ما الذي حلّ بالهواية الجميلة، هذا الشغف البريء الذي كان يملأ بالفائدة أوقات فراغ الكثيرين؟
تراجعت.. تحولّت عمّا كانت عليه.. انقرضت.. تختلف الأجوبة والتقديرات باختلاف الناس. وربما كان في الجواب الذي يعرضه الزميل عبّود عطية شيء من كل هذه الاحتمالات..
ما هي هواياتك؟
عندما نسمع هذا السؤال يطرح اليوم، فإننا غالباً ما نسمع جواباً يقول: “المطالعة.. المشي.. متابعة المباريات الرياضية..” ولكن عندما كان يُطرح هذا السؤال قبل ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن، كان الجواب غالباً: “جمع الطوابع، النقود الأجنبية، الفراشات، البطاقات البريدية، ..” وهذا ما لم نعد نسمعه اليوم وكأن الهوايات الجميلة انقرضت، ويسعى الكثيرون إلى سدّ الفراغ الذي خلّفه انقراضها من خلال تصنيف بعض العادات السلوكية على أنها هوايات. وأكثر من ذلك، فإن زعم فلان أن هوايته المطالعة والرياضة فقد صدقيته لكثرة ترداده حتى صارت هذه العادات السلوكية – حقيقية كانت أم مزعومة – هوايات من لا هواية لهم. فما هي الهواية التي نقصدها في مقالتنا هذه؟
الهواية مِنْ هوى
تبدأ الهواية بشكل عام ميلاً إلى شيء معيّن يتحول شغفاً وسعياً إلى اقتناء عيّنات منه. ويستحوذ هذا الاهتمام على وقت ملحوظ من أوقات الفراغ عند الهاوي، وغالباً ما يثمر “مُلكية” غالية على قلب صاحبها الذي بناها ببطء واستمتاع.
وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى التفريق بين نوعين من الهوايات:
1 –
الهوايات الجميلة – نسميها اصطلاحاً كذلك – وهي الهوايات التي يمكن لأي كان أن يمارسها اعتماداً على ما توفره دورة الحياة وحركتها في محيطه، ولا تشترط قدرات مالية ملحوظة مثل جمع الطوابع، النقود الأجنبية، الملصقات، الفراشات، الأصداف البحرية.. وهذا النوع من الهوايات هو موضوع بحثنا الأساس هنا.
2 –
الهوايات الاستثمارية، ونسميها كذلك حتى ولو كانت قائمة على الشغف بموضوعها ولغايات غير تجارية، نظراً للقدرات المالية الضخمة التي تتطلبها، بحيث أنها تبقى حكراً على الأثرياء مثل جمع اللوحات الفنية والتحف الأثرية والمخطوطات والأحجار الكريمة وما شابه..
والواقع إن الحدود الفاصلة بين هذين النوعين من الهوايات غير محددة بدقة. إذ يمكن للهواية الجميلة أن تتحول بمرور الوقت وتنامي الاهتمام بها إلى هواية استثمارية. فكل جامع طوابع يحلم بأن تضم مجموعته طوابع نادرة وباهظة الثمن، وعندما يشتري مجموعة صغيرة ليضمها إلى مجموعته يحلم بأن يكون من ضمنها الطابع – الثروة. كما أن جامع النقود القديمةالذي قد يكتفي في مرحلة أوليّة بجمع القطع التي بطل استعمالها منذ سنوات قليلة، قد ينجرف بمرور الوقت وتنامي قدراته المالية إلى اقتناء العملات الأثرية النادرة وغالية الثمن.
كانت الهوايات الاستثمارية المكلفة مادياً موجودة دائماً عند الأثرياء والمشاهير الذين وصلتنا أخبارهم في كتب التاريخ. أما الهوايات الجميلة التي أشرنا إليها أعلاه وعرفت أوج ازدهارها وانتشارها عالمياً خلال منتصف القرن العشرين، فقد ظهرت خلال القرنين الماضيين.
ففي القرن التاسع عشر الميلادي ومع تطور علم الأحياء ظهرت هوايات مثل جمع الأصداف البحرية والفراشات والنباتات المجففة. وعندما ظهر الطابع البريدي الأول في منتصف ذلك القرن توافرت مادة هواية جديدة تأسست فعلاً وصار لها آلاف الهواة خلال أقل من عقدين، وأدى ظهور علم الآثار وتفجر الاهتمام الهائل بكل ما هو قديم إلى إطلاق هواية جمع النقود القديمة التي كانت زهيدة الثمن في سنواتها الأولى. أما في القرن العشرين فإن تطور حركة النقل والسفر أسس لمجموعة هوايات جديدة لم تكن ممكنة سابقاً مثل النقود الأجنبية، البطاقات البريدية، علب الكبريت، التذكارات الفولكلورية وما شابه..
نافذة على العالم
ولكن أين يكمن سرّ جاذبية هذه الأشياء؟ وما هي قيمتها الحقيقية عند الهاوي؟
إنها أشياء جميلة ولا شك، أو على الأقل إن هاويها يراها كذلك. ولكن الهواية الجميلة هي أكثر من ذلك، إنها نافذة يطلّ منها الهاوي على العالم ويتواصل معه، فيسافر من خلالها إلى زوايا يستحيل عليه أن يصل إليها عبر وسائل أخرى. إنها وسيلة تثقيف وتنوير بالغة الأهمية. ولنأخذ طوابع البريد مثلاً وفي أكثر أشكاله بساطة.
ينتزع الهاوي الطوابع عن الرسائل ويجمعها في “ألبوم” مخصصاً مساحة معينة لطوابع كل دولة على حدة. ولأن قانون هذه الهواية يقول إنه يجب أن يكون كل طابع مختلف عن الآخر وأن يكون سليماً تماماً، ولأن الاختلافات تكون أحياناً في نطاقات ضيقّة جداً مثل اللون أو السعر فهو مضطّر إلى أن يتطلّع إلى كل طابع بإمعان وأن يدقّق فيه..
ولكنه خلال هذا التدقيق يطلّع على ما هو أكثر من حالة الطابع ونوعيته. فدول العالم تحمّل طوابعها صور شخصياتها التاريخية والوطنية والثقافية الكبرى، وصور معالمها الجغرافية والاقتصادية والسياحية، وإشارات إلى مناسبات علمية أو اجتماعية أو وطنية.. وعَرَضاً أكثر مما هو عمداً يطلّع الهاوي على كل هذه المعلومات. معلومات أوليّة.. ولكنها شاملة وذات تنوّع في “الألبوم” الواحد أكثر مما هي عليه في عشرات الكتب.. وبارتقاء سلّم الهواية قليلاً، يشتري الهاوي مجلة متخصصة في الطوابع. فيطلع منها بتفصيل أكبر عن المناسبة التاريخية التي كانت وراء إصدار هذا الطابع أو ذاك.. كما أن جمع النقود القديمة يدفع الهاوي خلال ترتيب مجموعته أو تقييم كل قطعة جديدة إلى مراجعة التاريخ.. وهكذا. فإن “وقت الفراغ” الذي تحتاجه الهواية هو في الواقع وقت تثقيف واطلاع يكمل على أفضل وجه المهمة التي يتولاها التعليم..
بين الأمس واليوم
الذين بلغوا الأربعين أو الخمسين من العمر يذكرون ولا شكّ المكانة التي كانت للهواية الجميلة في حياتهم، وفي حياة معظم الذين عرفوهم خلال فتوّتهم وشبابهم. ومن المرجح أن العصر الذهبي لهذه الهوايات كان عالمياً خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرن الميلادي. أما اليوم، فإن نظرة خاطفة على اهتمامات الشبان (وحتى من هم أقل شباباً) تؤكد انحساراً واضحاً للاهتمام بالهواية الجميلة، وهذا الانحسار يصل إلى حدود الغياب التام عند بعض الشرائح الاجتماعية. ومن المدهش أن بعض شبان اليوم ممن لم يتجاوزوا العشرينيات من العمر لا يعرفون أن طوابع البريد يمكن أن تكون مادة للجمع!!
الاهتمامات التي تملأ الفراغات في أوقات شبان اليوم كثيرة: الرياضة (متابعة أكثر مما هي ممارسة)، الإنترنت، الموسيقى، التلفزيون.. الخ. ولكن الهواية كما عرفت خلال العقود القليلة الماضية تبدو غائبة عن هذه اللائحة. فلماذا؟
عوامل التغيير
يحاول الكثيرون قراءة انحسار الهواية الجميلة على ضوء المتغيرات التي طرأت على حياتنا الاجتماعية. وهم في ذلك على حق.
من أبرز هذه المتغيرات يمكننا أن نذكر اثنين:
أولاً: تنوع المنافذ على المعرفة والتواصل مع العالم. فوسائل الاتصال الحديثة من تلفزيون وإنترنت وصحف ومجلات أفقدت المعلومة المتوافرة على طابع البريد بريقها، وصارت تُزاحمها، بحيث أن تقليب قنوات التلفزيون صار يؤمّن تنوعاً في المعلومات مماثلاً لتنوع المعلومات التي تحملها صفحة من “ألبوم” الطوابع.
ثانياً: تغيّر نمط الحياة اليومية. والمسألة لا تكمن هنا في توافر وقت الفراغ الضروري للهواية كما قد يعتقد البعض. ولكن في فقدان الاستقرار المكاني خلال أوقات الفراغ. فالملاحظ أن شبان اليوم يمضون في منازلهم أوقاتاً أقل بكثير من تلك التي كان يمضيها آباؤهم خلال أوقات فراغهم.. في حين أن تمضية بعض وقت الفراغ في المنزل يعتبر شرطاً لا غنى عنه للاهتمام بالهواية الجميلة وصيانتها وتغذيتها.
إلى ذلك يمكننا أن نضيف عاملاً نفسياً عاماً، يكمن في أن الهواية تحتاج إلى تركيز ذهني وعاطفي من قبل الهاوي. في حين أن الحياة الحديثة بمعطياتها الثقافية والمعيشية اليومية تجذب انتباه الفرد في اتجاهات مختلفة ومتتابعة من دون انقطاع. فمن ملاحقة الأخبار السياسية العالمية إلى الأحداث الاجتماعية، إلى الجديد في عالم الاختراعات والأدوات الاستهلاكية.. هناك جديد في كل لحظة يشدّ انتباه الفرد ويدعوه إلى اتخاذ موقف منه، بحيث أن التركيز على الهواية الجميلة الصامتة التي تستوجب الاهتمام المتواصل وببطء، صار اليوم أصعب بكثير مما كان عليه قبل ثلاثين أو أربعين سنة.
والهوايات تقضي على نفسها
إضافة إلى ذلك، هناك عوامل أدت إلى انحسار الهوايات الجميلة، نمت في صلب هذه الهوايات وأدت إلى تحريفها عن مسارها. ومن أبرزها العامل الاقتصادي. فمن المفترض في ارتفاع دخل الفرد مثلاً خلال انتقاله من فتوّته وشبابه إلى سنّ الإنتاج والعمل أن يزيد من اهتمامه بهوايته الجميلة ويسهل عليه تنميتها. ولكننا نجد هنا أن ارتفاع دخل الفرد يتلاقى مع عوامل تجارية مختلفة تذهب به في واحد من اتجاهين: إما الإشاحة بنظره نهائياً عن هوايته، وإما التحول بها إلى هواية استثمارية أي إلى ميدان يودع فيه أمواله أملاً في أن يحصل لاحقاً على عائدٍ أكبر.
المسار الأول يبدو مدهشاً حقاً. ولكننا نتفهمه عندما نشير إلى أن ازدهار الهوايات الذي عرف أوجه خلال القرن العشرين أدى إلى ازدهار في تجارة سلعها المختلفة. فبعدما كان هاوي الطوابع مثلاً يستمتع باستلام أية رسالة لضمّ طابعها إلى مجموعته، صار يجد في المتاجر المتكاثرة مجموعات كاملة من الطوابع العائدة إلى كل بلدان العالم قديماً وحديثاً. وبعد ما يكون قد أمضى سنوات ليجمع ألف طابع مثلاً، صار بإمكانه أن يشتري ألف طابع بثمن لا يؤثر على ميزانية مصروفه الشخصي.. وبعدما كان هاوي جمع الفراشات أو الأصداف يستمتع في تخصيص يوم عطلة لرحلة صيد يعود منها بثلاث أو أربع فراشات أو صدفتين من شاطئ البحر.. صار بإمكانه أن يشتري بدراهم قليلة من متجر مجاور فراشات وأصداف من كل بقاع العالم، مصنفة علمياً حسب نوعها وفصيلتها، ما عليه إلا أن يدفع ثمنها ويضمها إلى مجموعته. وهذا ما يفقده الزخم العاطفي الذي كان يشعر به تجاه أشيائه الجميلة، فيشيح بنظره عنها ويهملها.
انتصار الاستثمار على المتعة
ما سقناه سابقاً عن انحسار الهواية الجميلة قد يوحي خطأً أنها انقرضت، ولكن الأرقام تشير إلى عكس ذلك. ففي فرنسا يبلغ عدد هواة جمع الطوابع نحو ربع مليون شخص، وفي بريطانيا نحو ضعف ذلك. وفي أمريكا يبلغ عدد هواة جمع النقود القديمة فقط نحو نصف مليون.. ولكل هواية من هذه الهوايات وغيرها مجلات متخصصة بعضها شهري وآخر فصلي.. و”كتالوجات” سنوية للتصنيف والتسعير. فتحالف المتغيرات الاجتماعية مع العوامل الاقتصادية لم يؤدِ إلى انقراض الهواية الجميلة بل إلى الانحراف بها نحو “التخصص”، حتى ولو بقي الشغف العاطفي سيّد هذا التخصص، ولم يصل الدافع إلى حدود الاستثمار بالمعنى الدقيق أو كهدف بحد ذاته.
وما المقصود بالتخصص؟
لو بقينا في مثال هواية جمع الطوابع لوجدنا أن هواتها الجدد أو القدامى الذين جددوا شكل اهتمامهم بهواياتهم لم يعودوا مهتمين بجمع أي طابع كان طالما أن الأمر لم يعد له مبرره التثقيفي القديم، ويسهل الوصول إليه في أي وقت وأي مكان. صار الهاوي مثلاً يتخصص في جمع طوابع دولة معينة، وربما خلال مرحلة معينة. يقتفي النادر والقيّم منها طالما أنه يستطيع أن يدفع ثمنها، يتابع أخبارها في المجلات، وتقلبات أسعارها، ويقتني أيضاً الأشياء والأدوات المتعلقة بصناعتها إذا تمكن من ذلك مثل الكليشيهات الطباعية أو التجارب الطباعية الأولى.. وهناك هوايات كثيرة ذات امتدادات أكثر من ذلك وتجذب الهاوي إلى الإحاطة بها. فالذي يهوى جمع الآنية الخزفية مثلاً يقتني إضافة إلى الآنية بحد ذاتها، كل ما كتب عن صناعتها، ويزور مصانعها، ويضيف إلى مجموعته صور أشهر صانعي الآنية الخزفية، وأدوات الصنعة.. هذه الإحاطة الشاملة بموضوع الهواية لا تكون بهدف التعامل معها على أنها “مهنته”، بل صارت شرطاً للحفاظ على قيمة المجموعة المقتناة بعدما صارت الهواية مكلفة بشكل ملحوظ على الصعيد المادي.
فمقابل تراجع الهاوي المستمتع بهوايته، تقدّم الهاوي المتخصص في هوايته. وبعدما كانت الصُدف أو الجهود الفردية في أساس نشاط الهاوي سابقاً، صار البحث وحسن الاختيار وإلى حد ما العامل المادي من أسسها الجديدة. والعوامل نفسها التي أضرّت بالهواية الجميلة كما عرفناها تقليدياً، هي نفسها التي تدعم الهواية المتخصصة أو الهواية الاستثمارية. فالكمبيوتر
والإنترنت مثلاً اللذان نافسا الهواية الجميلة على وقت فراغ الفرد، ووفرّا مصدراً تثقيفياً وقنوات اتصال أقوى مع العالم، يفتتحان اليوم آفاقاً شاسعة أمام الهواة للاتصال ببعضهم وتبادل
المعلومات فيما بينهم، واستعراض ما لدى كل واحد منهم للبيع والشراء أو المقايضة.
من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن مصادر الهوايات تختلف من هواية إلى أخرى. ففي حين يمكن الجزم بأن هوايتي جمع الطوابع والنقود ازدادتا أهمية (وثمناً) في صفوف المهتمين المتخصصين وإن قلَّ عددهم بشكل كبير عما كان عليه، فهناك هوايات تبدو غير قابلة للتطور ودخول بورصة الهوايات المكلفة مادياً مثل جمع علاّقات المفاتيح أو علب الكبريت أو أكياس الورق أو الشموع أو الزهور المجففة وكل شيء من هذا القبيل يمكن إعادة إنتاجه من قبل الإنسان. فهذه الهوايات تقتصر قيمتها على إشباع مزاج فني وذوقي معين عند هاويها، ومن السهل جداً أن تفقد بريقها في نظر صاحبها الذي يتوقف عن متابعتها ضجراً منها، والحقيقة هي أنه يجد نفسه بعد وقت معين أمام طريق مسدود، أو قل طريق دائري لا يؤدي إلى أي أفق جديد.
فلكل هواية سيرتها الخاصة. غير أنها كلها، سواء أكانت تتناول البطاقات البريدية أم أغلى أنواع المجوهرات القديمة، تشترك في سمات أساسية ما بينها، ومنها إقامة علاقة جميلة ما بين الهاوي والشيء، وإشباع غريزة التملك عنده، والإحساس بالتواصل مع العالم ومسيرته التاريخية أو الطبيعية.
ولكن، في حين لا تؤكد الهوايات الاستثمارية شيئاً أكثر من القدرات المالية لصاحبها وخبراته الفتية في مجال هوايته، فإن الهواية الجميلة، حتى ولو صارت متخصصة، تشير بشكل غامض إلى أن ممارسها شخص مستقر، عارف بالأمور، منهمك بالمفيد.. بعبارة أخرى: إنه يسير في طريق حسن.
—————————————————
كادر
أشياء كثيرة.. لمن يهوى
هناك أشياء لا حصر لها يمكنها أن تكون موضوع هواية تأسر دون غيرها لبّ هاويها، وتتراوح هذه الأشياء ما بين أزرار الملابس والسجاد العجمي، وعلب الكبريت والمفروشات الأثرية، والبطاقات البريدية واللوحات الفنية، والمفاتيح المنزلية الرخيصة والمجوهرات القديمة… الخ.
وإضافة إلى الأشياء المحددة بكل ما فيها كقطع كاملة متكاملة، يتحدد نوع الهواية أحياناً بمادتها وليس بموضوعها مثل النحاس أو الفضة، فيبدأ الهاوي بجمع القطع النحاسية أو الفضية التي تقع عليها يداه بغض النظر عمّا تمثله هذه القطعة أو تلك.
وأحياناً يكون محور الهواية موضوعاً معيناً بغض النظر عن مادته. فهناك من يشعر بميل خاص إلى حيوان معين كالفيل، فيبدأ بجمع كل ما يمكنه أن يمتّ إلى الفيل بصلة مهما كانت مادته سواء أكانت من خشب أم من ورق أو ذهب.
وأحياناً يجد الهاوي متعته في تأسيس هواية لم يسبقه إليها أحد. مثل جمع أشياء لم يفكر أحد بجمعها من قبل وكان يتم التخلص منها، أو تبقى مهملة، ولكن من النادر أن يكتب لهذه المحاولات نجاح طويل الأمد أو الشيوع واكتساب هواة آخرين.
إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن كل هواية ترتبط بجملة معطيات تجعلها أكثر شيوعاً في بعض الأماكن من غيرها. فجمع الطوابع مثلاً كان أكثر الهوايات رواجاً في صفوف الطلاب. ولكن عدد هواته كان ينخفض بعد تخرّج هؤلاء وانتقالهم إلى ميدان العمل. في حين أن هواية جمع النقود القديمة لا تبدأ عادة إلا بعد نضوج الشخص وازدياد وعيه وتعلقه بالتاريخ.
ومن الطبيعي أن تنحصر هواية جمع الأصداف البحرية في سكان السواحل وألاَّ تجد جمهوراً يستحق الذكر بين سكان الجبال البعيدة عن الشواطئ. فالعامل الجغرافي مهم بدوره.
أما العامل الاقتصادي فهو يتدخل في كل شيء، بدءاً من تحديد الهواية وآفاق توسعها، وما إذا كانت ممكنة أصلاً أم لا.
ويختلف شكل العلاقة ما بين الهاوي وهوايته حسب نوعها. ففي جمع الطوابع مثلاً تكون على درجة عالية من الحميمية، إذ نادراً ما يشاهد أحد غير الهاوي مجموعته. ولكن الحال يختلف تماماً أمام التحف الفنية والسيارات القديمة مثلاً، حيث يتميز دور المجموعة المقتناة بطغيان الظهور الاجتماعي على الأبعاد الثقافية التي يفترض بها أن تميز الهواية الجميلة، حتى تبدو مثل هذه المجموعات وكأنها لم تكن إلا لإظهار المكانة الاجتماعية لصاحبها.
وأخيراً هناك هوايات يرتبط عمرها بظروف تاريخية معينة، وتنقرض فعلاً بتغير هذه الظروف. فمع الثورة العلمية التي شهدها القرن التاسع عشر وتزايد الاهتمام بالأبحاث العلمية، راجت في أوروبا هواية جمع أجنة الحيوانات المحنطة في أوعية زجاجية. ولكن هذه الهواية انقرضت لاحقاً، بعدما انقلبت الدهشة والإثارة العلمية تقززاً من منظرها البشع الذي لا فائدة تثقيفية تُرجى منه.