حياتنا اليوم

لا تقاطعني.. فأنا لم أقاطعك

أدى انتشار البرامج الحوارية في الفضائيات العربية إلى تطوير ثقافة الحوار أكثر من أي وقت مضى سواء لدى المتحاورين أو الجمهور العربي.

في البداية، كان الحوار الفضائي مطبوعاً بنقص في أسلوب وأدبيات الحديث والاستماع. فكان أكثر ما ينتج عنه صراخ متشنج تضيع خلاله مجمل الأفكار المطروحة. وكذلك كان الحال لدى المتصلين عبر الهاتف، وكثير منهم يتخبط في إيصال الفكرة التي اتصل من أجلها، في حين اتجه آخرون نحو التجريح الشخصي بدلاً من نقد الفكرة التي يطرحها الخصم بشكل موضوعي.

ورغم سلبية المعطيات السابقة، إلا أنها أدت إلى نتائج إيجابية. وفجأة اكتشف كثير من المشاهدين العرب أن ثقافة الحوار التي تطرقت إليها (القافلة) في ندوة هذا العدد هي ثقافة اقتباسية، تتطور بالممارسة وتبدأ داخل المنزل منذ وقت مبكر حين يراقب الصغير ما يدور حوله بين أمه وأبيه وبقية أعضاء العائلة، فيبدأ في التقاط وتلقي مفردات الحوار الدائر وملامح أسلوبه مهما كانت صفته ويقلده ويتأثر به. ويكرر الصغير الأسلوب الأكثر تأثيراً عليه في حواره مع أنداده أو حتى مع والديه ويحمله معه حتى مرحلة تكوين أسلوبه الخاص عندما يخرج من المنزل إلى المدرسة والمجتمع الأكبر حيث تتنوع الأساليب والمواضيع وتتعدد.

بعدما رأى المحاورون في الفضائيات أنفسهم برؤية نقدية، بدأ التشنج يتلاشى تدريجاً، وأصبحت جمل من قبيل “لا تقاطعني فأنا لم أقاطعك” تدل على تنامي الوعي بأدبيات الحوار. ولا ينكر أحد منا كمشاهدين أنه استفاد أيضاً ولو نسبياً من هذه البرامج الحوارية في تطوير أسلوب ومفردات حواره بعد أن شاهد الناس قبح التشنج على الهواء وأثره في نفس المتلقي، كما شاهدوا وأحسوا بعمق تأثير من يبدو أنه صاحب المعلومة الهادئ الواثق مما يقول.

وما تعلمه الناس أيضاً، هو أن الحوار الحقيقي يدور في الغالب بين قناعات فيها خلاف وإلا كان الحوار من قبيل “الدعوة في المؤمنين”. كما تعلّموا أن المحاور الجيد هو من يمتلك عادة، إلى جانب المعلومات الدقيقة والمتعددة، معرفة جيدة بالأفكار والسيكولوجية الشخصية لخصمه في الحوار وقراءة مواطن القوة ونقاط الضعف فيها، لكي يوظف ذلك كله في بناء استراتيجية للحوار تتجنب العاطفة، وتسخّر أساليب المناورة لصالح فكرته بطريقة جذابة.

لعل ذلك التأثير يستمر ويتغلغل حتى يصبح منهجاً للحوارالإيجابي بكافة أشكاله ومع كافة الناس الذين نخالفهم الرأي. أي أن يضع الإنسان نصب عينيه هذه الأدبيات والأساليب المؤثرة، وأهمها رحابة الصدر للرأي الآخر والابتعاد عن التشنج والعصبية حتى وهو يحاور أبناءه وزوجته وسائقه وزملاءه والإنسان الذي يختلف معه في الشارع. هنا ستصبح ثقافة الحوار سبيلاً للوصول إلى عقلنة الخلاف، واستئصال التصادمات في المجتمع من البيت إلى الفضاء.

أضف تعليق

التعليقات