قضايا

ندوة القافلة تُناقش ثقافة الحوار..
من يعرف أكثر يُحاور أفضل

  • 20-21mod
  • 22n
  • 23b
  • 23bn
  • 24an
  • 24bn
  • 25n

كيف تُبنى ثقافة الحوار؟ من يبنيها ومن يتعهدها بالسقاية والرعاية حتى تؤتي أكلها على صعيد المجتمع والوطن ككل؟ ما هي منطلقات الحوار الذي نبتغيه وإلى أين سنصل معه. وكيف نضمن، من خلال الحوار، أن نلتقي على المصلحة العامة التي ينتفع بمعطياتها ونتائجها الجميع؟ القافلة اختارت “ثقافة الحوار” عنواناً لندوتها الثانية ضمن خطها التحريري الجديد، واستضافت لهذا الغرض عدداً من قادة الرأي الذين أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع، الكبير الأهمية والكثير الحساسية، من خلال الأسئلة والأجوبة التالية..

_ القافلة: نود، في مستهل هذه الندوة الصحفية، أن نشكر الجميع على مشاركتهم في النقاش عن ثقافة الحوار، ونشكر، بشكل خاص، أولئك الذين تجشموا عناء السفر من الرياض وجدة ليسهموا بآرائهم في هذا الموضوع. إن الأمر الذي يتبادر إلى الذهن هو وضع تعريف للحوار، أو تحديد مفهوم له. الحوار كحوار وكممارسة إنسانية، كيف نفهمه أو كيف نتداوله؟ لنبدأ من عند الأستاذ سلطان البازعي..
_ سلطان البازعي: شكراً أولاً، بالإنابة عن الجميع، على هذا الترحيب الحار بنا، وثانياً أرى أن الحوار هو البديل المنطقي الحضاري للصدام بين طرفين، ومفهومه الأساس هو القبول بأحقية الآخر في الاختلاف، وأحقيته في أن يكون له رأيه المستقل الذي لا يُفرض عليه من طرف آخر. وكمجتمع؛ يبدو لي أننا لم نخرج، بعدُ، من مجتمع السلطة الأبوية المفروضة على المجتمع: سلطة الأب في المنزل، سلطة المدرسة. وكل صاحب سلطة يفرضها على آخرين من دون أن يتيح لهم فرصة إبداء وجهة نظرهم. وقليل منا من يتيح لنفسه فرصة الإصغاء إلى صوت أبنائه وآرائهم حتى في قضايا المنزل المشتركة. وما يحدث هو أن الأب يفرض سلطته ذات الاتجاه الرأسي.

هذا، في نظري، يدعونا إلى الاعتراف بوجود نقص في إمكاناتنا الحوارية، وهذا النقص قد يقودنا إلى حالة من الاحتقان. والتوجه الذي ننشده جميعاً هو ذلك التوجه الذي بدأت ملامحه في إرساء مبدأ الحوار الوطني. وكون هذا التوجه صادراً من قبل أعلى سلطة في البلاد فإنه يكشف عن حرص القيادة على أن النسيج المتكامل للوطن هو نتاج اختلاف وتحاور بنّـاء. وهو ما يفرض ـ بدوره ـ علينا أن نؤسس لهذه الثقافة في دواخلنا جميعاً، منطلقين من البيوت والمدارس، وعلاقاتنا بجيراننا ورؤسائنا ومرؤوسينا.. بل يجب أن تـُبنى شبكة علاقاتنا الاجتماعية على فهم أن العلاقة الإنسانية هي طريق ذو اتجاهين يتقابلان: الرأي والرأي المقابل. ومجتمعنا يمر بمرحلة تحوّل كبير، ومسؤوليتنا هي أن نساند هذا التوجه، حتى يعبر هذا المخاض بسلام وبأقل قدر ممكن من الخسائر.

_ د. مبارك الخالدي: في هذا المحور، محور المفهوم العام للحوار أرى أن مبدأ الاعتراف بالآخر يتصل به مبدأ لا يقل أهمية، هو مبدأ حق الآخر في امتلاك جزء من الحقيقة. بمعنى أن الحقيقة هي أشبه ما تكون بفيل أفلاطون. فيل أفلاطون يعيش في غرفة مظلمة، وحول هذا الفيل مجموعة من الناس، هذا يمسك
بخرطومه، وذاك يمسك بقدمه، وآخر بجزء آخر من جسد الفيل، والمعنى هو أن الجميع يتشاركون في الإمساك بأجزاء من هذه الحقيقة/ الفيل، ويعرّفها من مفهومه ووعيه في مناخ لا تنقصه الحرية.

_ حسن السبع: سأبدأ إجابتي من المنطلق الذي بدأ منه الأستاذ البازعي، وسأروي قصة صادفتني. فذات يوم لمحتُ في ظهر سيارة تقف أمامي ملصقاً طـُبعت عليه عبارة بالإنجليزية مؤداها: “أنا أحب الرز!!”. وبطبيعة الأمر فإن هذا النوع من التعبير يصنع ابتسامة، أو استظرافاً، لأن الموضوع ـ ببساطة لا يعبر عن أكثر من رغبة. ولكن الأمر يختلف، تماماً، لو كان مُعبّراً عن فكرة. وما يعرفه البشر عن تاريخ أفكارهم هو أنه تاريخ ملطـّخ بالعنف وبالدماء، منذ سُقراط حتى تاريخنا الحديث. ومرجع هذا التصارع هو الاختلاف في فهم الحقيقة. ولا توجد حقيقة مطلقة. البشر مجموعة من الحقائق الخاصة، فأنت لك حقيقتك وأنا لي حقيقتي. وقربنا – أو بُعدنا – من الحقيقة يعتمد على تجاربنا، ثقافتنا، وبيئتنا.. إلخ.

والمشكلة الأزلية، إذا أذنتم لي بالاستطراد، هي في وجود لغتين في كل حوار غير موضوعي: لغة لك، ولغة لي. أنا لا أسمع إلا لغتي، وأنت لا تسمع إلا لغتك..! ومشكلة الحوار، أيضاً، أننا لا نقدم أفكارنا كما يقدّم الطبيب “الكبسولة” الحلوة المحشوّة بالدواء المرّ..!
وقلة المعرفة مشكلة من مشاكل الحوار. “من يعرفْ كثيراً يغفرْ كثيراً”.. هذه الحكمة ليست محصورة في معرفة اللغة، كما أراد قائلها الأخفش، بل هي حكمة شاملة. وحين نتتبع تاريخ الأفكار والمفكرين فإننا سنعثر على ما يتسم به العباقرة الذين يعرفون كثيراً ويغفرون كثيراً ويستوعبون الآخرين ويحتضنون العالم كله، لأنهم عرفوا أن سرّ جمال هذا العالم يكمن في تعدده وتنوّعه. ولو أراد الله، سبحانه، أن يخلق العالم كله على شاكلة واحدة لفعل، ولكنه، سبحانه، خلقه بهذا التنوع وبهذا الجمال.

يدي في يد الآخر
_ القافلة: الدكتورة أمل الطعيمي، هل لديك إضافة في هذا المحور المبدئي في ظل متابعتك كصحفية لتجربة الحوار الدائر في بلدنا؟
_ د. أمل الطعيمي: من المهم الإشادة بالتجربة التي بدأ مجتمعنا يشهد انطلاقتها. وجلسات الحوار الوطني التي تمت كانت تأسيساً، ونحن، كمجتمع ينقصنا الكثير حتى ندخل من بوّابة الحوار الذي نتوخى منه نتائج كثيرة. وكما أشار الأستاذ البازعي، فإن انعدام الحوار الجدي والموضوعي يهيئ لحالات من الاحتقان، وهذا ما أدركته السلطة العليا في البلاد، فأمّنت إمكانيات التحاور بين فئات المجتمع وشرائحه على مستوى رموز من كل فئة وشريحة. ولكي يؤتي الحوار الوطني ثماره، على مستوى الممارسة اليومية، فلا بدّ من تأهيلنا جميعاً لهذا المشروع المستقبلي، فمعظمنا يفتقر لأسس الحوار، وأياً كانت الاختلافات فإنه يفترض أن أضع يدي في يد الآخر ونبحث معاً عن الحقيقة.

_ الدكتورة ليلى زعزوع: أعتقد بأن وجود فعاليات الحوار الراهنة يُملي علينا، أيضاً، واجب التفاعل مع مسؤوليتنا الذاتية، فننطلق من طبيعتنا البشرية القائمة، أصلاً، على الاختلاف. وجلسات الحوار الوطني تساعدنا في تأسيس العديد من المفاهيم التي يترتب عليها الكثير من الخطوات المستقبلية البنـّاءة، وكنتُ أتمنى لو أن الفرصة أتيحت لوسائل الإعلام لعرض جلسات الحوار على الهواء مباشرة ليكون المجتمع متفاعلاً معها. وبما أننا نعيش مرحلة تحوّل فإنه لا بدّ من تسخير طاقاتنا لجعل المستقبل أفضل، خاصة وأن هناك العديد من القنوات التي تساعد في بلورة التفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع، كالإنترنت والصحافة والفضائيات، فضلاً عن الفعاليات العلمية والمؤتمرات وغير ذلك.

تهيئة المجتمع أولاً
_ القافلة: ما رأيك أستاذ سلطان بما طرحته الدكتورة ليلى حول انفتاح الحوار الوطني مباشرة على وسائل الإعلام، باعتبارك ربما الوحيد بيننا الذي حضر اللقاء الثاني للحوار الوطني الذي عُقد في مكة المكرمة والذي أتيحت فيه فرص ظهور إعلامي؟
_ سلطان البازعي: أولاً على المستوى الشخصي سعدتُ كثيراً باقترابي من تجربة الحوار الوطني في الجلسة الثانية التي عُقدت في مكة المكرمة. وأعتبر نفسي شاهداً على ما سجله الحوار من صراحة ومسؤولية عالية اتسم بها المتحاورون. وأعتقد بأن عقد جلسات الحوار بعيداً عن وسائل الإعلام، في هذه المرحلة، أمر مهم وضروري. ومن المهم أن يُعدّ المجتمع لتلقي مثل هذه الحوارات بالتدريج. وهذا ما يُلاحظ على فعاليات الحوار الوطني، فقد أُنجزت الجلسات الأولى في مدينة الرياض، من دون حضور إعلامي مؤثر قياساً بالحضور الذي حققه في الجلسات الثانية، التي عُقدت في مكة المكرمة. ففي الجلسات الأخيرة كان الإعلام حاضراً، وبقوة، في المؤتمرات الصحافية اليومية التي بُثت على الهواء مباشرة، وطرح المشاركون في الجلسات عروضاً لأوراقهم بدرجة عالية من الشفافية والوضوح، وهي سابقة في تاريخ الإعلام السعودي، ونجاح يُسجل للحوار الوطني.

أثر موروثاتنا في عملية الحوار
_ القافلة: إذا انتقلنا إلى محور آخر من محاور هذه الندوة، وهو تأثير موروثنا الديني والاجتماعي في عملية الحوار، كيف يمكن لنا النظر إلى هذا الموروث المليء بالحقائق والشواهد التي أتت لصالح الحوار. لنبدأ في التعليق على هذا المحور من الدكتورة ليلى زعزوع؟
_ د. ليلى زعزوع: في هذا المجال أستطيع أن أقول باختصار، إن القرآن الكريم والسنة النبوية يسجّلان الكثير الكثير من مستويات الحوار، فهناك الحوار مع الذات، وهناك حوار المسلم مع المسلم، وحوار المسلم مع أهل الديانات السماوية الأخرى، وهناك الحوار مع المشركين. ولا ننسى حوار الخالق، عزّ وجلّ، مع أنبيائه، عليهم السلام. وفي كل هذه المستويات، من الحوار، نقف على مباديء أساسية للتشريع الإسلامي بكل أبعاده.

_ القافلة: هل لدى الدكتورة أمل الطعيمي تعليق في هذا الجانب؟
_ الدكتورة أمل الطعيمي: نعم. أستطيع أن أقول إننا نعيش تراجعاً كبيراً عن الأسس التي أرسى قواعدها ديننا نفسه. وهي قواعد تشكلت في الممارسة العملية التي عبّر عنها الرسول (صلّى الله عليه وسلم) في حواره ودعوته إلى الدين، بدءاً من المرحلة السرية للدعوة، وانتهاءً بالإجراءات الرسمية، إذا صحّ التعبير، التي اتخذتها الدولة الإسلامية بعد نضوجها في الدعوة والتحاور مع الآخرين. القرآن الكريم رصد العديد من الإشارات والقواعد في ممارسة الحوار، ويمكننا الاستشهاد ببعضها: ‭}‬قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ| آل عمران: 64، ‭}‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ| الحجرات: 13، ‭}‬ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ| النحل: 125

حتى في أشد حالات الرفض، كما حدث مع فرعون، يؤكد القرآن الكريم قيمة الموضوعية واحترام الآخر والرقي في الحوار معه: ‭}‬اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى • فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى| طـه: 43 – 44

وحين نحاول ربط هذه الأسس القرآنية بما يحدث في مجتمعنا؛ فإننا نكتشف ما يمكن أن يكون حالة قطيعة بين الأسس والتطبيق. الموروث الاجتماعي يقوم على أساس ممارسة السلطة، واستخدام فعل الأمر: الزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه، والرئيس مع مرؤوسه من دون أن يكون هناك هامش حقيقي للحوار. في حين يقدم لنا عهد النبوة العديد من قيم الحوار، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان على تحاور مستمر مع أصحابه في أمور لا يمكننا حصرها هنا، ناهيك عن تحاوره مع زوجاته وأهل بيته.
حوار، جدال، مماحكة..!
_ القافلة: لكن في ظل هذا الموروث الديني وحتى الاجتماعي الذي يصبّ في صالح عملية الحوار، كيف يمكن النظر إلى شروط الحوار أو كيف نضع صفة أو مجموعة صفات للمتحاور لنصل إلى توفير شروط الحوار الفعّال والمنتج؟
_ حسن السبع: المحاور المنصف يدخل الحوار مقتنعاً بالقاعدة القائلة: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب”. هذا مبدأ من مباديء البحث عن الحقيقة، يتعارض معه مبدأ الدخول في الحوار من أجل الجدل، أو المماحكة. وللإمام علي (كرم الله وجهه) كلمة رائعة في هذه الجزئية، يقول فيها: “ما جادلتُ عالماً إلا وغلبته، ولا جاهلاً إلا وغلبني”، والهزيمة، هنا، ليست نتيجة ضعف في الحجة، ولكن ليأس من قابلية الآخر في التعاطي مع طرحك إلا من خلال إصراره على المجادلة والمماحكة وتصور امتلاك الحقيقة المطلقة. فالمحاور المنصف يمتلك قدرة على الإصغاء، والصبر، والهدوء، بدلاً من اتباعه وسائل المقاطعة، أو التشويش على الآخر. الإصغاء من أجل الحقيقة، وليس من أجل إعداد النقض وإثبات احتكار الحقيقة.

_ سلطان البازعي: في هذا الجانب أرى أن الأسلوب الموضوعي هو أن أدخل الحوار بانفتاح ورغبة في الوصول إلى الحقيقة، وليس الرغبة في تحويل الطرف الآخر إلى حقيقتي أنا.

_ الدكتورة ليلى زعزوع: الحوار طبيعة بشرية، ولا يمكن لبشر أن يعيشوا في مجتمع واحد من دون أن تدور بينهم العلاقة اللغوية التي من بينها الحوار والنقاش. ومن هنا ينشأ الاختلاف. وحين يتصل الاختلاف بالقيم والأفكار والسلوك؛ فإن عيوب الحوار تظهر في مفردات كثيرة مرّ ببعضها الأخوة المتحاورون هنا. ومن وجهة نظري هناك مشكلة جدية أيضاً، هي التركيز على السلبيات، والتقليل من كل المزايا والإيجابيات. وعلى سبيل المثال هناك قضايا المرأة التي يضج الحوار فيها حول السلبي على حساب الإيجابي. وهناك مشكلة التسطيح الذي تحمل بعض فضائياتنا لواءه في البث اليومي، لنشاهد ـ على الهواء ـ محاورات لا يمكن احترامها أو الوثوق بها.

الفرد بلسان الجميع..!
_ القافلة: دكتور مبارك، هل ترى أن هناك إشكالية في توفير الشروط الأمثل للحوار، أي حوار؟!
_ د. مبارك الخالدي: قد يكون من إشكاليات الحوار تحدُّث الفرد بصيغة الجمع، كأن يتحدث زيد عن شريحة اجتماعية قد لا تكون متفقة تماماً مع الطرح الذي يقدمه، وهذا ما يجعل من الانتقائية وسيلة لاختيار المتحاورين.

_ سلطان البازعي: لدي تعليق على هذه النقطة، من وجهة نظري، أرى أن أمام مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني مهمة رئيسة هي التأسيس للحوار الوطني، من خلال استقطاب الشرائح الاجتماعية المختلفة للتحاور الأولي حول قضايا رئيسة مُختلف فيها. ولكل فئة مجموعة تمثلها، إذ لا يمكن فتح باب الحوار في حشد بشري مفتوح على طريقة جمهور كرة القدم. والمقارنة بين اللقاءين، لقاء الرياض ولقاء مكة المكرمة، تفيد بأن وجوه المشاركين قد تغيرت، وهذا التغيُّر استهدف العمل على مشاركة أكثر الشخصيات تمثيلاً لفئاتها، وفي الوقت نفسه، التأسيس للفكرة في المجتمع، ثم التوسع التدريجي الذي يكرّس مباديء الحوار ويُنضج تجربته.

المرأة.. موضوع للحوار
_ القافلة: المرأة كموضوع من موضوعات الحوار أينما كان.. هل تشكّل تحدياً أمام المتحاورين في رأيكم؟
_ د. ليلى زعزوع: المرأة السعودية موجودة وفاعلة في مجتمعها منذ عقود طويلة، ولها أثر في برامج التنمية البشرية، حيث شغلت العديد من الوظائف الحيوية في الطب والتعليم، ناهيك عن الأنشطة التجارية المتنوعة. ومن وجهة نظري أرى أن هناك مشكلة تعانيها المرأة في محافل الحوار. هذه المشكلة هي تكرار الوجوه. ونلاحظ ذلك بوضوح في العديد من الفعاليات التي يتم التركيز فيها على عدد معروف من الشخصيات النسائية ليمثلن بقية نساء المملكة. وهذا ما لا أتمناه لفعاليات الحوار الوطني في لقائه الثالث.

_ سلطان البازعي: من المؤكد أن موضوع المرأة يشكل واحداً من تحديات الحوار الوطني، خاصة أن اللقاء الثالث سوف يدور حول محور المرأة. وأمامنا كمجتمع مصدران للتعاطي مع هذا الموضوع: أحدهما ديني، والآخر اجتماعي. ومن الواضح أن ديننا الإسلامي فيه الكثير من الضوابط فيما يتعلق بحق المرأة، وبالمقابل لا ننكر أن هناك تحفظات اجتماعية. لكن ذلك لا ينفي أن يتحاور المجتمع في موضوع المرأة على النحو الذي يؤسس حلولاً سليمة للعديد من الإشكاليات. فضلاً عن ذلك سيكون حضور المرأة، في اللقاء الثالث، أكثر كثافة من حضورها في اللقاءين السابقين، وبالتالي سيكون الأمر أكثر وضوحاً وشفافية وإعلاناً عن الاحتياجات الجدية المتصلة بهذه القضية، خاصة من قبل شريحة النساء اللواتي يشكلن وزناً واضحاً في القوى البشرية.

_ د. أمل الطعيمي: لا أرى أن مردّ مشكلة “النخبوية” وتكرار الوجوه هو الجهة التي تختار أو المؤسسة التي ترشّح، بل في الكثيرات اللاتي يفتقرن إلى الثقة في أنفسهن. ولديّ من تجاربي الشخصية ما يؤكد وجهة نظري هذه. ففي العديد من الفعاليات الخاصة بكليات البنات ـ مثلاً ـ أرى “أمل الطعيمي” حاضرة بوضوح، في حين هناك المئات اللائي يمتلكن إمكانيات وقدرات علمية وثقافية تفوق إمكانيات وقدرات “أمل الطعيمي”، ولكن هناك ما يقف حائلاً دون خروجهن عن إطار العمل الأكاديمي المحدد.

قواسم مشتركة
_ القافلة: في محور مهم آخر، كيف، في رأيكم، يُفترض أن نتعامل مع القواسم المشتركة التي تجمعنا على حساب ما قد يثير خلافاتنا أو اختلافاتنا إذا صحّ هذا التعبير؟
_ سلطان البازعي: أعتقد أن من المهمّ أن يعرف الآخرون أننا ـ كأي مجتمع إنساني ـ لدينا نقاط قوة، ونقاط ضعف، لدينا آراؤنا المتعددة المختلفة، ولسنا نسيجاً واحداً بالمفهوم الذي أخطأ إعلامنا في تكريسه، فصوّر تجانسنا الوطني على أننا بلا أخطاء وبلا اختلافات. لا شك في أننا نجتمع على قواسم الدين واللغة والمواطنة. غير أننا يجب أن نعي أننا نعيش في إقليم سياسي واحد. ويعود الفضل إلى تكوّن هذا الإقليم إلى دور المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز، رحمه الله، الذي جمع شتات مجموعة من الأقاليم تحت علم واحد. نحن بهذه المساحة الجغرافية العريضة، وبهذا العدد المهم من السكان؛ نمتلك قوة إضافية هي قوة التنوع والتعدد. المواطنون السعوديون ليسوا متشابهين في كل شيء، بل لديهم تعدد ثقافي ومذهبي وفكري، يصنع منهم قوة وطنية واحدة.

_ د. مبارك الخالدي: أنا أؤكد على أن لدينا مجموعة من القواسم المشتركة، وفي مقدمتها الدين والوطن، وهي – بلا شك – تتفرع إلى قواسم ومنطلقات واحدة، في الوقت الذي لا يمكن إلغاء هذه القواسم بسبب وجود اختلافات في البيئة الثقافية أو الفكرية أو الاجتماعية.

_ حسن السبع: دعوني أستشهد مرة أخرى بكلمة شهيرة للإمام علي (كرم الله وجهه) حيث يقول: “الناس إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”. هذا يعني أن القواسم المشتركة بين البشر قائمة على “أخوة الدين” أو “التناظر الخلقي”، فإذا أُضيفت المواطنة واللغة إلى القواسم فمن الأولى، إذن، أن يكون التحاور أكثر حرصاً على التقارب.

_ د. ليلى زعزوع: التنوع الجغرافي للوحدات الإقليمية أعطى ثراءً للحوار الوطني، حيث ظهرت شخصية كل منطقة بتكويناتها الثقافية والاجتماعية، لتكوّن، عبر اختلافاتها، وحدة سياسية واحدة، مهما اختلفت المشارب.

_ د. أمل الطعيمي: في هذا المجال سأستشهد بقوله تعالى: ‭}‬لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ| المائدة: 48. إننا نـُختبر في وسيلة اتصالنا بعضنا ببعض، وتحاورنا، واعترافنا بأن الاختلاف سيظل موجوداً، وقبولنا الآخرين على اختلافنا معهم، وهذه ركيزة من ركائز الحوار.

تطوير إمكانياتنا الحوارية
_ القافلة: لعلنا من خلال ما سبق من حديث في هذه الندوة نصل قبل نهاية هذا الحوار إلى سؤال مهم هو: كيف يمكن لنا، كمجتمع بكل مؤسساته وجماعاته وأفراده، أن نطوّر إمكاناتنا في الحوار لنكسب من هذا الحوار ما فيه صالحنا وصالح مستقبلنا؟
_ حسن السبع: أنا سأستشهد هنا بمادة “التربية الوطنية” التي اعتنت بثقافة الحوار.. هناك عناوين مهمة حول الحوار ومبادئه وأخلاقياته في مناهج التربية الوطنية. وهذا يعني أن المؤسسات التربوية لدينا منتبهة إلى هذه الممارسة الحضارية. ولكن هناك العديد من التساؤلات الخاصة بواقع الحوار في حياتنا اليومية، ودور المنزل، وعلاقة المنزل بالمدرسة والمجتمع. وعلاقة كل ذلك بالتطبيق والممارسة من قبل الأب والأم والأخ الأكبر، والمعلم، ومدير المدرسة.. فهل يتم التحاور والنقاش بين هذه الأطراف عبر المباديء والأخلاقيات التي يُقرّها المنهج الدراسي..؟

_ سلطان البازعي: يتبادر إلى ذهني بعض مفردات التغيير التي يُمكن أن تُفيد من الفعل الحواري بين أفراد المجتمع، مثل: الفكرة التي بدأتها وزارة التربية والتعليم عبر إنشاء مجالس المدارس، ومن شأن هذه الفكرة أن تؤسس لثقافة الحوار في المؤسسات التربوية، فضلاً عن كونها نقلة جديرة بالملاحظة لفكرة عريف الفصل الذي يمثل السلطة المطلقة. فالطالب الذي يستطيع اختيار عريف فصله عن قناعة، سيكون صالحاً في المجتمع. يـُضاف إلى ذلك عودة نظام الانتخابات في الجامعات، نشوء مؤسسات المجتمع المدني، هيئة الصحافيين. من هنا نؤسس ونطور أدواتنا.

دور النخبة الثقافية
_ القافلة: ربما أثقلنا عليكم بأسئلتنا، لكن هذا هو سؤالنا الأخير. ماذا تتوقعون من النخب الثقافية التي يتم الالتفات إليها والبحث عنها كلّما دارت مسألة من مسائل الحوار وثقافته والوعي به؟
_ حسن السبع: قبل انتشار إمكانيات الاتصال كنا نقرأ الكُتّاب والأدباء والمثقفين، ونطالعهم بنظرات مثالية، فلما جاءت الفضائيات والإنترنت انكشف المغطـّى، وصرنا نراهم بكل ألوان الطيف، وصارت مواقفهم من قضايانا تصدمنا. ولكن هذا لا يعفينا من التنبيه إلى ما على المثقف من دور في هذا السياق. وحتى يكون دور المثقف المحلي مؤثراً؛ فإنه يعتمد على الوعي السياسي والاجتماعي، وهو وعي يعني، في حقيقته، تلك الحكمة القائلة: “أعطني أُذُناً أعطكَ صوتاً”. ودور المثقف الذي يسعى إلى التغيير الإيجابي هو أن يرسل صوته إلى أصحاب القرار بمسؤولية.

_ د. مبارك الخالدي: في كل أزمة يُشار بالبنان إلى المثقف ويقفز السؤال: “أين دوره؟”، في حين أن الحقيقة تؤكد أن المثقف ليس صاحب القرار. وحتى يكون للمثقف دور يجب أن يكون للأفراد في المجتمع دورهم أيضاً.

_ د. أمل الطعيمي: لدينا مثقفون، ولدينا متعلمون. ولكن هل كل متعلم مثقف؟ وهل كل مثقف واعٍ..؟ في هذه المسألة أشعر بأننا بحاجة إلى ميزان حساس جداً والكثير من الحكمة والتروّي.

_ سلطان البازعي: المشكلة هي في تعريف المثقف، ولكنني أصادق على توصيف الأستاذ حسن السبع، لِلْمُحاوِر الإيجابي، وهو ذلك العالم الأكثر تسامحاً والأكثر قرباً من هموم المجتمع. نحن نشاهد أحياناً مثقفين يدّعون الوصاية على المجتمع ويعتبرون أنفسهم ذوي أفكار يجب أن تفرض على أفراده. وهذه الفئة لا يمكن أن تؤثر في الناس على نحو إيجابي.

——————————————

المشاركون في الندوة
د. أمل الطعيمي: أستاذ مساعد بكليات البنات بالدمام ومديرة تحرير جريدة اليوم.
الأستاذ حسن السبع: كاتب وشاعر.
الأستاذ سلطان البازعي: مستشار إعلامي، رئيس تحرير صحيفة اليوم سابقاً.
د. ليلى زعزوع: كاتبة وأستاذ مشارك بجامعة الملك عبدالعزيز.
د. مبارك الخالدي: أستاذ مساعد بجامعة الملك فيصل، مشرف القسم الثقافي بصحيفة اليوم.
من القافلة: محمد العصيمي, عبّود عطية, حبيب محمود

أضف تعليق

التعليقات