، وعاش هناك أربعة عشر عاماً.
في عام 1972م صدرت أولى مجموعاته القصصية (الخطوبة)، وتنوعت كتابته بعدئذ بين القصة القصيرة والرواية القصيرة والرواية. تنقل خلالها بين أجواء القاهرة بزخمها وثراء التفاعل الإنساني الذي يجمع أنواعاً مختلفة من البشر فيها، وأجواء الصعيد بخصوصيته واختلافه، وعادات ناسه التي تعد مادة خاماً غنية للأعمال الروائية، ثم أخيراً أجواء الصحراء، التي نادراً ما يتجه إليها الروائي المصري، في روايته «واحة الغروب».
حصلت أعماله على تقدير كبير في مصر توَّجه حصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1998م. واختيرت روايتاه «قالت ضحى»، و«خالتي صفية والدير» أفضل عملين أدبيين في سنتي صدورهما، وقال عنهما الناقد الكبير علي الراعي إنهما «أصدق محاولة لتضمين التراث المصري القديم في الأدب الحديث». كذلك فازت رواية «خالتي صفية والدير» بجائزة «تشيربي» الإيطالية بصفتها أفضل رواية مترجمة عام 2000م.
أدب بهاء طاهر هو ذلك الأدب المراوغ، الذي يعطي انطباعاً أولياً ببساطته، ثم يفاجئ قارئه بكثافة معانيه وعمق دلالته. هو أدب يجب أن نقرأه مرتين. مرة لأجل السطور، ومرة لأجل ما بينها. فخلف التفصيل والحدث والوقائع، هناك طبقات أخرى مغمورة من الرؤى والرموز. وجماله في أن القارئ يصبح شريكاً في تأويل النص وفي اكتشاف رؤاه ومواطن جماله.
تمثل اللغة أحد العناصر المهمة التي يعتمد عليها تفرد أدب بهاء طاهر. فهو يكتب بإيجاز شديد وتكثيف، وبلغة تتميز بالصفاء والاقتصاد، وينتصر للمعنى على حساب الكلمات. وكما لا يجهد نفسه وقارئه بزخرفة لغته، لا يجهد بهاء طاهر نفسه بتقصي الاختلاف في القالب الذي يصب فيه عمله. فهو روائي وفيّ لمواصفات الرواية بمعناها الكلاسيكي، يتعامل معها بكونها بناء يقتضي درجة معينة من التراتب والنظام. لكنه يجتهد كثيراً في تقصي الاحتراف في أعماله. فلا يكتفي بأن تكون الرواية مسرحاً لتأمله، أو تسجيلاً للواقع بأحلامه وانكساره، لكنه يحرص على إحكام بناء الرواية فيما يتعلق بأحداثها، وتفصيل التفاعل بين الشخصيات الذي يفضي إلى تسلسل هذه الأحداث. فهو يرى أن الرواية إن لم تكن ممتعة للقارئ، فلم يشعر برغبته في مواصلة قراءتها لأنه يتوقع تماماً ما سيأتي، فالأفضل عدم كتابتها. ويجعل هذا كتابته عوالم متكاملة، تأسر القارئ وتمتلكه، فلا يستطيع أن يتركها قبل نهايتها، ثم يظل عالقاً بها بعدئذ بفعل الجو الساحر الذي شيدته الرواية من حوله، أو الأسئلة التي يكتشف أنها تلاحقه بإلحاح.
بهاء طاهر روائي كبير، وقاص محترف، وهو قبل ذلك أديب يحترم أدبه ويحترم قارئه. وليس أدل على ذلك من قوله إنه إن لم يقل شيئاً جديداً تماماً فالأفضل في رأيه أن يصمت، ونرجوه ألا يفعل أبداً.

محمـود يتحدَّث لنفسه
ها هو بستان الروح كما يقول سعيد. ربما روحه هو، لا روحي أنا. لا يحرك شيئاً في نفسي هذا البستان الأصفر. ربما الغضب.

تترامى الصحراء أمام عيني، ولا شيء فيها غير الرمال والكثبان والأحجار والسراب اللامع في الأفق. قيظ بالنهار، ولسعة برد في الليل. وبين الحين والآخر سلاسل من جبال رمادية، كأنها بقايا جبل واحد حوَّلته صاعقة إلى أنقاض مهوشة.

أركب وكاثرين جملين في المقدمة. تلبس زي ركوب الخيل، وتنفرد بسرج مسقوف بقماش سميك مثل هودج مفتوح. يبدي الدليل وبدو القافلة اهتماماً بنا. ينصبون لنا خيمة في الليل بينما ينامون في العراء مستترين من الرياح بجمالهم الباركة. أما الجنود العشرة الذين التحقوا معي بالقافلة فيركبون في المؤخرة، باستثناء الشاويش إبراهيم جندي المراسلة الذي ألحقه الأميرالاي سعيد بخدمتي قبل السفر وأوصاني به.

كلما مرَّ يوم في الطريق خيم صمت أعمق على القافلة، وكل العيون مصوّبة للأمام تحدق في الفراغ. فيمَ يفكر كل منهم؟ لا أعرف. ولكن الصمت يغزوني أنا صخباً وصوراً توقظ كل الماضي. كل الأحياء وكل الراحلين. ربما يكون ذلك قد بدأ حتى من قبل الرحلة. أفكر في أشياء كثيرة لا سيّما في النهاية.

هل أخاف الموت؟ بالطبع. ومن لا يخافه؟ أسأل نفسي كيف سيباغتني.. في الواحة برصاصة؟ أو كموت عادي بعد مرض قصير أو طويل؟ في حادثة عابرة؟ باختناق في الحمّام أو تسمّم من طعام؟ هل يأتي بدون أية مقدّمات على الإطلاق؟ مئات الأشكال تختبئ في زوايا مظلمة من الطريق، لتنقضّ مرة واحدة هي نفسها النهاية. أتعمّد كثيراً أن أنسى. لكنني لا أنسى في هذه الرحلة أمّي. أراها في انتظاري في تلك الليلة عند عودتي إلى البيت. تجلس على مقعدها الكبير إلى جوار السرير، بينما ترقد الخادمة على الأرض مستغرقة في النوم. كنت أعرف أن أمي لا تنام قبل أن تطمئن إلى عودتي، وقبل أن تسألني سؤالها التقليدي إن كان أخي سليمان قد كتب رسالة من الشام. في الغالب لا تكون هناك أية رسالة، ولكني أطمئنها بأني سمعت أنه هو وأولاده بخير. قبّلتُ كالعادة رأسها ويدها وسألتها إن كانت بحاجة إلى شيء. طلبت كوباً من الماء لأن قلبها لم يطاوعها أن توقظ الخادمة. وقبل أن أصل إلى باب الغرفة نبهتني: «من القُلّة البني»، ثم لاحقتني: «وفي الكوب النحاس». ذهبت إلى الصالة حيث تضع القلل في صينية على إفريز الشباك البحري، ورفعت القُلّة التي تبخرها دائماً بالمستكة وتغطيها بمفرش رقيق مخرم، والتي يبرد فيها الماء بالفعل أكثر من غيرها. صببت الماء في الكوب النحاسي المزخرف بفروع نباتات ملونة، ورجعت إلى الغرفة وفي نيّتي أن أداعبها عن هذا الكوب الذي لا تشرب إلا منه، لأن أبي أهداه لها ذات يوم. مرّت دقيقة واحدة أو دقيقتان مع هذه الأشياء، وعندما فتحت الباب والكوب في يدي، رأيت رأسها يميل على صدرها. اقتربت منادياً فلم تجبني واكتشفت أنها انتهت.

عشت شهرين عاجزاً عن فهم أي شيء. أكرر لكل من يعزّيني ما حدث ما بين لحظة خروجي من الغرفة وعودتي إليها، كأن هذه التفاصيل تنطوي على سر أو لغز يفسّر ما حدث. وكنت أمشي مرتعش الساقين. لم أفهم.. ومازلت عاجزاً عن الفهم.

نعم أخاف الموت، ومع ذلك كنت مستعداً في وقت ما أن ألقاه دون تردد. أيامها كان هناك معنى، غير أنه زمن وانقضى. لم يعد يذكّرني به سوى الألم المتقطع لأثر الرصاصة التي هشمت عظام ذراعي. أما الآن فمن أجل أي شيء أموت في هذه الواحة المنسية؟ ستندم كاثرين أيضاً لإصرارها على السفر. حذرتها كثيراً فظلت ترد دائماً بأنه لا شيء يجعلها تندم ما دامت قد اختارت. لم أفهم مع ذلك سر تلهفها على السفر. أظن أنها مرة أخرى حكاية الآثار. أهلكتني في معابد الأقصر والصعيد وسقّارة ودهشور، وفي النهاية اعتدت أن أتركها تذهب حيث تشاء بحراسة جندي المراسلة. والآن تتحدث بوَلهٍ عن الإسكندر الأكبر وزيارته للواحة، ولا تصدق نفسها أنها ذاهبة إلى حيث ذهب! تريد أن تعبر الصحراء لتتبع خطاه وتفتش عن آثاره ولا يهمّ أن تكون حياتها هي الثمن. امرأة شجاعة! امرأة مجنونة! لكن ربما هذا الجنون هو ما يربطني بها.

لست مسافراً الآن من أجل كاثرين على أي حال، ولا من أجل الترقية التي ظل هارفي يلحّ على تذكيري بها. وربما لولا عار المحاكمة العسكرية التي ألمح إليها سعيد، ولولا أني لا أعرف لنفسي مهنة أخرى لرفضت الترقية والسفر معاً.

فليحدث مايحدث. أذكر من أيام المدرسة بيتاً قديماً من الشعر:
وأَعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه
ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عَمي

تمنيت لو كان الأمر هو العكس. لو أجهل ما حدث بالأمس، وأعلم ما في الغد. بل أوافق حتى على أن أظل أعمى عما يحمله الغد بشرط أن يختفي الأمس أيضاً. أوافق على ما هو أقل.. أن يُشرقَ الصبح فأعيشَ يومي وحدَه وقد غابت من ذهني كل الذكريات. أي ترتيب مريح للحياة أن نعيش اليوم دون إزعاج الأمس والغد معاً! لكن في هذه الصحراء لا شيء في ذهني غير الأمس، وأنا لا أحبه.

في النهار المشاهد المكررة نفسها، لا يكسر رتابتها لا مساحات متباعدة يتغير فيها لون الرمال إلى الأحمر أو الأبيض، أو ظهور كثبان تجهد الجمال عند صعودها فتبطئ حركتها. وكل يومين أو ثلاثة يزعق الدليل مبشراً بقرب وصولنا إلى بئر أو إلى واحة صغيرة مهجورة نستريح عندها ريثما ترتوي الجمال. تمر عيني على المعالم مروراً عابراً لكني أختلس النظر إلى كاثرين فأراها على ظهر جملها تدير رأسها لليمين والشمال، بدهشة لا تنطفئ في عينيها. هل ترى هي أيضاً بستان الأميرالاي سعيد؟ ما الجديد الذي يجذبها هكذا طول الوقت؟ سألتها ذات ليلة ونحن نجلس أمام الخيمة وهي تتطلع باستغراق إلى السماء المزدحمة بالنجوم، فردّت:
وكيف لا ترى أنت بنفسك؟ مثلاً هذه النجوم.. أنا لم أرها أبداً في المدينة كثيرة لهذا الحد ولا مضيئة بهذا الشكل.
رفعت عينيّ للسماء وأنا أقول: لأن القمر مازال هلالاً.
فردت: أعرف. لكني أرى النجوم هنا أكبر وأقرب. أراها تومض وكأنها تتحرك نحوي باستمرار فأكاد ألمسها بيدي، كما لو كانت تسبح بسرعة في السماء لتهبط إلى الأرض.

ضحكت ضحكة خافتة وأنا أقول: أعرف أن كثيراً من الأيرلنديين شعراء، ولكن الصحراء تغيرنا بشكل مختلف.
– فكيف تغيرك أنت؟
– أنا تمتد صحراء أخرى داخل نفسي، ولا شيء فيها من سكون الصحراء التي نعبرها. صحراء مليئة بالأصوات والناس والصور.
– هذا جميل أيضاً.
– يكون جميلاً لولا أن تلك الصور عقيمة أيضاً كالصحراء. كلها ترتد إلى ماضٍ ميت، لكنها تطاردني طول الوقت.

تنهدَت وهي تقول: قد لا يكون للصحراء ذنب في هذا. ربما تكون تلك أشياء حملتها أنت معك إليها.
غمغمتُ وأنا أنهض: ربما.

كان حديثنا في الطريق يُختزل أيضاً يوماً بعد يوم.

أضف تعليق

التعليقات