قضايا

(الكسائي) حسن أبو سعدة..
الطريق إلى مدارس الثغر

  • 66a
  • 66b
  • 66c

من البادية ورعي الغنم إلى دار المعلمين فالتدريس.. وها هم المئات وربما الآلاف من كبار الشخصيات ووجهاء جدة الذين درسوا على يديه، يذكرونه بالخير ويقرّون بفضله عليهم. إنه حسن أبو سعدة، الأستاذ الذي درّس ثلاثة أجيال، والذي يرسم لنا محمد علي الجفري بعضاً من ملامح صورته..

يتذكر حسن أبو سعدة، ابن البادية وسليل المزارعين ورعاة الغنم، وصوله إلى مدارس الثغر النموذجية بجدة لتدريس اللغة العربية عام 1973م فيقول عن ذلك الوقت: “كأني أتذكر ما كان فيه الكسائي أمام ابني هارون الرشيد، الأمين والمأمون”. ذلك لأنه وجد نفسه يدرّس طلاباً أكثرهم من أبناء الأثرياء ووجهاء القوم، ولم يكن ذلك عملاً سهلاً، بل كان فيه السيئ والمستفز إلى جانب الطيب، ولكن حنكة الأستاذ حسن وبساطة أسلوبه، وقدرته على إنشاء علاقة احترام متبادل بينه وبين تلاميذه منحته خلال فترة وجيزة احترامهم وتقديرهم.

درس على يديه من هؤلاء الطلبة الكثير من المسؤولين ورجال الأعمال السعوديين في الوقت الحالي، وكل من هؤلاء يتذكر الأستاذ “أبوسعدة” من جوانب مختلفة تعكس النشاط المتنوع الذي كان يمارسه في تلك المدرسة. فمنهم من درس اللغة العربية في فصله، ومنهم من كان احتكاكه به عن طريق مكتبة المدرسة التي كان يشرف عليها، وآخرون يتذكرونه في المسرح أو عبر الدروس الخصوصية التي كانوا يحرصون على أن يأخذوها منه، حتى الذين كانوا يتلقون دروس اللغة العربية عند غيره في المدرسة. “كل من لم يدرّسه أبو سعدة في المدرسة، يدرّسه في مكان آخر” هكذا يتذكر أحد طلابه حرص الطلبة على الاستفادة من أسلوبه المتميز في التعليم.

كانت مدارس الثغر النموذجية هي المحطة الثانية في رحلة الأستاذ حسن أبو سعدة التعليمية في السعودية، فقد عمل قبل ذلك (عام 1382هـ، 1962م) مدرّساً في مدرسة الفاروق بجدة لمدة أحد عشر عاماً، وكانت تسمى مدرسة الأوائل. وكلما جاء أمرٌ بنقله منها تمسك به مدير المدرسة الأستاذ عبدالله بن سعد القنب. غير أنه انتقل أخيراً إلى مدارس الثغر وبقي هناك بعد ذلك سنين طويلة، وقال فيها “أبو سعدة” الشاعر أبياتاً منها:
أمدارس الثـغر الحبيبـة سيري
في ظل فيصلك الحبيب، وطيري
للعلم والأخلاق ، يدعو فيصلٌ
أنعـم به، من نـاصرٍ ونـصير
قومي إلى العلياء، نبغي ودها
لنصير يوماً، فوق كـل نظير

الرحلة إلى مدارس الثغر بدأت قبل ذلك بكثير. فقد ولد حسن أبوسعدة لعائلة من المزارعين ورعاة الغنم، ولكن بخلاف أبيه عيسى وجدّه ذيب، خرج حسن عن ميراث تلك المهنة عندما أدخله أبوه في المدرسة. وانتقل الطالب حسن في سبيل التعلم من الريف إلى رام الله.. قبل وقوعها تحت الاحتلال الصهيوني. وكانت تلك نقطة التحول الأولى على طريق “الثغر”.

نقطة التحول الثانية كانت عقب تخرجه من المرحلة الثانوية حيث تقدم لبرنامج الابتعاث، وقد وجد نفسه بين من كانوا سيبتعثون لدراسة الثقافة الإسلامية في الأزهر الشريف بمصر بدلاً من رغبته في دراسة الفيزياء بالولايات المتحدة الأمريكية. فترك هذه وتلك، واتجه نحو سلك التعليم عبر باب القسم الداخلي بدار المعلمين في الأردن. وعقد حسن نكاحه على ابنة عمه في ذلك الوقت ووجد نفسه زوجاً وطالباً وهو في السابعة عشرة من العمر.

لم يكن في فم حسن أبو سعدة ملعقة لا من خشب ولا ذهب ولكنه كان راضياً بقسمته إذ يقول: “كنّا نأكل من الزيتون، ونحصد القمح، ونزرع الأرض بالفواكه والخضار، وعندنا من الأبقار والأغنام والدواجن ما فيه البركة، فما نحتاج إلى شيء. كل شيءٍ موجود من خيرات الأرض ومن الحيوانات التي نربيها، إلا أقل القليل، في الكسوة والثياب”.. والخمسون ريالاً في الشهر التي كان يصرف منها خلال دراسته بدار المعلمين لم تكن تكفي لتمكينه من مرافقة زملائه إلى دور السينما وأماكن الترفيه، فصار رفيقاً للكتاب وصارت بالتالي كلمة “الأول” رفيقته خلال مراحل تعليمه. يصف الأستاذ حسن إفلاته من التدريس في مدارس الدولة الأردنية بعد تخرجه، الذي شكل نقطة التحول الثالثة ومجيئه بالتالي إلى السعودية بأنه أشبه بالخيال، لأن من قوانين الدولة في الأردن أن يخدم خريجو دور المعلمين لمدة أربع سنوات في مدارس الدولة مقابل دراستهم فيها.

وقد جاءت البعثة السعودية إلى عمّان، ونشرت إعلاناً لمن يرغب بالتقدم للتدريس في المملكة العربية السعودية، في وقت كان حسن أبو سعدة وأحد عشر صديقاً من أبناء دار المعلمين ينتظرون فيه صدور التعيينات بالمدارس الأردنية. وتقدم حسن أبو سعدة بطلب إلى السفارة السعودية يتطلب إنفاذه التجاوز عن مدة الأربع سنوات المطلوبة بأمر من ملك الأردن. وقد تكفل بالحصول على الإعفاء الأستاذ إبراهيم الحجي المبعوث السعودي، وذلك لإعارة حسن أبو سعدة إلى المعارف السعودية. تم ذلك بعد اقتناع الجانب السعودي بإمكاناته، وبعد نقاش حول الموضوع مع وكيل وزارة التربية والتعليم في الأردن حينها عدنان أبو عودة.

يقول أبو سعدة: “لم يكن في جيبي آنذاك إلا عشرة دنانير، أي ما يقارب المئة ريال، ولكن ربي يَسّر أمري بدعاء والدي.. كنت بأذني أسمع والدتي وهي تدعو بقلبٍ مخلص. والوالد يقول: أطلب من الله أن ييسّر طريقك ويجعل كل إنسان صديقك”.

ولكن ماذا عن مدارس الثغر آنذاك؟
يصف الأستاذ حسن مدرسة الثغر النموذجية بجدة، ومعهد العاصمة النموذجي في الرياض، بأنهما كانا قاعدتين كبيرتين للتعليم والتربية في السعودية. وقد بدأ هو عمله في مدرسة الثغر في أواخر عهد المدير الأول للمدرسة محمد فدا، يرحمه الله، ولكن معظم سنوات عمله كانت في عهد المدير الثاني عبدالرحمن التونسي، يرحمه الله.

عاش الأستاذ أبو سعدة في المدرسة بجهده. عاش فيها كما تعلم وتربى في الأردن على أن يكون رجلاً وفياً، وأن يعطي العمل حقه.

ومما يحب أن يرويه عن ذكرياته في مدارس الثغر قوله: “كان الطلاب إذا رأوني قادماً يتجمهرون حولي إلى أن أصل إلى غرفة المدرِّسين. وكانوا يحرسون سيارتي.. لأنني غرست محبتي في قلوب أبنائي فقدروني، وأعتبر تقديرهم وساماً على صدري.. والحق يقال إن هذه المدرسة أنجبت خيرة الرجالات الذين تسلموا المناصب العليا.. أينما سرت وأينما طوح بي في المكان، أجد أبنائي في استقبالي بثغورٍ باسمة واحترام وتقدير، فمنهم سمو الأمير مشعل بن ماجد، محافظ جدة، وشخصيات أخرى بارزة لا يتسع المجال لذكرها”.

ويضيف من ذاكرته: “كنت أعمل في تدريس طلاب القسم المتوسط والثانوي مادة اللغة العربية. وكذلك قمت بتدريسها على التلفزيون السعودي لمدة أربع سنوات في برنامج “دليل النجاح”. وكنت أتنافس أنا والمرحوم علي الطنطاوي على الاستديو. فكان يقول لي: يا أستاذ حسن – بصوتٍ عالٍ – أنا جئت من مكة! فأقول له بابتسامة: يا عم علي تفضل نحن في خدمتك، كلنا في خدمتك، فيضمني إليه وتلتقي قلوبنا. وأنا حتى أسجل ربع ساعة في التلفزيون، كان الأمر يأخذ مني على الأقل عشر ساعات، ما بين الكتابة والتحضير ونقل طلاب إلى الاستديو في محطة جدة، والتي كان يرأسها الدكتور الأستاذ محمد أحمد صبيحي”.

منذ نعومة أظفاره، وأبو سعدة رجل مجتهد. اللعب في حياته كان ممارسة الرياضة للاحتفاظ برشاقته.. لكنه عندما قابل الأمير ماجد ابن عبدالعزيز، يرحمه الله، قبل بضع سنوات قال له: ما هذه الكرش يا أبو سعدة؟! فأجابه: لقد مضت أيام الجري معاً في الفجر.. هل تريدني أن أذكرك بها؟! فضحك الأمير.

نعم لقد زاد وزن أبو سعدة، وابيض شعره بعد ثلاثة عقود من تنشئة الأجيال في مدينة جدة.

أضف تعليق

التعليقات