قصة مبتكر
قصة ابتكار
صموئيل فينلي مورس
الزر
ما من مبتكر مثير للدهشة من حيث تنوع الاهتمامات كما هو حال الأمريكي صموئيل فينلي مورس، الذي يُقال إنه يلخص بمفرده مفهوم العالِم المبتكر كما كان عليه في القرن التاسع عشر. ولد مورس في ولاية ماساشوستس الأمريكية عام 1791م. وظهرت موهبته الفنية باكراً عندما رسم صورة والده على درج المكتب وهو في الرابعة من عمره. أرسله والداه في العام 1805م إلى جامعة يال لدراسة الكيمياء والفلسفة. وهناك تابع على هامش دراسته محاضرات في الكهرباء كان يلقيها البروفسور جريميا داي. وفي أوقات الفراغ كان يرسم. عاد إلى بوسطن ليدرس فن الرسم عند واشنطن الستون المعروف. وفي العام 1811م، سافر إلى لندن لمتابعة الدراسة في الأكاديمية الملكية للفنون. وحظي بشهرة كبيرة في مجال رسم صور الشخصيات. وفجأة في العام 1818م وعلى هامش الرسم، اشترك صموئيل مع أخيه سيدني في العمل على اختراع نوع جديد من مضخات الماء! وبعد ذلك، في العام 1823م اخترع جهازاً ميكانيكياً لقطع الرخام كان يتوخى منه إمكانية نحت عدة نسخ متطابقة تماماً من أي نموذج. وعاد شغفه بالكهرباء إلى الظهور سنة 1832م، عندما كان في باريس، وحضر مناقشات عديدة حول هذا الموضوع، وهناك خطرت في باله فكرة أسرّ بها إلى أحد أصدقائه قائلاً: "إذا كان من الممكن أن نجعل مرور الكهرباء في الأسلاك مرئياً بأي شكل وفي مرحلة معينة، فلا أرى سبباً يحول دون نقل المعلومات فوراً عبر الأسلاك". وبدأ الرجل العمل على مشروعه. اختصر الأبجدية أولاً إلى رموز مؤلفة من خطوط قصيرة ونقاط. وبدأ في نيويورك العمل على مشروعه عام 1835م. وتوصل لاحقاً إلى تصميم أول جهاز نقل الرموز المرئية المتعارف على تمثيلها للأحرف ضمن أسلاك بلغ طولها 1700 قدم. وأجرى التجربة الأولى بنجاح في العام 1837م. فكانت المرة الأولى التي يتم فيها نقل معلومة معينة بواسطة الكهرباء. وخلال سنوات قليلة انتشر اختراعه في العالم بأسره. وبناء على طلب من الامبراطور الفرنسي نابليون الثالث اجتمع ممثلون عن فرنسا والنمسا والسويد وروسيا وسردينيا وهولندا والسلطنة العثمانية وتوسكانة وأقروا في باريس سنة 1858م، مكافأة مشتركة لمورس مقابل حق استعمال اختراعه، بلغت قيمتها 400 ألف فرنك ذهبي..! طغت شهرة الاختراع على قيمة لوحات مورس التي كادت أن تدخل طي الإهمال والنسيان، إلى أن أقيم معرض استعادي لأعماله في العام 1932م أعاد الاعتبار إلى قيمتها الفنية وعبقريته. وكان المعرض مناسبة ليكتشف العالم أن مخترع التلغراف الكهربائي لم يكن رساماً فقط، بل أيضاً شاعراً نشر عدداً من القصائد في مجلة "أمريكان ريڤيو" وحرر كتاب "بقايا لوكريشيا ديڤدسون" (1829م)، وألف مجموعة كتب حول السياسة والحريات. توفي مورس في العام 1872م، ويقال أن ورثته لم يعثروا من بعده على تركة تستحق الذكر، إذ كان قد عمل على توزيع ثروته الطائلة خلال حياته على المؤسسات العلمية، والجامعات (يال وفاسار) وصولاً إلى الفقراء من طلاب الفنون.
الزر، ذلك الشيء الصغير الذي يعيش معنا مثبتاً إلى ثوب أو سترة أو قميص، والذي لا نعيره اهتماماً بل نعتبره تافهاً وقد نضرب به المثل لضآلة قيمته، هو في الحقيقة تجسيد لابتكار متقن وتصميم فريد ولمواد ذات قيمة. وأول ما عُرف الزر كان في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد. إذ وجدت في إحدى قرى الهند صدفة منحوتة على شكل تعويذة تم قدح ثقبين فيها ويُعتقد أنها كانت تستخدم زراً. وعثر ستيوارت بيغوت، وهو منقب، على أزرار من الكهرمان الأسود في مواقع شمال إنجلترا واسكتلندا يعود تاريخها إلى بداية الألفية الثانية قبل الميلاد. وربما كان هذا الاكتشاف مؤشراً إلى سبب عدم استخدام البريطانيين في ملابسهم الدبابيس على غرار ما كانت الموضة عليه في منطقة البحر المتوسط إلى ما بعد الميلاد. في أواخر العصور الوسطى شاع الزر كوسيلة للزينة في تصميم الملابس. وكلمة زر باللغة الفرنسية Bouton انبثقت من فعل Bouter، أي فعل الزخرفة عل حواشي الكتب أو الأدوات المعدنية. ومع نهاية القرن الثالث عشر الميلادي اعتمدت الملابس في إنجلترا على الأزرار كزينة وكانت إما من الفضة أو المعدن المطلي بالذهب. وتطورت موضة الأزرار في القرن الرابع عشر الميلادي وصار يستخدم في صناعته النحاس والكريستال والزجاج أو المعدن المكسو بالقماش، وكانت تزين أكمام فساتين النساء من الكتف إلى الكوع. وتم العثور على كثير منها في المقابر الأثرية. وكانت هذه الأزرار تشير إلى مكانة صاحبها. فإذا كان الزر من حجر السفير والذهب والفضة والصدف فهذا يدل على مكانة مميزة لمستخدمه في السلم الاجتماعي. ولم تصبح الأزرار شعبية إلا عندما أصبحت رخيصة الثمن. وكانت برمنغهام تحولت إلى مركز للصناعة البريطانية للأزرار في القرن الثامن عشر الميلادي، وراح ثمن الزر يتدنى كلما زاد العرض، ودخلت المكننة في هذه الصناعة. في بداية القرن التاسع عشر الميلادي عُرفت الأزرار المكسوة آلياً بالأقمشة أو بقطع من "الكانفا" المشغولة، ونافست هذه الأزرار أغلى الأنواع منها، لكن الأزرار المعدنية بقيت لها هالتها على البزّات الرجالية وتحديداً بزّات النبلاء. أما أزرار فساتين النساء فتفنن صانعوها بتحويلها إلى قطع فنية أشبه بلوحات رائعة ومنحوتات من العاج والصدف والأحجار الكريمة والبورسلين والمينا والموزاييك وصدف اللؤلؤ. إلا أن موادّ أخرى دخلت هذه الصناعة مساهمة في خفض ثمنها. فخلال القرن التاسع عشر الميلادي صارت الأزرار تصنع من الخشب وحوافر الماشية وقرون الحيوانات وعظامها، وحتى من بذور نباتية. ودخلت في القرن العشرين مواد البلاستيك والأحجار الزائفة في هذه الصناعة، ولم تعد صياغة الزر فنّاً يدوياً إنما آلياً. لكنّ الابتكار في شكل الزر لم يتوقف ومنها أشكال قد لا تخطر على البال. وتراجعت الأزرار أمام وسائل جديدة واكبت الحياة العملية للبشر. فحلّ السحّاب على أنواعه محل الزر ثم اللاصق النسيجي... وتكاد موضة الأزرار تختفي عن الأزياء العصرية بعدما ظهرت الأقمشة المطاطية. وصار لهذا الابتكار الذي يعود إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين هواة يجمعون المميز منه كقطع نادرة.