حقَّقت شركة «غوغل» Google نجاحاً فائقاً جعلها في مقدمة أكثر العلامات التجارية شهرة على مستوى العالم، واحتلت المكانة نفسها أيضاً في رعاية موظفيها، ما دفع مجلة «فورتشين Fortune» الأمريكية لوضعها في صدارة قائمة «أفضل 100 شركة للعمل فيها» لعام 2013م، واحتلت المرتبة السادسة في تصنيف مجلة «فوربس Forbes» لأفضل أماكن العمل في عام 2013م. كما أنها واحدة من أكبر الشركات الأمريكية من حيث القيمة السوقية، حيث تخطت قيمتها حاجز الـ207 مليارات دولار أمريكي مع نهاية يناير 2013م، على الرغم من أنها تأسست بعدة مئات الآلاف من الدولارات فحسب. الباحث حسام فتحي أبو جبارة، يعرِّفنا على بيئة العمل الفريدة في «غوغل»، ودورها في تعزيز الابتكار.
تاريخ «غوغل»
في عام 1938م سأل عالم الرياضيات الأمريكي إدوارد كاسنر (1878-1955م) Edward Kesner ابن أخته الصغير ميلتون سيروتا Milton Sirotta – وكان آنذاك في الثامنة من عمره – عن الكلمة التي يمكن أن يطلقها على الرقم 1 المتبوع بـ 100 صفر.
فكّر الصغير قليلاً ثم أجاب ببراءة: «غوغل»! نسي كثيرون هذه الكلمة وصاحبها، إلى أن حل اليوم الذي ظهرت فيه من جديد وأصبحت أشهر من نار على علم. ففي السابع من سبتمبر عام 1998م، أسس طالب الرياضيات في جامعة «ستانفورد» الأمريكية، لاري بيج Larry Page وزميله سيرجي برين Sergey Brin، شركة «غوغل» Google التي كان محرك البحث الشهير محورها الرئيس، قبل أن تتوسع وتقدِّم الكثير من الخدمات الأخرى المميزة مثل البريد الإلكتروني عالي السعة، ودليلاً عملاقاً لمواقع الإنترنت، وبرنامجاً لترتيب وتحرير الصور الفوتوغرافية، وخدمة لإنشاء المدونات والمواقع الشخصية والمجموعات البريدية، وبرنامجاً لإنشاء التصاميم ثلاثية الأبعاد، وخدمة الترجمة المجانية من وإلى عشرات اللغات، ومشروع إنشاء أضخم مكتبة رقمية على الإنترنت، وبرنامجاً للتجوّل في الأرض بواسطة الأقمار الصناعية، ونظاماً للخرائط المتعددة الأغراض، ومتصفحاً لشبكة الإنترنت، وغيرها الكثير.
عند تأسيس «غوغل»، كان لاري يحمل لقب الرئيس التنفيذي، وسيرجي لقب المدير العام ورئيس مجلس الإدارة. تم تحديد ذلك الترتيب برمي قطعة نقدية في الهواء بينهما لمعرفة من سيشغل هذه المناصب! وعند طرح أسهم الشركة للاكتتاب العام، حصل لاري على لقب مدير عام المنتجات، وأصبح سيرجي مديراً عاماً للتقنية.
وحتى نهاية عام 2012م، وصل عدد موظفي «غوغل» إلى أكثر من 21 ألفاً. يعمل %60 منهم في مقر الشركة الرئيس في مدينة ماونتن فيو Mountain View الواقعة في كاليفورنيا، وفي فروعها الثلاثة الأخرى داخل الولايات المتحدة: في نيويورك وسياتل (واشنطن) وفونيكس (أريزونا). أما بقية الموظفين فيعملون في فروعها ومكاتبها الخارجية الموجودة في أهم دول العالم: أستراليا، والصين، والهند، واليابان، وكندا، والبرازيل، والمكسيك، وسويسرا، وإيطاليا، وفرنسا، وروسيا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وتركيا، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، وغيرها من الدول. ومنذ تأسيس الشركة وحتى نهاية عام 2012م، تقدَّم حوالي 110 آلاف شخص بطلبات للعمل فيها، لم يُقبل منهم فعلياً سوى أكثر من 21 ألفاً بقليل، أي أن شخصاً واحداً فقط من كل 50 متقدماً نجح في اجتياز اختبارات القبول وأصبح جزءاً من عائلة «غوغل»!.
والواقع أن إدارة «غوغل» تدرك تماماً أن محرك بحثها الشهير وبقية الخدمات التي انبثقت عنه فيما بعد، بحاجة إلى التطوير والتحديث المستمرين كي يظل قوياً ومميزاً، ولذلك فهي لا تتطلع إلاَّ إلى «النجوم اللامعة» من المتقدمين للعمل في الشركة، كما يحلو للاري أن يصفهم. واليوم يعمل في «غوغل» نخبة من أفضل التقنيين، والمهندسين، والرياضيين، والصحافيين، ورؤساء الشركات التنفيذيين السابقين، وحملة شهادات الدكتوراة، وصانعي الأفلام، وأساتذة الجامعات، وجميعهم قادمون من دول وأعراق وأجناس مختلفة، ولا يجمعهم سوى الابتكار السريع الذي يُعد روح عمل الشركة، وهو أيضاً الموضوع الذي تتم مناقشته في كل اجتماع لمجلس الإدارة، فبالنسبة لبرين وبيج، الابتكار هو السبب الذي يجعل «غوغل» تتقدَّم على الشركات الأخرى وتبقى في المقدمة.
ونتيجة لاعتمادها على الموظفين في استمرار تقدمها على منافسيها، أولت «غوغل» راحة موظفيها وتلبية حاجاتهم أهمية قصوى، فقدَّمت لهم مزايا فريدة وخدمات رائدة قلما يوجد مثلها في فنادق الخمس نجوم، ما جعل الشركة تحظى بالمركز الأول في قائمة مجلة «فورتشين» Fortune الأمريكية لـ «أفضل 100 شركة للعمل فيها» خلال عام 2013م.. فما الذي تقدِّمه «غوغل» لموظفيها حتى أصبحت طلبات التوظيف تنهال عليها بمئات الآلاف، وما هو الدافع وراء حديث إحدى الموظفات بأنها ستظل تعمل في «غوغل» حتى لو لم تدفع لها راتباً شهرياً؟!
حوافز العمل
إذا قدِّر لك أن تزور الصفحة المخصصة للتوظيف في موقع «غوغل» على شبكة الإنترنت، فستجد قائمة بأهم 10 أسباب للعمل في الشركة، وضعها المؤسسان برين وبيج، وجاءت على النحو التالي – بتصرف:
•
مد يد المساعدة: مع الملايين من الزوار كل يوم، أصبح «غوغل» جزءاً أساسياً من الحياة اليومية لكثير من الناس، فهو أشبه بصديق عزيز يربط الناس بالمعلومات التي يحتاجونها ليعيشوا حياة هانئة.
•
الحياة جميلة: تخيّل قيمة أن تكون جزءاً من شيء مميز يقدّره الجميع ويسعون لأن يكونوا أوفياء له.
•
التقدير هو أفضل دافع: وفرنا وسائل المرح التي تلهمك على العمل وتجعلك سعيداً طوال الوقت. في مقر الشركة طبيب عام، وطبيب أسنان، وتدليك، ويوغا، وخدمات الرعاية اليومية، وفرص التطوير المهني، ووجبات خفيفة طوال اليوم.
•
العمل واللعب لا يتعارضان: بإمكانك العمل واللعب في نفس الوقت دون أن يؤثر ذلك على فرص بقائك في الشركة.
•
نحن نحب موظفينا ونريدهم أن يعرفوا ذلك: «غوغل» توفر للعاملين فيها الكثير من المزايا، بما في ذلك عدة برامج للرعاية الصحية والطبية، وإمكانية الحصول على أسهم في الشركة، وإجازة أمومة وأبوة مدفوعة الأجر وطويلة الأمد، والكثير غير ذلك.
•
الابتكار أساس عملنا: إن أفضل التكنولوجيا يمكن تحسينها، ولذلك نعتقد أن الفرص ما زالت متاحة لابتكار وسائل تقنية أكثر أهمية وسرعة للمستخدمين. «غوغل» هو المكان الرائد للتكنولوجيا المتقدمة في العالم.
•
«غوغل» في كل مكان تتطلع إليه: موظفونا جاءوا من كل مكان: رؤساء مجالس إدارة، وأساتذة جامعات، وأبطال رياضات ذهنية وبدنية. فمهما كانت خلفيات المتقدمين للعمل لدينا مكان شاغر لهم.
•
موظف واحد قادر على إحداث فرق: الناس في كل الدول وبكل اللغات يستخدمون منتجاتنا. وبما أننا نعمل بشكل عالمي نعتقد أننا قادرون على جعل العالم مكاناً أفضل للعيش.
•
نطرق بجرأة مجالات غير مسبوقة: هناك المئات من التحديات والمشكلات التي تبحث عن حلول. أفكارك الإبداعية يمكننا أن ندرسها ونحولها إلى حقائق. سنمنحك الفرصة لتطوير منتجات جديدة ومفيدة يبحث عنها ملايين الناس.
•
لدينا شيء يُدعى غداء مجاني: في الواقع، هذا موجود كل يوم: صحي ولذيذ، ومحضّر بحب.
وإذا أردنا أن نعرض هذه الحوافز العشرة بشيء من التفصيل كما هو المشهد في المقر الرئيس للشركة في كاليفورنيا، فسنكتشف أننا لا نتحدث عن شركة وإنما عن «جنة» سُخِّرت بأكملها من أجل راحة العاملين فيها وتقديم كل ما من شأنه أن يزيد من إنتاجيتهم وعطائهم ويجعل العمل مكاناً محبباً لهم.
جنة «غوغل»!
في «غوغل» لا يوجد وقت دوام رسمي، أي أن الموظف حرٌّ في الزمان الذي يريد البقاء فيه في أروقة الشركة أو مغادرتها، المهم أن ينجز العمل المكلف به أو الذي يتطلع إلى تقديمه للشركة. والأفضلية للعمل في مرافق «غوغل» هي لفرق صغيرة مكونة من ثلاثة إلى خمسة أفراد، ويُتوقع من الموظفين تخصيص عشرين في المائة من وقتهم لاستكشاف أي فكرة تثير اهتمامهم. وهذا يعني أن بإمكان أي موظف أن يخصص ما يعادل يوماً واحداً كل أسبوع للعمل في فكرة أو مشروع خاص يستمتع بإنجازه، ولا يهم أن يكون هذا المشروع مجدياً من الناحية المالية أم لا، المهم أن يكون العمل فيه ممتعاً، وتقدِّم الشركة تمويلاً مالياً ودعماً مهنياً للأفكار المميزة، ومن ذلك مثلاً «أخبار غوغل» التي ظهرت فكرتها على يد مهندس هندي.
وفي «غوغل» ليس هناك زي رسمي، فالموظف حرٌّ فيما يرتديه أثناء العمل، كما أنه حرٌّ في نوع وسيلة المواصلات التي يستخدمها في القدوم إلى الشركة أو مغادرتها، فهناك موقف كبير ومجاني متعدد الطوابق للسيارات الخاصة، كما توفر الشركة خدمة النقل بالحافلات المزوَّدة بخدمة الاتصال اللاسلكي بالإنترنت، حيث يستطيع الموظفون أن يكونوا منتجين وأن يركزوا طاقتهم في كمبيوتراتهم المحمولة بدلاً من القلق حول كيفية الوصول إلى العمل. أما داخل بنايات الشركة فتُعد الدراجات الهوائية وسيلة الانتقال الأولى، وتم تهيئة كافة الممرات لهذا الغرض.
عند بدء العمل، يمكن للموظف التعرف إلى آخر أخبار الشركة وكل الأنشطة فيها من خلال شبكة الإنترنت الداخلية التي تتضمن ملاحظات، وإرشادات، ورسائل إخبارية، ودليلاً للموظف الجديد، وصوراً ومعلومات عن كافة الموظفين، وحتى أولئك الذين تركوا العمل فيها، ما زالت ملفاتهم موجودة باعتبارهم مساهمين في المجد الذي وصلت إليه «غوغل». كما توفر الشبكة الداخلية خدمات مجانية مميزة خارج نطاق العمل مثل الحجز على خطوط الطيران وفي الفنادق والمطاعم، وطلب توصيل أشياء غير موجودة في مقر الشركة أو بالقرب منها. وحتى يشعر الموظفون بأنهم يعملون في بيئة شبيهة ببيوتهم، فإن «غوغل» تسمح لهم باصطحاب حيواناتهم الأليفة إلى العمل بشرط ألا تقوم هذه الحيوانات بإزعاج الموظفين، وألا يكون لدى أحد العاملين حساسية تجاهها، فشكوى واحدة كفيلة بترحيل الحيوان الأليف إلى البيت ولكن دون المساس بالموظف أو بحقوقه.
وتولي الإدارة أهمية كبيرة للبيئة الطبيعية، حيث تعتمد في معظم مرافقها على الطاقة النظيفة، فتستخدم ألواحاً شمسية لتوليد الكهرباء، وتزوِّد الموظفين بمواد أعيد تدويرها، وتحرص على تنقية الهواء من الروائح والجراثيم من خلال أجهزة عالية التقنية، كما تمنح خمسة آلاف دولار للموظفين الراغبين في شراء سيارات تعمل بالطاقة البديلة. كما وضعت الشركة في الحمامات مراحيض صديقة للبيئة تعمل باللمس مع ستة مستويات من الحرارة للمقعد، وهي تقوم بالتجفيف والتفريغ الأوتوماتيكي دون الحاجة للورق الصحي.
أما الطعام والشراب فهما من أهم الخدمات المجانية التي تقدِّمها «غوغل» لموظفيها الذين استُطلعت آراؤهم مرة حول ما يفضِّلونه في وظائفهم ويشدهم إلى عملهم، فأجاب تسعة من أصل عشرة منهم بأنه الطعام! وقد اشتهرت «غوغل» بأن مطاعمها المجانية الأحد عشر تقدِّم أشهى الأطباق في وادي السيليكون، حيث يقع مقرها الرئيس.
وتشجيعاً منها على تكوين الأسر، تتيح سياسة «غوغل» لموظفيها المتزوجين أخذ إجازة أمومة مدفوعة الأجر لمدة تصل إلى 18 أسبوعاً، وإجازة أبوة مدفوعة الأجر تصل إلى سبعة أسابيع!. كما تهدي كل موظف يرزق مولوداً جديداً مكافأة مالية مقدارها 500 دولار أمريكي عند خروج الطفل من المستشفى، حتى يتمكن الموظف من شراء المستلزمات الأولية لطفله دون قلق. وهناك حضانة داخلية مجانية تستقبل أطفال الموظفين حتى سن السادسة. وتتوزع في أرجاء الشركة الكثير من المرافق الرياضية، فهناك ملاعب خارجية لكرة القدم، وكرة المضرب، وكرة السلة، والهوكي، والكرة الشاطئية، وصالات لممارسة التمارين الرياضية.
ولمحبي تنمية العقل، خصصت الإدارة مساحة كبيرة على هيئة مكتبة تضم أحدث الكتب والمجلات والصحف، إضافة إلى الألعاب الذهنية مثل الشطرنج. كما أن المكان مزود بشاشات عرض تلفزيونية تبث أفلاماً وثائقية مفيدة. وهناك قاعات صغيرة مخصصة للندوات والمحاضرات، حيث تدعو الشركة علماء ورجال أعمال ومفكرين وسياسيين للحديث في قضايا متنوعة من باب تثقيف الموظفين وتوسيع مداركهم المعرفية. وهناك مركز لتعليم اللغات الأجنبية مثل الفرنسية، والإسبانية، والعربية، والروسية، والصينية، وكل ذلك مجاناً أيضاً.
وخصصت «غوغل» عدة مرافق للعناية اليومية، ومنها منتجع للتدليك والعناية بالجسم، وصالوناً للحلاقة، ومركزاً للتجميل، وخدمة لغسيل الملابس وكيها. وهناك خدمة مجانية لغسيل السيارات، وكبائن جميلة جداً للاتصالات الهاتفية، وأجهزة صرَّاف آلي، وخيام للنوم. كما تقوم الشركة من حين إلى آخر باستئجار دار عرض سينمائية قريبة لمدة 24 ساعة وتمنح موظفيها فرصة مشاهدة أحدث الأفلام مجاناً مع إمكانية دعوة صديق واحد لكل موظف.
وأجمل ما في «غوغل» هو تكريم المتميزين والمبدعين، فكل من يأتي بفكرة قابلة للتطبيق يُمنح مبلغاً مالياً ضخماً وعدداً كبيراً من أسهم الشركة التي تشتهر بالربحية العالية في بورصة «وول ستريت»، كما أن جميع الموظفين يحصلون شهرياً على عدد من الأسهم إلى جانب رواتبهم الشهرية. وإذا قام أحد الموظفين بترشيح شخص جيد لإحدى الوظائف الشاغرة في الشركة وتم قبوله، فإن الموظف يحصل على مكافأة قيمتها ألفا دولار أمريكي نظير مساهمته في رفد الشركة بالكفاءات البشرية.
بقي أن نشير إلى أن أحد المسؤولين في «غوغل» اعترف بأن إدارة الشركة تواجه صعوبات في إقناع الموظفين بمغادرة مكاتبهم في المساء والذهاب إلى بيوتهم، فهم يحبون عملهم أكثر من أي شيء آخر، وعلى الرغم من أن هذا الأمر يكلِّف أموالاً إدارية طائلة جرَّاء استخدام الكهرباء والمأكولات والخدمات، إلا أن الشركة ترفض تقليص الصرف على هذه الجوانب، فراحة موظفيها هي أهم شيء بالنسبة لها.
من هنا يبدو مبرراً أن نتفهم النجاح الكبير الذي تحققه «غوغل»، والارتفاع المتواصل في أرباحها وفي سعر سهمها الذي تضاعف خمس مرات منذ طرحه في البورصة أول مرة في شهر أغسطس 2004م، حيث كان سعره آنذاك 85 دولاراً أمريكياً، واقترب سعره مع نهاية يناير 2013م من الـ 755 دولاراً!