مايسكن بالوجدان من شعرٍ حميمٍ هو الأعذب/الأصدق، فالشعر يؤنِسُ الخيالات ويلبسها نبضاً وإحساساً وجمالاً.. وحين يختار الشاعر لنا أبياتاً قريبةً إلى نفسه ستكون القصائد متوهجة أكثر وذات انفعالٍ متّقدٍ كأنك تقضي معها حلماً مشتركاً؛ هكذا نتلقى المقاطع الشعرية التي اختارها خمسة شعراء أمضوا شوطاً عريقاً من الإبداع في مقام الشعر والأدب واللغة، وجمعها الزميل محمد الفوز..
الشاعر محمد العلي، الذي يعلق مشاعره بالطبيعة، يختار أبياتاً من قصيدة (الربيع) لأبي تمام:
يا صاحبيَّ تنصّبا نظريكُمَــــــــا
تريا وجوهَ الأرضِ كيفَ تُصوَر
تَرَيَا نهــــاراً مشمســــاً قد شابَهُ
زهرُ الرُّبا فكـــــــــأنما هو مُقْمِرُ
مَطَرٌ يذوبُ الصَّحوُ منه وبَعدهُ
صَحوٌ يكادُ من الغَضَارةِ يُمْطِـــرُ
غيثان فالأنواءُ غيثٌ ظـــــــاهرٌ
لكَ وجهُهُ والصَّحو غيثٌ مُضْمَرُ
دُنْيَا مَعَاشٍ للـــــورى حتى إذا
جــــــاءَ الربيعُ فإنمـــــا هي مَنْظَرُ
بهذه الشفافية الهادئة أعادنا -محمد العلي- إلى نبض أبي تمام، وقد أوجز حديثه عن الأبيات بقوله: لم ينازع أبا تمام في الجلوس على قمةِ الشعر أحدٌ من شعراء جيله، على الرغم أن فيهم البحتري الذي يقول: إنما أكلتُ الخبزَ بفضل أبي تمام . كان حاد الذكاء سريع الإحساس حاضر البديهة وكان لا يؤمن بالوطن المحدد بل يؤمن بأن الحياة كلها هي الوطن لهذا أنا قريب منه .
أما الشاعر أحمد الصالح (مسافر) فهو أكثر همّاً وأكثر عزلة، لذلك اختار شيئاً من لامية الشنفرى.. حتى تمثّل حالته، وتأخذنا معه في مشوار قديم جديد يبين الهوية العربية بأشعار القدماء؛ وقد كتب حيالها: إذا كان الشاعر مبدعاً ومتفاعلاً مع معاناته الخاصة سيصبح تأثيره أقوى واختراقه أنفذ لمعاناة الآخرين. فمن القصائد التي تحتل مساحة عريضة وعميقة من نفسي هي لامية العرب للشنفرى:
وفي الأرض مَنْأىً للكريمِ عَن الأذى
وفيها لِمَنْ خَافَ القِلَى مُتَعَزَّلُ
لعمركَ ما في الأرض ضِيقٌ على امرئ
سَرَى رَاغِباً أو رَاهِبَاً وهو يَعْقِلُ
هُمُ الأهلُ لا مستودَعُ السرِّ ذائعٌ
لَدَيهِمْ ولا الجَاني بِمَا جَرَّ يُخْذلُ
وإن مُدَّتْ الأيدي إلى الزادِ لَمْ أكُنْ
بأَعْجَلِهمْ إذ أَجشعُ القومِ أَعْجَلُ
ومَا ذاكَ إلا بَسْطةٌ عن تَفَضُلٍ
عَلَيهِمْ وكَانَ الأَفْضَلَ المُتَفَضِلُ
بهذا الشعر المحلّق والمعبر عن نوازع النفس الرافضة لكل التنازلات على حساب الكرامة والأخلاق السامية لهذا البيان الشعري والبلاغة العربية؛ أحببتُ القصيدة التي أترنم بها بيني وبين نفسي، كشاهد يهمسُ في الأذن ويشدُّ من العزيمة كلما اشتدت وطأة الألم في هذه الحياة .
أما الشاعر عدنان العوامي فهو على موعد قريب/بعيد لنسائم الفجر التي تناغم وجدانه الشاعري، لذلك اختار قصيدة الشريف الرضي:
وَبَاتَ بَارِقُ ذاكَ الثَّغْر يُوضِحُ لي
مَوَاقِعَ اللَّثْم في داجٍ مِنَ الظُّلْمِ
وَبَيْنَنَا عِفَّةٌ بايَعْتُهُا بِيَدي
على الوَفَاءِ لها، والرّعْي للذِمَمِ
وأَكْتُمُ الصّبْحَ عَنها وهي غَافلةٌ
حَتَّى تَكلَّم عُصْفورٌ على عَلَمِ
فَقُمْتُ أَنْفُضُ بَرْداً ما تَعَلَّقَهُ
غَيْرُ العَفَافِ وَرَاء الغَيْبِ والكَرَمِ
وعنها يقول: تسألني: ما سر هذه الأبيات لدى قلبك؟ وأجيبك سائلاً: وهل لذي لب أن يفلت من أسرها حتى لو لم يحب الشعر ويصطفيه؟
وتخفف من وطأةِ سؤالك بأن غرضك معرفة مواطن الجذب فيها، فأخفف من قوة الإجابة بأن الشريف الرضي يحيرك بامتلاك ريشة الرمل المتحرك قبل أن تعرف الخيالة (السينما) في زمنه، وأكثر من هذا أن الخيالة، إن صورت لكَ مشهداً، فهي أعجز من أن تضفي عليه هذا السحر الحلال الذي تترشفه من ريشة الشاعر الشريف الرَّضي ، وأنَّى لها أن تجسد حرقة الغيرة وعضِّ أنيابِ الحسد لدى نسيمات الفجر وهي تناهب الأحبة ذيول البُرُد، وأطراف الغلائل؟ .
ويختار الشاعر جاسم الصحيح أبياتاً لعروة بن حزام ذات شوق عميق تفضحه الأبيات التالية:
تَحَمّلتُ مِنْ عَفْراءَ ما لَيسَ لي بِهِ
ولا للجبــالِ الرَّاسِيَاتِ، يَــــدانِ
كَــــــــأَنَّ قطاةً عُلِّقَتْ بِجَناحِهَـــــا
على كَبِدي مِنْ شِدِّةِ الخَفَقَانِ
يقــولُ لِيَ الأصْحَابُ إذ يعذِلونَني
أشَوْقٌ عِـراقِيٌّ وأنْتَ يَمَـــانِي
أمام هذا الفيض الوجداني، يتداعى جاسم الصحيح نثراً وكأنه في همسات غرام يعيشها في طي الأبيات، ويقول: أولُ ما يجذبني في قصيدة (عروة ابن حزام) كقارئ هو الصدقُ الممتد في أحشاء الكلمات وكأنّ هذه الأبيات امتدادٌ مادي لشرايين كاتبها وليست حروفاً قادمة من الأبجدية… إضافة إلى الصدقِ الذي يتغلغلُ في أعماقِ هذه الأبيات، استطاع الشاعر أن ينسجُ أجمل قميصٍ من قمصان التشابيه ويخلعه على هذه الصورة الشعرية الرائعة حيثُ شبّهَ الخفقان المتضاعف في كبده من فرط الشوق إلى حبيبته (عفراء).. شبّهه بطائر القطاة المعلّق من جناحه في ذلك الكبد فهو دائمُ الخفقان. ثم يبلغُ الشوقُ منتهاه بالشاعر وهو في حالةٍ من حالات اليأس بلقاء محبوبته فيصرّحَ بعشقه ضِمناً لكلّ جسر يستطيع أن يعبر بهما هاوية الفراق.
أما الشاعر د. خالد الحليبي فإنه يتقمص هِمَماً مُؤرِّقَةً لا ينفك عنها، وقد اكتفى ببيت واحد لشاعر العربية المتنبي وهو:
وإذا كانت النفوسُ كبـــــــارا
تعبت في مرادها الأجســــامُ
وعما يتراكم في نفسيته يقول: هذا البيت المتحفز أبداً في ذاكرتي… يثبُ إلى طرف لساني… حينما أرى من أعجب بعطائهم المتنوع الذي يشبه الغيث الذي أينما وقع نفع. ولكني أشاهد العناء مرسوماً على ظلال رموشهم، وبين تجاعيد أيديهم، فيلوح لي مدى إشفاقهم على العالم من حولهم وهو ينتظر قطرات العطاء من بين أناملهم، وربما لاحت خطوط حمراء دقيقة على بياض أعينهم تكشف عن عدد ساعات نومهم وقسوتهم على صحتهم… هذا البيت يلامس خيالي حينما أتقمص شخصية عظيمة من شخصيات الوجود على مر التاريخ .
ثمة حالة متراكمة تؤججُ النصوصَ الشعرية، فما بين عاشقٍ ومتأملٍ ومنكفئ على آماله تتوضح لنا معاناة الشـــاعر الذي اختار نصوصاً لشاعرٍ آخر من عصر قديم، ليتساوى معه في تفصيل النزعات المبطنة من خلال تواصله الحميم كقارئ وعليم بدراسة الشعر. و ما يخرج من القلب يدخل للقلب وهكذا يبدو الشعراء في انفعالاتهم الإنسانية حيثُ يكونُ الشعر تفسيراً لكل شيء جميل. حتماً ستغلبنا دهشةُ التلقي، وسنطالع الأشياء بقلوبنا كما نحسها بأبصارنا، فالشعرُ يعطي تأويلات مفاجئة لما نحسه ونستشعره.
طفل القصيدة
شعر: إبراهيم الوافي
حينما يصبح الشعر في صفحة الشاعر المستتاب امرأةْ
سوف يكتب حتى تطير الحروف ككل النوارس
حين تزاور في نشوةٍ مرفأهْ ..!
سوف ينقب كل تواريخه
من شفاة التولُّه
يطعم من حَبِّها قارئََهْ
سوف يبكي عليها ..ويحنو عليها
ويقسو عليها
ويبدؤها قبل أن تبدأهْ .
سوف يمشطُ أرصفة الليل فجرًا
ويصغي لها مثل جرح عتيقٍ
تجلَّى له الحزن كي ينكئهْ ..
حينما يصبح الشعر
في صفحة الشاعر المستتاب امرأه
علينا جميعا بأن نقرأهْ
***
نعاسكِ أقوى من الشعرِ
أيقظتُ في فجر عينيكِ طفل القصيدةِ
ألبستُهُ زيَّه المدرسيّْ
وأعددتُ كوبًا من الشوقِ
قلتُ له :
يا صغيري احتسِ
ستستيقظُ الآن سطرًا فسطرًا
وعطرًا فعطرًا
وتقرأ وجهك فوق الأريكةِ
حتى تودِّع عينيكَ بالبابِ قائلة :
احذر البحر يا نورسي ..!
***
نعاسكِ أقوى من الشعرِ
أوقظتُ في فجر عينيكِ طفلَ القصيدةِ
ألبسته زيَّه الساحرِي
وأعددتُ خبزًا من الوقتِ
قلتُ له يا صغيري تأخَّرتَ
خذ هذه من يدِ الساهرِ
تلكَّأ بالبابِ ثم تلفَّتَ حولي
فقلتُ له سوف تستيقظُ الآنَ
سطرًا فسطرًا
وعطرًا فعطرًا
وترقم صوتك فوق السطورِ
إلى أن تناديَ بالبابِ قائلةً :
رتِّلِ الشوقَ يا شاعري ..!!
***
نعاسكِ أقوى من الشعرِ
هذا الصباح تنفَّستُ فيه القصيدةَ
كنتُ سأكتبُ عن كنْهِ حلمي
وعن طعْمِ ظلمي
وعن شاعرٍ خثَّرته الجراحْ
رأى الناسَ بيني وبينكِ
بابًا من المكْرِ تنقرُ في صمته
الريح لؤْمًا مباحْ ..!!
رآهم يبيعونَ وجهي البريءَ
بأضغاثِ أنثى
وغيرةِ أنثى
رآهم يشيحون وجه الحقيقةِ عنْي
رأيتُ دمي عندهم مستباحْ ..!
***
نعاسكِ أوهى من الشعر ..
هيَّا أفيقي
أضيئي يدي أو طريقي
أعيدي لبرد الوسادةِ دفءَ بريقي
وقولي ..صديقي ..
ستبقى صديقي
وهم سوف يمضون خلف رحيلِ الظلامِ
وتبقى لوحدكَ طفْلَ الصباحْ ..!!