نعم الكذب مهنة ويجب على «الكذاب» أن يمتلك استعداداً نفسياً وتربوياً واجتماعياً لهذا الاحتراف العالي، والمهارات العالية من التفكير الجيد والذاكرة القوية والتبريرات الجاهزة لتأثيث الموقف المراد الإطاحة به، ورغم ما يخلِّفه الكذب من آثار نفسية مدمرة فلقد اخترع العقل البشري يوماً عالمياً للاحتفاء بالكذب من باب المرح والفكاهة، والذي يصادف الأول من نيسان، وأطلق على هذه المناسبة الغريبة «سمكة أبريل» ففي هذا اليوم تحصل مواقف كثيرة طريفة من الأكاذيب الترفيهية والمقالب المضحكة.
وإذا كانت مظاهر الاحتفاء باليوم العالمي للكذب مبهجة إلا أنها ظاهرة سلبية متفشية في كل العالم بما فيه عالمنا العربي، فالكذب منتشر كالوباء على مدار السنة واليوم واللحظة، وتطور وتعولم وصار له رواجه وجاذبيته ومؤسساته، وعن طريقه يتحقق الاستقطاب العاطفي والعقلي بدءاً من أبسط العلاقات بين الأفراد وصولاً للسياسات بين الدول.
فالكذب ذريعة حرب وعملية مقننة لمداراة الخطأ وتبرير منطقي لفعل الخيانة والظلم، بل وأصبح رياضة ذكية يمارسها محترف الكذب، فاللعبة النفسية تبدأ بكذبة بيضاء لتغطية حماقة صغيرة ثم تكبر وتتلون الكذبة البيضاء لتتحول إلى سوداء بل إلى «أسد هصور» ثم تتوالى اللعبة النفسية وتكثر الضغوطات والحجج المفبركة الواقعة تحت تأثير الكذب.
وإذا كانت كذبة أبريل لها فريسة طريفة تسمى ضحية «سمكة أبريل» فماذا نسمي ضحية الكذب الذي يغتال النفوس والمجتمعات والأوطان، دون شك ودون تردد أسميه ضحية سمكة القرش التي تمزق أوردة الضحية وتفرشها سجادة حمراء قانية يدوسها الكذابون الأوفياء لمآربهم الصغيرة والكبيرة ولأننا أجبن من أن نعترف بالحقيقة حتى ولو كانت مُرَّة وأميل إلى تجميل وتبرير ما يحاك ضد مصالحنا وحتى العالم الافتراضي أصبح الملعب الاستراتيجي لتمرير جميع الأكاذيب من كل حدب وصوب بضغطة زر دون أن تتمكن من التمييز بين الحقيقة والكذب، إضافة للتكثيف في ممارسة فن المواربة واللجوء إلى التحالف لسرد أكاذيب أخرى يصدِّقها ضعاف النفوس أو من لديهم قابلية الاستقطاب أو من يتظاهر بتصديقها لتفادي التفكير المؤلم، ويصدقها من أطلقوها أنفسهم وهنا العجب بل ويستميتون للدفاع عن الحقيقة الزائفة.
إن الكذب الإنساني في مختلف صوره استفحل وصرنا نستنشقه كالهواء، والمدهش أن ميزان الحق أصبح في أغلب الوقت يميل للذوات الكاذبة بتغيير مجريات الأحداث لصالحهم والذوات الصادقة تتحوَّل إلى شاذة وظالمة ومستبدة ومخربة فقط.
كل هذا الكذب الذي نحياه بدءاً من الخلية الصغيرة في المجتمع المتمثلة في الأسرة فتجد الابن يكذب على أبويه والزوج على زوجه والعكس، والأخ على أخيه والصديق على صديقه وكل هذا يتم أمام مآقينا لأن واقعنا أدمن العيش بمحاذاة الكذب دون مقاومة، هذا الكذب الذي تجبَّر وأصبح يمنع ويحارب من يتدخل في شؤونه ضارباً عرض الحائط بالقيم الجميلة ويعامل الحق كصفقة معطوبة انتهت صلاحيتها.
واقعنا يعاني داء الكذب. وحدها الضمائر اليقظة تعرف الخسارات التي تجنيها وراء كلمة حق، وتأتي كذبة أبريل لتذكرنا بأكاذيبنا على مدار العام وكم خسرنا من علاقات جميلة ومن أوطان جميلة ورغم ذلك سيظل شهر أبريل حقيقة الربيع وحلته الجميلة ونضارته البهية، وستظل تسطع شموس الحقيقة وتشرق في عقل وقلب كل من يؤمن بها، وتذيب جليد الأكاذيب فكما الماء والزيت لايمتزجان هكذا هي الحقيقة والكذب.
