يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.
ضيف العدد
الشاعرة عبير محمد الحمد
أستاذة جامعية، شاعرةٌ وناثرة، من مواليد 1980م، حاصلة على البكالوريوس في الآداب تَخصُّص اللغة العربية, والماجستير في العلوم اللُّغويةِ تخصُّصِ النحو والصرف، وتُعِدُّ أطروحتَها لنيل درجة الدكتوراة.
الشِّعْر ومضُ العَدَسَةِ العبقريّةْ
إن تَكُنِ الذوائقُ -في تفضيلِها ما يُلامِسُ مسامِعَها من ضُروبِ الكلامِ- على مَذاهبَ شتّى تختلفُ معاييرُها باختلافِ الأزمانِ والبيئاتِ والثقافاتِ ودرجةِ الحِذْقِ والفَهْم؛ فإنَّها تتفقُ على أنَّ أحسنَ الكلامِ هو مالا يُحتاجُ معه إلى الكلامِ -كما قال بعضُ العرب- وذلك حين يَلُمُّ شعْثَ الفكرةِ ويجمعُ أسبابَها. وكأنّما هُم يُقرِّون بأنّ الدهشَةَ -التي تَذهَلُ السامِعَ عن الإتيان بفضْلٍ من القولِ-مِعيارٌ مُتَّفَقٌ عليه. ولقد جمعَتْ لنا كتبُ الأدبِ -من أمَالٍ ومجالسَ وحماساتٍ وغيرِها- مالا يكادُ متناولوه يختلفون في حُسنِه وعلُوّ نَظمه, بل في مواطنِ ذلك الحُسْنِ وأسراره مُفاضلين بين ما تشابَه من كلِّ وجهٍ يستطيعونَهُ دقَّ أو جلّ, مُظهرين بذلك التفاوتَ الطبيعيَّ بين الناس في التذوّقِ والتأمُّل.
وإنه مِمّا لا شكّ فيه عند الذوّاقَةِ أنَّ سِحرَ الشِّعر كامنٌ فيما ينطوي عليه مما خَفِيَ ولَطُفَ سببُه من المعاني والتصاويرِ الآخذةِ بنواصِي الأرواح, كما جاء عن أبي العيناءِ في (الإمتاع والمؤانسة) من قول أحدِهم في صِفَةِ البيان: حتى كأنّما بينَه وبين القُلوبِ نَسَب، وبينَه وبين الحياةِ سبَب.
فتأمّلْ سَعَةَ ما جَمعَ لنا في عِبَارةْ! ثمّ انظُر كيفَ اختلفَ النقّادُ لمّا اختلفَ الشعراء في التعبير عن الفكرةِ الواحدةِ فِعلَ المصورينَ في المشهَدِ الواحد, يرونَه بعيونٍ شتّى؛ فيأتون بلوحاتٍ شتّى تجتمعُ في عُمومِ المُصَوَّرِ وتختلفُ في زوايا الالتِقاط.
يقولُ جرير:
ولما التقى الحَيّانِ أُلقِيَت العصا
ومات الهوى لمّا أُصيبت مَقاتلُهْ
جاعلاً من اللقاءِ مطفأةَ الهوى تحتَ وابل الدموع, حتى لكأنها أصابَت أَجِيجَ الوجْدِ في مقتله فانطفأ, ولكنْ كيف تُراهُ طعمُ الدّموع ومن أينَ تندفِق؟!
ويقول البُحتريُّ من بعده:
وَإِنَّ بُكائِي بِالطُلولِ لَراحَةٌ
فَهَل مُسعِداتي بِالبُكاءِ طُلولُ
هكذا يتفق في الفكرة,سوى أن زاويةَ الالتقاط جعَلَتِ الدمعَ راحةً لا مَقتلاً, وهي راحةُ وقتِ لا تُورِثُ سعادةً ولا تُبلِّغُ منًى!
وقد صوّرَ الأحوصُ قبلَهُما هذا المعنى من زاوية أخرى حين قال:
إذا قلتُ إني مُشتَفٍ بلقائِها
وحُمَّ التّلاقي بينَنا زادنِي سُقْما
ولقد أجاد أيَّما إجادةٍ حين لم ينَل باللقاءِ ما يُذكَرُ من تَخفيف نارٍ أو إخمادِها!
قال ابنُ رشيقٍ في عُمدته: والأحوص عندهم أغزلُهُم؛ لزيادته سقماً إذا التقى المحبوب. واسمَعْ بعد استطالةِ الأزمنة عليًّا الجارمَ إذ يقول:
وَمَنْ يَغْسِلْ بِأَدْمُعِهِ جَوَاهُ
أَرَادَ الْبُرْءَ مِنْ دَاءٍ بِدَاءِ
وكأنما يصفع ببيتِ الأحوصِ وجهَ جريرٍ والبُحتريّ حيثُ حقيقةٌ يُخفيها من بيتيهما سِترٌ رقيقٌ لطيف وكأنما أرادا بألاّ ينزِعَا عن لحظةِ اللقاءِ أثرَها المُجذِلَ (على نيّةِ مدحِ المحبوبِ) غيرَ أنَّ الدموعَ داءٌ آخرُ مَرير.
وهُنا مجنونُ ليلاه يصعَد بِها عنان السماءِ فلا تسقُطُ ولا يمسُّها منهُ سوءٌ غيرُ طيبِ عفافِه وشرفِهِ وصَبْوَةِ شعرٍ عَذبٍ رَصين, يقول:
كأنّ على أنيابِها الخمرَ شابهُ
بِماءِ النّدى من آخِرِ الليلِ غابقُ
وما ذقتُهُ إلا بعيْنِيْ تفرُّساً
كما شِيمَ في أعلى السَّحابةِ بـارِقُ
فتأمَّلْ لُطفَ أنّها كالسحابِ يُعرَفُ جَهامُهُ من مُمطِرِهِ دونَ جَسٍّ ولا مَسّ, سوى أنّ الجمال لا يَخفى, وأجملُ من ذاكَ أن يَتذوّقَ لِفَرْطِ التَّيْم طعمَ خمرِها بعينيه ..
فما أُحَيْلى!
ويطالعُنا المصوّرُ الحاذِقُ العبقريُّ أبو تمام بزاوية التقاطٍ أخرى لفكرة المجنون, يقول:
تُعطيك مَنطِقَها فتعلمُ أنه
لِجنَى عذوبتهِ يَمُرُّ بِثغْرِها
ولا غرْو إنْ بَرَع؛ فهو الذي التقَطَ بِمُصوِّرَتِِهِ لامُتناهِيَةِ الأبعادِ ما يُذهِلُ عُمقُه لَمّا قال:
مَطرٌ يذوبُ الصحْوُ منهُ وبَعدَهُ
صَحْوٌ يكادُ من النّضارَةِ يُمطِرُ!
ولَئن كان قيسٌ يذوقُ الرُضابَ بعينيه, فهذا حبيبٌ يذوقُه بأذنيه, وكلاهُما ذائقٌ بِطرافةٍ وفَنّ.
وليس أدهى من الشعراء حين يحتالونَ حيَلَهُم الدقيقةَ باقتناصِ مواطن الشبّهِ بين الأشياءِ حولَهُم وصَوْغِ الصور منها على طرازٍ فلسفيٍّ رفيع. فهذا العبّاسُ ابن الأحنَفِ في أجزَلِ الرقّةِ يُخاتِل فؤادَه ليقنعه باليأسِ من محبوبه, يقول:
هي الشمسُ مسكنُها في السّماءِ
فَعَزِّ الفُؤادَ عَزاءً جَميلا
فلنْ َتستطيعَ إليها الصُّعودَ
ولن تستطيعَ إليكَ النُّزولا
وفي اختيار الفعل (تستطيع) رفقٌ بفؤادِ عاشِق يتشوّق لنزولِها إليه؛ حين يجعلُها تحاولُه فلا تستطيع, وفيه من العزاء ما لا يحتمِلُهُ فِعلٌ يُفيدُ معنى الصّدِّ والهجْرِ الذي اعتادَ الحديثَ عنهُ الشعراء.
ولالتقاطِ الصورةِ نفسِها يَحْرِفُ المُتنبّي زاويةَ التقاطِهِ قليلاً ليمنحَ المشهَد ظرافةً والعبارةَ طلاوةً ليسَ بعدَهُما, إذ يقول:
كأنَّها الشّمسُ يُعيِي كفَّ قابضِهِ
شُعاعُها ويَراهُ الطَّرْفُ مُقترِبا
فتأمّل كيف حازَ صُورةً للتقلُّبِ في الكمَدِ والغبْنِ ليسَ أصعَبَ منها ولا أسهَل!
والشُّعَراء بين التشوُّقِ والرثاءِ يتصبّبُونَ صِدقاً ويأتونَ بالأعاجيبِ اشتفاءً بالكلامْ, واشتكاءً من الأيامْ, إذ تَصْرِمِهُم قبلَمَا يصرمونَها و لا تدعُهم يعيشونَ بسلام.
فهذا الصِّمَّةُ القُشَيري يمزّقُ نفسهُ تَحسُّراً لا أظنّ قارئاً يقعُ عليه فلا تصيبُهُ منه حرارةُ الزفرات, يقول:
وَأَذكُرُ أَيّامَ الحِمى ثُمَّ أَنثَني
عَلى كَبدي مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدَّعا
فَرُحتُ ولو أَسمَعتُ مابي مِن الجَوى
رَذِيَّ قِطارٍ حَنَّ شَوقاً وَرَجَّعا
لَعَمري لَقَد نادى مُنادي فراقنا
بِتَشتيتِنا في كُلِّ وادٍ فَأَسمَعا
كَأَنّا خُلِقنا لِلنَوى وَكَأَنَّما
حَرامٌ عَلى الأَيامِ أَن نَتَجَمَّعا
ويتناولُ الماهرُ الحلبيُّ فلسفته مع الدهرِ تناولاً مُغايرًا إذ يقول راثيًا:
بِرُغمي أن أعنِّفَ فيكَ دهراً
قليلاً فِكْرُه بِمُعَنِّفِيهِ
وأنْ أرعى النُّجومَ ولسْتَ فيها
وأنْ أطأ التُّرابَ وأنتَ فيهِ
فانظُر لَعَمركَ كيفَ يَقلبُ الموتُ حالَ المشفوفِ من عتَبٍ على أيامه إلى زَهادةٍ فيها وفي الدنيا جميعاً حين تخلو من حبيب, ولستَ تغفَلُ عمَّا في البيت الأخيرِ من الوفاءِ للمرثِيِّ وحُسنِ الرِّعاية!
أما ابن هانئٍ فيعلنُ حربَهُ متحفِّزاً مُصطخِباً إذ يقول:
ومَن لِي بِمثْلِ سِلاحِ الزَّمانِ
فأسْطُو عليهِ إذا ما سَطا
يَجِدُّ بنا وهْو رَسْلُ العِنَانِ
ويُدرِكُنا وهْو دانِي الخُطا
وهو عامدٌ إلى الصورةِ المكبَّرةِ حينَ يلتقِطُها للأشياء المُلتَبِسَةِِ بطريقة بليغةٍ موجَزَة, فيسوقُ نظرتَهُ مستوحاةً من صورة جَدِّ السّير واللُّحُوق والإدراك.
ومُنصِفَةً تُطالعُنا فلسفةُ الشريفِ الرَّضِيِّ لِمُعضِلَة الدَّهرِ والإنسان, يقول:
وما الدَّهرُ إلا نِعمةٌ ومُصيبةٌ
وما الخلْقُ إلا آمِنٌ وجَزُوعُ
ويومٌ رقيقُ الطُّرّتين مُصَفِّقٌ
وخَطْبٌ جُرَازُ المضْرِبَينِ قَطُوعُ
عجِبتُ له يَسرِي بنا وهْوَ واقِفٌ
ويأكُلُ مِن أعمارِنا ويَجُوعُ
رقيقةٌ حواشيه حين يُقبلُ, وسيفٌ قاطعٌ حين يُدبِرُ, ثم هو يقضي علينا فنَفنى, وهو باقٍ لا ينقضي, وانظر لقوله : يسري, تتبيّنْ ما للـْ (سُرى) دونَ (السَّير) من فضْلٍ في إزهاقِ الطريقِ, حتى لكأنّ الأعمارَ ومضَةُ برقٍ أو طرفةُ عينْ!