تختلف الحياة في المناطق القريبة من القطب الشمالي، مثل مدينة ترومسو التي تتناولها هذه المقالة، كثيراً عن غيرها من مناطق العالم، وهو اختلاف يشعر به المهاجرون المسلمون أكثر من غيرهم، وعلى الأخص خلال شهر رمضان. ورغم أواصر الوحدة التي تربط بين مسلمي هذه المدينة، فإن الثقافات المختلفة التي يحملونها في رحالهم تكسب مجتمعهم المسلم الصغير في أقصى شمال الأرض نسيجاً متنوعاً حافلاً بالمعالم المميزة، ليصبح هذا المجتمع، رغم سماته الإسلامية الواضحة، جزءاً أصيلاً من المجتمع النرويجي.ومع التغيرات في محيط الحياة يشهد ارتباط العديد من المهاجرين بدينهم الإسلامي بعض التغيرات، إلا أن مظاهر الاحتفال بشهر رمضان وعيد الفطر توثق الصلات بين المسلمين المقيمين في ترومسو من خلال مركز النور الذي افتتح في عام 2005م، والذي يحمل لقب أقصى مساجد الأرض شمالاً. علياء يونس، الكاتبة وصانعة الأفلام، والمصور والكاتب
تور أيغلاند يقدِّمان في هذا الاستطلاع، الذي نشرته مجلة «سعودي أرامكو وورلد» في عددها يناير/فبراير 2012م، وترجمته إلهام زهران، بانوراما حياتية للمسلمين خلال الشهر الكريم في النرويج التي تُعد أقصى دولة في الشمال الأوروبي.
بوابة القطب الشمالي
تبدأ الرحلة بالهبوط من على متن السفينة في ميناء ترومسو، بوابة القطب الشمالي النرويجية التي يلفها الضباب وتحوطها حلقة من الجبال، ثم نتجول في الشارع الرئيس المرصوف ببيوته الخشبية ومحاله المطلية بألوان زاهية ما بين الأحمر والأزرق والأصفر، ثم نتجه يساراً قبل محل لبيع الحيوانات الأليفة. وهناك بعد مركز الأدوية الطبيعية تجد مركز النور، وهو مبنى مربع بسيط كان فيما سبق مدرسة رقص وتحوَّل الآن إلى ما يعد الآن أقصى مساجد الأرض شمالاً، وهذه الصفة – أي صفة «الأقصى شمالاً» – هي صفة مشتركة بين مركز النور ومعالم أخرى كثيرة في ترومسو منها أقصى الكاتدرائيات البروتستانتية شمالاً، وأقصى الحدائق شمالاً، وأقصى أوركسترا سيمفوني شمالاً. فهذه المدينة، بموقعها الذي يتجاوز خط العرض 69 شمالاً بمسافة قصيرة ويتجاوز دائرة القطب الشمالي بمسافة 350 كيلو مترًا (215 ميلاً)، هي أبعد مكان يمكن أن تصل إليه من حر ورياح الصحراء في الأرض التي شهدت مولد الإسلام.
وقد أقيم ميناء ترومسو رسمياً في عام 1794م، ليصبح منذ ذلك الحين نقطة انطلاق للبعثات الدولية لدراسة المناطق القطبية. ولهذه المدينة، التي تحتفل هذا العام بالعيد المئوي لوصول البطل النرويجي روالد أموندسين إلى القطب الجنوبي، تاريخ طويل، فمع أن مربي قطعان الرنة كانوا أول من سكنها، فقد اعتادت على قدوم الصيادين وتجار لحوم الحيتان وأسماك القد وجلود أفراس البحر إليها منذ سنوات طويلة، إضافة إلى الباحثين الطبيين العالميين الذين أخذوا يتوافدون مؤخراً بحثاً عن علاجات مستمدة من البحر. أما منذ منتصف الثمانينيات فقد بدأت هذه المدينة، التي يبلغ تعداد سكانها 67,000 نسمة، تشهد قدوم وافدين آتين من مناطق أبعد، وهم مسلموها الذين يبلغ عددهم نحو 1000 شخص، والذين قَدِمَ الكثيرون منهم من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الشمس ومعضلة المواقيت
أول من يقابلك ويرحب بك عندما تتجول في مركز النور هو السيدة حكيمة مبرور، التي تسترجع معنا ذكرياتها عن المرة الأولى التي رأت فيها ترومسو وتقول وهي تضحك: «تزوجت في المغرب من رجل كان يقيم بالفعل في النرويج، وحينذاك تملكني الفرح، كانت الحياة في أوروبا تمثل بالنسبة لي حلماً ساحراً! مثل الحلم الأمريكي، وصلت في أبريل عام 1997م في وقت كانت الثلوج فيه تتساقط بكثافة، حيث سجل ارتفاع الجليد رقماً قياسياً بلغ مترين ونصف المتر (98 بوصة)، ولم أصدق ما رأيته عندما هبطت من الطائرة وقلت لنفسي «مرحباً بحلمي الجديد».
ازدادت الأمور غرابة بالنسبة لها خلال شهرين، ففي شهري مارس وسبتمبر يتساوى طول الليل والنهار في ترومسو، وإن كان الاختلاف يتمثل في أن المدينة تكون في الصيف جزءاً من الأرض التي تشرق فيها الشمس في منتصف الليل وفي فصل الشتاء جزءاً من أرض الليالي القطبية. ففي الفترة من 20 مايو حتى 22 يوليو تظل الشمس ماثلة في الأفق ولا تغرب أبداً، ومن 25 نوفمبر وحتى 21 يناير لا ترى الشمس في الأفق أبداً. في مركز النور يمثل هذ الأمر معضلة فريدة من نوعها بالنسبة للمسلمين، فعندما لا يكون هناك شروق أو غروب فمتى يصلون الفجروالمغرب؟ وماذا عن شهر رمضان عندما يأتي في قلب فصل الصيف أو الشتاء؟
وأضافت ساندرا مريام مو، نائبة مديرمركز النور: «ثار جدل كبير بيننا حول ما ينبغي القيام به في الأيام التي لا تغرب أو تشرق الشمس فيها»، وأضاف زوجها أندرو إبراهيم وينهيم، أمين سجل الجامع والمسؤول عن الوثائق الرسمية للزواج والطلاق والوفاة: «استشرنا في نهاية المطاف أحد الشيوخ في المملكة العربية السعودية عن هذ الأمر فأعطانا فتوى بثلاثة خيارات، اتباع مواقيت الصلاة في مكة المكرمة أو مواقيت الصلاة في أقرب بلدة منا تشهد شروقاً وغروباً للشمس أو تقدير الوقت ووضع جدول ثابت. وقد قررنا أن نتبع مواقيت الصلاة في مكة المكرمة لشهر رمضان خلال الأيام التي لا تشهد شروقاً أو غروباً، أما في الأيام الأخرى فنتبع شروق وغروب الشمس في منطقتنا». واستطرد أندرو قائلاً: «سيأتي شهر رمضان هذا العام في الفترة ما بين 1 أغسطس وحتى 29 أغسطس، وسيبدأ الصوم من الساعة 2:30 صباحاً وقت شروق الشمس حتى الساعة الحادية عشرة مساءً وقت الغروب. وفي أوائل شهر رمضان تساعد درجات الحرارة المنخفضة حتى خلال شهر أغسطس في تسهيل صيام عشرين ساعة ونصف الساعة علينا، ومع نهاية الشهر تشرق الشمس في الساعة الرابعة وخمسة وأربعين دقيقة صباحاً وتغرب في الساعة الثامنة وخمسة وأربعين دقيقة مساءً وبهذا يقل عدد ساعات الصيام إلى 16 ساعة فقط.
رمضان في الشمال الأقصى
كان المرح يعم المكان في ليلة من ليالي الأسبوع الأخير من شهر رمضان داخل مركز النور بعد الساعة التاسعة مساءً، حيث اجتمعت السيدات في أحد أقسام المركز فيما اجتمع الرجال في قسم آخر، وكان الجميع يتحدثون ويتناولون الطعام بينما يطارد الأطفال بعضهم بعضاً بين هذين القسمين. وكانت مائدة الإفطار، التي تناوبت على إعدادها السيدات طيلة الشهر، تعكس في كل ليلة اختلاف نسيج هذا المجتمع وتنوعه، حيث تجد السمبوسة الصومالية والبيلاف العراقي وسلطة المعكرونة الفنلندية والكعكات النرويجية.
وعلى الرغم من أن أعضاء مركز النور يشكلون عائلة واحدة نوعاً ما، فإن انتماءهم إلى ثقافات مختلفة جعلهم يكتسبون خلال تعارفهم تجارب تتجاوز الخبرات البسيطة والواضحة التي يكتسبونها عند التعرف إلى طرق الحياة النرويجية والشعب النرويجي. فقد سألت سيدة باكستانية وصلت حديثاً للنرويج سؤالاً لسيدتين فلسطينيتين قابلتهما لأول مرة: «هل تتحدثان معاً باللغة الفلسطينية؟» وهنا أوضحتا لها مبتسمتين أن لغتهما هي العربية على الرغم من إدخال بعض الكلمات النرويجية والإنجليزية في الحوار. وبعد تناول طعام الإفطار تنتظم ساندرا وحكيمة و10 سيدات أخريات في صف واحد لإقامة الصلاة مستقبلات القبلة ناحية الجنوب الشرقي باتجاه مكة المكرمة، وتلتصق الكتف بالكتف في ذلك المصلى ذي الأثاث القليل. وتعمل ساندرا مترجمة تترجم النصوص الإسلامية من الإنجليزية إلى اللغة النرويجية، وتقول: «معظم الناس هنا يقرأون القرآن باللغة الإنجليزية لأن الترجمة النرويجية للقرآن ليست دقيقة، ونحن نعمل على تحسين هذا الأمر».
يبلغ عدد أعضاء مركز النور نحو 450 عضواً، وينتشرون في كافة أنحاء المدينة، هم وغيرهم من المسلمين غير المواظبين على الحضور إلى المسجد من بين سكان البلدة، ومنهم المهندسون والباحثون الطبيون وأصحاب المحال والطباخون وجميع الوظائف الأخرى تقريباً.
التأقلم مع عالم جديد
حط أول المهاجرين المسلمين رحالهم في ترومسو في عام 1986م عندما افتتحت الحكومة مركزاً للاجئين في هذه المدينة ورحبت بمجموعة من اللاجئين الإيرانيين. ويمثل اللاجئون الصوماليون اليوم أكبر جالية بين اللاجئين في ترومسو وفي النرويج ككل، فيما يمثل المغاربة أكبر جالية من المهاجرين المسلمين القادمين بحثاً عن العمل في ترومسو، أما عدد النرويجيين الذين تحولوا إلى الدين الإسلامي مثل ساندرا فهو قليل للغاية.
وتستقبل النرويج مايقرب من 15000 لاجئ سياسي سنوياً، وفي عام 2010م استقبلت أكثر من 2000 لاجئ صومالي ومثلهم تقريباً من اللاجئين الأفغان والإريتريين. وكما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية الأخرى، تمنح النرويج تأشيرات لما يقرب من 20000 عامل سنوياً، معظمهم من السويد وأوروبا الشرقية وبلدان أخرى في قارتي آسيا وإفريقيا، عن طريق القرعة. ويجب على المهاجرين تعلم اللغة النرويجية والحصول على وظائف جديدة إلي جانب التأقلم على المكان الجديد، ويعني التأقلم في هذه البلدة بجانب الأمور الأخرى الانضمام الى الحشود في المطاعم المزدحمة المطلة على البحر لتذوق الأكلات الشعبية التي تتضمن لحم الحوت المدخن وقطع لحم الرنة وحساء الفقمة. وأضافت ساندرا: «لقد علَّمت عدداً من أصدقائي في مركز النور كيفية إعداد كعكات السمك النرويجية اللذيذة»، وأضافت إنه بالنسبة لها ولزوجها وأطفالها الستة يُعد لحم الرنة هو اللحم المفضل عندهم، ولكنها ترى أن أكثر ما يثير شهية المهاجرين هو ما تهبه لهم ترومسو من أطعمة بحرية. ويعني التأقلم أيضاً الاشتراك في شهر فبراير من كل عام فيما يطلق عليه على سبيل الدعابة «ترومسو فورميولا وان»، وهي بطولة تزلج الرنة التي تقام في الشارع الرئيس بالمدينة. وفي فصل الصيف، وتحديداً في أيام ترومسو المشمسة الجميلة، تخرج الجموع من المقاهي المقامة على الأرصفة إلى الشوارع ويتناول الأصدقاء القهوة معاً، وبعد انقضاء ساعات النهار، وفيما يفطر الصائمون في مركز النور، تدب الحياة في الملاهي الليلية العديدة في ترومسو.
ومع التغير في محيط الحياة وفي الطعام واللغة يشهد ارتباط العديد من المهاجرين بدينهم الإسلامي بعض التغيرات، وتعلق حكيمة على هذا الأمر مشيرة إلى أنها نشأت في المغرب وكانت علاقتها بالدين محدودة، ولكن بعد وصولها إلى النرويج صادقت نرويجيتين مسلمتين وتعجبت من مدى التزامهما بالدين الإسلامي رغم أنهما لم تولدا مسلمتين، وأضافت قائلة: «بدأت أتعرف إلى تعاليم ديني من خلالهما». أما زوج حكيمة فلم يكن له وجود كبير في حياتها بعد طلاقهما منذ أربع سنوات، وقد علقت قائلة: «لو لم تجبره الحكومة النرويجية على دفع نفقة الأطفال لما دفعها»، وتعيش حكيمة مع أولادها الذكور الثلاثة الآن في منزل أبيض صغير مؤثث ببعض قطع الأثاث القليلة على أحد الطرق الجبلية في ترومسو ويستخدمون الدراجات أو الحافلة في تنقلاتهم أو يسيرون على الأقدام، وتقول: لا يحتاج أحد إلى سيارة هنا، وأن بإمكان المرء التجول في الشوارع في أي وقت دون أدنى خوف سواء صباحاً أو مساءً، وهو أمر عرفته من خلال تجاربها في البلدة، حيث عملت لعدة أعوام كخبازة في البلدة وكان عملها معظمه ليلاً.
وخلال هذا الشهر توقظ حكيمة أولادها في الثالثة صباحاً لتناول وجبة السحور، وتضيف قائلة: «لم أطلب منهم الصيام، هم يحبون الذهاب إلى المسجد لتناول الإفطارهناك، ويعدون بعضاً من الأفراد في الجامع آباء لهم». ويتحدث أطفال حكيمة العربية والنرويجية بسهولة وخاصة ابنها أسامة الذي يبلغ من العمر 10 سنوات ويتسم بنزعة اجتماعية، وتقول حكيمة: إنها تدرك أن أولادها نرويجيون لأنهم يحبون الجليد، فيما يقول أسامة إنه لا يريد أن يغادر النرويج أبداً، ويشير إلى جلد حيوان معلق على الحائط وتراه كثيراً في بيوت ترومسو ويقول: «هذا ليس بحيوان الفقمة، إنها بقرة مغربية». وعندما سئل عن رأي أصدقائه في المدرسة في صيامه لشهر رمضان ابتسم وقال: «تعجبهم قدرتي على أداء جميع التمارين الرياضية دون تناول الماء أو الطعام». وتدرك حكيمة، التي تدرس الهندسة البيولوجية في جامعة ترومسو وتتمنى أن تحصل على درجة الماجستير في يوم من الأيام، فهي بسبب ظروف عملها ليلاً لا تقضي الوقت الكافي مع أبنائها في الوقت الذي يقتربون فيه من سن المراهقة.
أقصى جامعات الأرض شمالاً
تُعد جامعة ترومسو (وهي أقصى جامعات الأرض شمالاً) أكبر جهة عمل في المدينة، والسبب في تضاعف تعداد ترومسو منذ افتتاحها في عام 1973م. ويعلق البروفيسور راندي رونينج بالسفيك قائلاً: «إن وجود التيار البحري الخليجي يميزنا عن الأماكن الأخرى الواقعة على خط العرض ويمنحنا مناخاً معتدلاً نسبياً، حيث يصل متوسط درجة الحرارة في شهر يناير إلى 5 تحت الصفر (23 درجة فهرنهايت) فقط، ولذلك كانت بلدتنا دائماً مركزاً لإصلاح السفن وللتجارة ولصيد الفقمة بصفة خاصة ولتجميد الأسماك وتعليبها، لكن هذه الصناعات قد انهارت، وأصبحت لدينا الآن صناعة المعلوماتية، فنحن الآن مركز للتقنيات المتطورة والأبحاث الطبية، لاسيما في مجال أبحاث البحار البيولوجية».
وقد كانت هذه الجامعة سبباً في قدوم بلال وميسون الجابري، وهما شابان في أوائل الثلاثينيات من العمر منذ 4 أعوام من حلب بسوريا. وقد حصل بلال على شهادته الطبية في الجامعة ويعمل الآن في المستشفى إلى جانب قيامه ببعض الأبحاث في مجال جراحة القلب والأوعية الدموية، فيما تُعد ميسون رسالة الدكتوراة في قسم الجينات الطبية. وقد بحث بلال عن عدد من الجامعات في دول أخرى لكنه وجد أن ترومسو هي الأقل في تكاليفها مقارنة بالجامعات الأخرى، إلى جانب أن لها سمعة طيبة، واستغرق تعلم اللغة النرويجية منهما عامين.
ويعيش بلال وميسون مع ابنتيهما، ليني (4 سنوات) وسناء (سنتان)، في منزل ذي طابقين يمتلكانه، ويتبعان توقيت مكة المكرمة أثناء شهر رمضان، ويبرر بلال ذلك بقوله: «هذا هو الخيار المنطقي الوحيد». وفي هذه الأثناء كانت ميسون تضع على السفرة وجبة الإفطار التي تضم، إلى جانب الأكلات السورية التقليدية مثل السوس وشوربة العدس، سمك السالمون الطازج مع صلصة الشبت ونوعين من البطاطس. وأحياناً ما تتشابه الأكلات فيما بين المطابخ المنتمية إلى أصول مختلفة، فكلا المطبخين السوري والنرويجي يفضلان إضافة الهيل إلى مقبلات الطعام والحلويات، كما أن السوس السوري، وهو عبارة عن مشروب مصنوع من جذور العرقسوس، يُعد أحد المشروبات الشائعة في ترومسو بدليل منتجاته الكثيرة ذات العلامات التجارية المتنافسة التي تشغل مساحة كبيرة على الأرفف في محلات البقالة.
ومع أن معظم جيران أسرة الجابري هم من النرويجيين، فأحياناً ما يتناول طعام الإفطار معهم بعضُ زملائهم ومعظمهم من الأطباء والباحثين من ذوي الجذور العربية، ويمزح أحدهم دائماً قائلاً إنه «أقصى سوريي الأرض شمالاً». ويتحدث بلال عن الحي الذي يسكن فيه قائلاً: «رغم أنهم يطلقون على هذا الحي اسم حي الأطباء، لكن على سبيل المثال فإن أحد سكان الحي يعمل في مجال البناء. ورغم التباين الذي تراه في درجات التعليم هنا، فليس هناك تباين أو اختلاف كبير في الأجور كما هو الحال في الشرق الأوسط». ويتمنى الجابري وزوجته العودة إلى مسقط رأسهما في يوم من الأيام لكي يفيدا وطنهما الأصلي بما تعلماه هنا، ويقول بلال: « أتمنى أن أرى مركزاً للأبحاث من الدرجة الأولى في حلب»، وتتفق ميسون معه في هذا الرأي.
وبغض النظر عن التوقيت الذي يتبعه المسلمون في ترومسو في مواقيت الصيام والإفطار، فإنهم لايزالون يفطرون بالطريقة التقليدية، حيث يبدأون الإفطار بتناول تمرة، ومعظم التمور هنا تأتي من سوق ألانيا الدولي، الذي يمتلكه حسين وسيودا كارتاي وهو واحد من ثلاثة محال لاستيراد الأطعمة في ترومسو. وهذه الأطعمة المستوردة لا تمكث طويلاً على الأرفف، ففي صباح أحد الأيام سأل شاب أمريكي حسين كارتاي عن أحد أنواع الفلفل الكوبي يسمى الهبانيرو قائلاً: «متى تحضرون الهبانيرو؟»، فرد حسين قائلاً: «تأتينا الخضراوات الطازجة في يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع، وبقدوم يوم السبت تكون كلها قد نفدت». وتغطي جدران هذا المحل من الأرض إلى السقف أرفف ممتلئة عن آخرها بعلب وبرطمانات بمعلبات الأغذية الآتية من مناطق مثل الشرق الأوسط وتكساس والمكسيك، والكثير من هذه البضائع أحضرت إلى ترومسو بناءً على طلب المستهلكين الذين ينتمون إلى مختلف أرجاء العالم.
لم يكن بإمكان حسين عندما أتى إلى هنا لأول مرة في عام 1996م امتلاك مثل هذا المحل، وهو يعلِّق على تلك الأوقات بقوله: «في الماضي، عند رؤيتى لشخص أسمر اللون أو بشعر أسود كنت أشعر بالرغبة في أن أصيح قائلاً أهلاً بك يا أخي، لكن اليوم هناك عدد من الأشخاص من عدد من الأماكن، على الرغم من أنه لا يزال يغلب عليهم الطابع النرويجي، نصف عملائي من النرويجيين، حيث أصبحوا الآن يحبون طهو المأكولات الأجنبية».
جاء حسين إلى هنا من موطنه الأم تركيا، حيث كان يعمل هناك في مجال السياحة، وهناك قابل إمرأة نرويجية حضر معها إلى موطنها وتزوجها، ورزقا بابن هو الآن في الخامسة عشرة من العمر. وأضاف: «عندما تم الطلاق بيننا زرت تركيا وعرفتني أسرتي هناك على سيودا، وهي كردية مثلي، وعندما عادت معي إلى هنا لم تعجبها فكرة امتلاكي لمقهى يقدِّم الكحوليات، وبالفعل رأيت ما كنت فيه من نفاق، وفي عام 2002م افتتحت هذا المحل بدلاً من المقهى». ولدى حسين وسيودا طفلان، وهو يقول إن أسرته نرويجية جداً، حيث يتزلجون على الجليد ويتنزهون في الجبل ويقطفون التوت الأزرق في فصل الخريف، ويضيف: «يلعب أبنائي كرة القدم ويسبحون، ولديهم فرص أكثر هنا»، لكنه في فصل الشتاء خلال ساعات عمله التي تبلغ 12 ساعة، يفكر دائماً في تركيا، ويقول: «الظلام والبرد يعدان من المشكلات الكبيرة هنا، الحياة هنا مملة وتسبب التوتر والاكتئاب، من الصعب العيش هنا لمدة طويلة». ومن غير المتوقع، بسبب الأحوال الجوية وغلاء المعيشة، أن تمتلئ ترومسو بالمهاجرين، فالحكومة النرويجية تلزم المهاجرين بالبقاء في المدينة المحددة لهم عند قدومهم لمدة عامين على الأقل، وبعد هذه المدة يتوجه الكثيرون جنوباً إلى أوسلو أو إلى بيرغين.
ويقول إينار أرني دريفينز، الأستاذ بجامعة ترومسو: «هناك عدد من الدراسات التي توضح أن بعض الأشخاص يصابون بالاكتئاب في الأيام التي لا ليل فيها وليس في الأيام المظلمة». وإينار نفسه يحب كلاً من الشمس والظلام، وهو من أبناء المنطقة ويعد مؤرخاً بارزاً لتاريخها، ويستطرد قائلاً: «ليست الهجرة وتعدد الثقافات بالشيء الجديد على منطقة الشمال الأقصى كما هو الحال في أوسلو وجنوب النرويج، فمنطقة الشمال الأقصى لم تكن في أي وقت من الأوقات تتمتع بالتجانس العرقي الذي نراه في الجنوب، فلدينا الساميون (مربو الرنة من السكان الأصليين وهم معروفون بمهاراتهم في القنص وصيد الأسماك ويعيشون في مختلف أنحاء اسكندنافيا القطبية)، ولدينا مجموعات كبيرة من الفنلنديين الذين أتوا في القرن التاسع عشر. أما ترومسو، ونظراً لموقعها التجاري وكونها مركزاً للاستكشافات القطبية واستخراج البترول حالياً، فكانت دائماً تشهد قدوم الناس للعيش بها لفترة طويلة من الزمن. أما الجديد مع قدوم المسلمين فيكمن في أنهم ينتمون إلى جزء مختلف من العالم، لذلك أعتقد أن الفجوة قد أصبحت أكثر اتساعاً عما كانت عليه في الماضي».
ويقصد دريفنز بكلمة الماضي «أوائل القرن العشرين» وجهود الحكومة «لنروجة» الأقليات وخاصة الساميين الذين أجبروا على التخلي عن أساليبهم وثقافتهم التي تختلف عن حياة المناطق الحضرية. أما الآن فإن معظم سكان ترومسو، وخاصة الذين يمتلكون تراثاً سامياً مثل دريفنز، يشعرون بالخجل من هذا التاريخ، بل وتبذل الآن جهود عكسية لتعزيزالهوية السامية وفي الوقت نفسه تقبل الآخرين كما هم عليه.
الطقوس الدينية في ترومسو
ليس كل الوافدين الجدد على المدينة من المسلمين، حيث تمتلئ المقاعد الخشبية بالكنيسة الكاثوليكية في أيام الآحاد بالأفارقة والهنود، إلى جانب عمال الفنادق والخدمات من بولندا وليتوانيا. ونظراً للطابع العلماني الغالب على النرويج، نجد أن كاتدرائية ترومسو، وهي كنيسة تتبع المذهب اللوثري وتمثل معلماً مهماً من معالم هذه المدينة، لا تستقبل أعداداً كبيرة من الحضور. وعندما تسأل أحد المواطنين الأصليين عن ممارساتهم الدينية تكون الإجابة المعتادة على النحو التالي: «نذهب للكنيسة عادة لحضور الاحتفال بالكريسماس وحفلات الزفاف ومراسم الجنازات».
وتتذكر ساندرا هذا الأمر منذ طفولتها، ويتجلى شعورها بالفخر بتراثها في ترومسو عندما تشير إلى المكان الذي كان جدها يعيش فيه، وتتحدث عن المناطق المفضلة لديها في الريف، وعن ذكرياتها عن إجازتها التي كانت تقضيها في الأكواخ الجبلية، وعن مواقع صيد الأسماك التي تستطيع أن تريها لك لو تحسن الطقس.
وقالت إنها على الرغم من ذلك كانت خلال مرحلة المراهقة محبة للترحال، ولذا أمضت سنوات في السفر والبحث عن المغامرات مع زوجها أندرو الذي قابلته في ترومسو عندما قدم إليها في جولة أوروبية للقفز بالمظلات.
وفيما بعد، وبسبب تعرضه لحادث كسر في عظام الفخذ أثناء ممارسته لهذه الرياضة، عادا مرة أخرى إلى ترومسو، كانت حينذاك في الثامنة والعشرين من العمر عندما بدأت استكشاف النواحي الدينية، وطلبت من أندرو أن يقرأ معها القرآن الكريم حتى تستطيع أن تناقشه مع أحد الأشخاص، ولم يمر وقت طويل حتى اعتنقا الإسلام معاً، وفيما بعد شعرت ساندرا بالحاجة إلى مكان تجتمع الطائفة المسلمة فيه.
وفي عام 2005م، وبمساعدة من أحد المتبرعين، استطاعت الجالية المسلمة شراء هذا المبنى الذي يحمل الآن اسم مركز النور. وتقول ساندرا إن المركز بدأ بنحو 150 شخصاً، ثم بدأ العدد في التزايد بعد إضافة بعض الفعاليات إليه مثل التجمع النسائي الأسبوعي وجلسات مناقشات الأطفال التي تُقدم خلالها وجبة من وجبات ترومسو الأصلية وهي كعكة الوافل بالمربى و«الجيتوست» (وهو جبن نرويجي بني مصنوع من لبن الماعز المكثف) مع القهوة.
وتكثر ساندرا وأبناؤها هذه الأيام من زيارة محل ملابس يبلغ عمره 82 عاماً ويوجد في الشارع الرئيس في المدينة، وهو ملك لوالدتها سونجا كجوير، التي تتحدث عن ديانة ابنتها قائلة: «لم يعد أحد يسألني الآن عن تحول ابنتي إلى الديانة الإسلامية، كان هذا الأمر غريباً في البداية، أما الآن فقد مر 18 عاماً».
وتقول ساندرا وهي تبتسم: «ليس القيام بالترتيبات المطلوبة بالأمر السهل دائماً، فعلى سبيل المثال عندما ذهبت لتأجير قاعة ترومسو الرياضية من أجل العيد لم أستطع إخبارهم باليوم المحدد الذي سأستأجر القاعة فيه، حيث من الصعب توضيح هذا الأمر للأشخاص الذين لا يعرفون شهر رمضان».
وقاعة ترومسو الرياضية هي قاعة للجمنيزيوم تقع في ضواحي المدينة، وفي صباح عيد الفطر تمتلئ القاعة بالمسلمين الذين يأتي بعضهم من مدينة ألتا الواقعة على بعد 400 كيلومتر (250 ميلاً) شمالاً أو من مدينة هامرفيست التي تقع على بعد 540 كيلو متراً (335 ميلاً) باتجاه الشمال. وقد افتتحت هاتان المدينتان في العام الماضي مراكزاً اجتماعية للمسلمين، وإذا حدث وتحولت هذه المراكز إلى مساجد فإنها ستجرد ترومسو من اللقب الذي تتفاخر به وهو امتلاكها أقصى مساجد الأرض شمالاً.
واجتمع الحضور الذين بلغوا نحو 250 رجلاً و100 امرأة، ونُحِّيت جانباً شباك الهوكي ليؤمَّهم في الصلاة إمام زائر قادم من ستوكهولم (وهو في الأصل من العراق)، أما الأطفال – السعداء بالعيد الذي يُسمح لهم بموجب القانون النرويجي ألا يذهبوا إلى المدارس خلاله – فيمرحون في سعادة حول شباك الهوكي، فيما تحاول سيدة تُدعى ماريت داجسفيك تهدئتهم وهي تحمل طفلاً لسيدة تصلي.
وينسجم أسلوب حديث ماريت الدافئ مع النمط النرويجي الشائع بأن أهالي منطقة الشمال الأقصى هم الأكثر مودة على مستوى الدولة، وفي صباح العيد كانت ماريت من بين أوائل من وصلوا الى قاعة ترومسو، وهي متزوجة من صومالي ولديهما طفلان اتفقا على أن ينشآهما على الديانة الإسلامية. وقبل وصول المصلين إلى القاعة قامت ماريت بإعداد طاولة الكعك، وهي طاولة حلويات نرويجية تستخدم في الاحتفالات، وأحضرت كعكات الوافل ومربى الفراولة المصنوعة في المنزل، فيما أحضر آخرون فطائر وكعكات مختلفة إلى جانب التورتة الخضراء المحلاة التي تُعد من الأكلات الخاصة بالمنطقة والتي سميت بهذا الاسم بسبب تغطيتها بعجينة اللوز الخضراء.
وتقول ماريت: «عديد من أصدقائي لا يعرفون مسلمين بصفة شخصية، ويعتقدون أنهم يحتاجون إلى عذر جيد للذهاب إلى المسجد للالتقاء بهم، ولهذا فأنا أعتقد أنني محظوظة لأنني أستطيع التنقل بين العالمين».
أما ساندرا فهي ترى أن كل شيء من حولها يمثل عالماً واحداً في مدينتها، وهي تركزهذه الأيام بصورة كبيرة على الجيل القادم وتقول: «نحتاج لتوفير أوجه نشاط بديلة لهم، لا نستطيع أن نخبرهم بأن هناك أشياء محرمة دون أن نمكنهم من تحقيق ذاتهم ونوفر لهم بدائل». وعندما سئلت هل ستشعر بالإحباط إذا لم يبق أطفالها على الإسلام، استغرقت في التفكير، ثم أجابت: «لقد ربيتهم على أن يحبوا هويتهم ويفتخروا بأنفسهم وأتمنى أن يشعروا بالغنى مثلما أشعر أنا لكوني مسلمة.
أما الميدان الرئيس في ترومسو فيشهد احتفالات كثيرة، ويقيم البائعون والمنظمات أكشاكاً لبيع بضائعهم فيما تتجمع الأسر والأصدقاء في الشارع الرئيس. وفي مثل هذا اليوم يتوقف الناس عند كشك مركز النور تماماً كما يتوقفون عند كشك السيدة المغربية التي تبيع بعض أنواع التوت، أو الحزب السياسي الذي يوزع كعكات الوافل بالمجان، أو السيدة الفرنسية التي تبيع السترات المصنوعة من الصوف المحلي، أو عند ذلك الشخص الذي يجسد أسلوب الحياة السامية بزيه التقليدي الزاهي وخيمته التي أقامها في ميدان البلدة.
وتحب حكيمة التحدث مع المارة خلال عملها في كشك مركز النور، وتقول إن الله قد أرسلها بطريقة ما إلى هذا المكان، وأنها واثقة مما تقوم به. وغالبية الناس هنا اعتادوا الجمال الطبيعي الذي تتمتع به ترومسو إلى درجة أنهم لا ينتبهون لأشياء مثل أصوات النوارس أو السفن الداخلة إلى الميناء والممر البحري أو الجبال التي لا يذوب عنها الجليد أبداً.
وفي أعلى الجبال تحلِّق بعض الطيور الأخرى باتجاه الجنوب استباقاً للشتاء المظلم، وبعضها سيعبر البحر الأبيض المتوسط. ويقول مهندس جزائري: «عندما أطلب من أمي أن تزورني هنا في ترومسو تقول إن الطيور تطير إلى الأشجار وليس العكس»، وهو يدرك جيداً – مثله مثل الكثيرين في هذه المدينة – معنى أن تطير بعيداً عن موطنك لتبني عشاً في موطن مختلف.