شاعر مُجيد ذو نظرةِ رهافة وشمول، وأديب ناثر نسج عالماً من سحر البيان، وحاك ألواناً من الثقافة بحضور بهيّ فريد، وفيلسوف مشحون بأسى الفكر وتباريح الحياة، تعروه مسوح نور يجبر العثرات. تفجّرتْ من عباراته ينابيع الحكمة والمنطق، فأخذتْ تسيل أدباً نميراً غنياً بومضات فكر النهضة والالتزام الأخلاقي.
إنه حمزة شحاتة، الذي كثيراً ما نُعت بالقمّة الفكرية التي عُرفتْ ولم تُكتشـف، وعُزي ذلك إلى غرابة الجوهر، ونفاسته بما اجتمع له من خصائص عبقرية الفنان، وسعة الفيلسوف، ونقاء الإنسان، وشرف المثقف. ولمناسبة مرور مئة عام على ولادة هذا الأديب الحجازي، الفذ، يصحبنا حذيفة أحمد الخراط في جولة بانورامية على عالم حمزة شحاتة الواسع سعة مجالات الفلسفة، والحميم حميمية الشعر والأحاسيس الشخصية.
قليلة هي تلك الدراسات الجادة التي تناولت ظاهرة «حمزة شحاتة». إذ لم ينل الرجل ما يستحقه من البحث الذي يليق به في سياقنا الثقافيّ. ولا بدّ من مسح غبار النسيان، وتقديم الأبحاث في صورة متكاملة عن فكر أديبنا وإبداعاته.
ولعل المقبل من الأيام يتيح للدارسين أن يضيفوا إلى القليل الذي عُرف عنه، الكثير الذي لا بد أن يقع في دائرة الضوء. فما كُتب عنه قليل من الوفاء لدَين رجل وهب بإخلاص كلّ ما يملك، وعلّق في بيوتات الأدب فوانيس التنوير والذوق الرفيع.
ابن جدة المظلوم
كان والد حمزة شحاتة سمّاكاً في سوق خضار القشاشية. وكان حمزة يساعده في البيع. وشاءت الأقدار أن يراه الشيخ عبد الرؤوف جمجوم، فعَرف فيه فراسته وفطنته، وعرض عليه ترك العمل، والالتحاق بمدرسة الفلاح في جدة. وإذا بالناشئ يصبح أحد أقطابها الذين أسسوا نواتها العلمية، وحملوا على عاتقهم عبء النهضة الفكرية والأدبية للبلاد.
وفي جدة، يتضح تأثير أجوائها المفتوحة في شخصية الفتى وفكره. فهناك أخذ يقرأ بشغف لكبار كتـّاب التيارات التجديدية والرومانسية العربية في الحاضر والمهجر. وتلى ذلك رحلته الطويلة إلى الهند، مبعوثاً لمباشرة الأعمال التجارية لأسرة معروفة في جدة. وكانت هذه محطة مهمة في حياته، إذ انكبّ فيها على تعلّم الإنجليزية، والتزود بالمعارف، والاطلاع على روائع النتاج الأدبي الإنجليزي.
وأتيح لحمزة شحاتة ما لم يتح لكثير غيره من الأدباء، فقد نهل من الثقافة العصرية قدراً كبيراً، إلى جانب تمرسه بأساليب العربية العريقة، وتضلّعه بها، واطلاعه على المدارس الشعرية المستحدثة.
وعاد فارسنا بفكره المستنير إلى الحجاز قادماً من بلاد الغربة، ولم ينل في وطنه حظوته من الاهتمام، فتجرَّع كؤوساً مرّة من مظاهر إهمال المجتمع له. وبدأت في حياته الجديدة سلسلة طويلة من القصص الآسية تحمل المأساة والملهاة، وتزيد يقيننا بظلم هذه الحياة وعدم إنصافها، وتجعلنا نتساءل دائماً: كيف تجاهل الزمان رجلاً كحمزة شحاتة؟.
لقد تجاذبتْ الرجلَ وظائفُ لا تليق بما يحمله من فكر وقدرات، وليت الأمر وقف هنا، بل تجاوزه إلى ما هو أدهى وأمرّ ، فكتب شحاتة في إحدى رسائله حروفاً تقطر أسى: «نحن الآن في الحجاز، وقد ضاق بعض المهتمين بحالي، فرشََّحني أحدهم مراقباً لُغوياً للإذاعة، فقالوا له استوثق مِن رضاه أولاً فأعلنتُ رضاي، فخرجوا من الموضوع بقولهم: إنّه يسخر منك، إنه لا يمكن أن يقبل». ويضيف حمزة في مرارة أشد: «إننا لا نزال هنا في الحجاز حيث لا يصدّق شيء، ولا يصدّق حتى إنّك في حاجة إلى عمل».
وعندما رفضه مجتمع مكة الثقافيّ، أسرّها حمزة في نفسه ولم يُبدها لهم. وآثر الهجرة بصمت، وقرر الرحيل عن الزمان الذي أنكره والأهل الذين تجاهلوه. فاختار القاهرة ورحل إليها ساخطاً، وهو يرى بأمّ عينه مَن هو دونه قيمة وقامة وقد ارتقى أعلى الوظائف حينئذ. وعندما سئل بعد حين: ألن تعود إلى الحجاز؟ ردّ بصوت زادته الأيام لوعة وعتاباً:
قالت الضفدع قولاً رددته الحكماء
في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء
ثم استشهد بقصة القائد العسكري الذي خسر المعركة لأسباب عشرة، ذكر أولها نفاد الذخيرة، فأعفي من ذكر باقي الأسباب، فقد شعر حمزة بنفاد ذخيرة نفسه، وأدرك أنه ما عادت بعدها تنفعه العودة إلى الحجاز.
عزلته في مصر
وأمام نيل مصر، وتحت ظلال مآذن القاهرة، وبالقرب من أصداء أوجه نشاطها الثقافية الخصبة، عاش حمزة شحاتة غريباً في كلّ شيء، في حياته، وفي فقهه للواقع، وإدراكه لكنه الحياة وما حوته من أشياء وكائنات، وفي بحثه الدؤوب عن جوهر الأفكار.
اختار حمزة الاعتزال، وقرر أن ينفرد بنفسه، وخاف الأضواء التي نفر منها، وتوقف عن نشر أيّ نتاج أو أدب، ولم يشأ قطّ أن يتواصل مع أدباء مصر رغم عز أدبها في تلك الفترة.
تقول مخبرة عن ذلك ابنته السيدة شيرين: «نشرتْ صحيفة الأهرام عن والدي ريبورتاجاً مصوّراً، ذكرتْ خلاله كلمات مستفيضة تمدح شخصيته وأدبه وشعره. وأذكر يومها أن صعد أحد جيران العمارة، وجاء بكلّ شغف وإعجاب ليقول لأبي وهو ممسك بالجريدة: أنت هذا الأديب العظيم والشاعر العملاق تسكن بيننا كلّ هذه الأعوام ولا نعلم عنك أي شيء من هذا؟، فردّ عليه أبي بمنتهى الأدب والتواضع وهو ينظر إلى الأرض: لستُ يا سيدي المقصود بهذا الكلام، لشدّ ما كان يسعدني ذلك، ولكنه تشابه أسماء، فهناك حقاً أديب اسمه حمزة شحاتة، أما حمزة شحاتة الذي أمامك فهو إنسان عادي يعمل مربية لخمس بنات، فانصرف الجار وهو يعتذر لوالدي عن اللبس الذي حدث، وأخذ لسان حاله يقول في سره: يخلق من الشبه أربعين، وسارع حمزة شحاتة بعدها فأوصد باب داره خلفه».
لقد ترجم حمزة شعوره بكلمات أفعمتْ بحزن دفين: «بدأ الخريف وبدأتْ الأوراق تتساقط كما تتساقط أحلامنا في الفراغ الرهيب، لم أعد أقوى على احتمال هذا الشقاء وحدي بلا معين، وفي الليل عندما يهدأ كلّ شيء وينام، أظلّ أنا كالآلة تدور إلى غير نهاية. يا له من سجن رهيب هذا الذي أنا فيه، وسيجيء اليوم الذي أعتاد فيه على الظلام الدامس الذي فرضتْه الأقدار عليّ».
وتصل عزلة حمزة شحاتة ذروتها، فلا يجد حوله مَن يفهمه أو يشاطره الهموم والأحزان، فيعبِّر بعبارة تقطر أسى: «إنها ساعة حرجة أن تدور بعينيك محملقاً في جميع الوجوه والعيون، فلا تجد مَن يفهمك».
ويكتبها شعراً معاناته تلك:
«وسمعتُ صدى صوتي مبحوحاً..
يلهث.. يتقطع..
أأنا حرّ..
أأنا حقاً حرّ؟
أتثاءب.. أتسكّع..
أمشي.. أنظر..
أضحك.. وأنام..
ولكن أين أنام …».
غدا حمزة شحاتة في غربته تلك شبيه أبي العلاء المعري. إذ تأثر الاثنان بالعزلة عن الوطن، وأشقاهما البُعد عن الأهل، وأظهرا زهدهما في مباهج الحياة. ونرى ذلك ينعكس بعمق ووضوح في الكثير من كتابات حمزة: «تمّتْ عزلتي الآن، ولم تعد لي علاقة بأحد إلا بالمقدار الذي
لا يزيد عما يتهيأ لأي نزيل في فندق صغير. وكما يتهيأ لتلميذ يستأجر غرفة في بنسيون ولا يدفع الإيجار بانتظام».
«إنني أشعر بضغط الوحدة شعوراً مخيفاً، أراني غريقاً أتخبّط وأرسل صرخات الهلع، وأسمع أصوات ضحكات السخرية ممّن يتظاهرون بإنقاذي، إنها أقدارنا التي تدع لنا حريتنا في أن نسير ولكن إلى حيث تريد».
جروح قلبه
ويُـقدّر لزواج حمزة أن يفشل، فإذا به يوصد باب قلبه أمام المرأة، ويعلنها مدوّية هروبه منها، واختار العزوف عن الغزل الذي لم يجد له حظاً بين صفوف ما نظمه.
لا تطرقي بابي.. فقد أوصدتْه الرياح..
ووهبتُ عمري للطبيعة بين ليلي والصباح..
وهربتُ من أسر الحياة ..
ورحتُ منطلق الجناح ..
وأفقتُ من حلمي الجميل على الحقيقة ..
وتسللتْ من حاضري أوهامُ ماضيك الحفيل ..
وفرغتُ من وصب الخيال ..
فلا اشتياق ولا غليل ..
وطرحتُ أعباء الشعور بكلّ ما قد كان منك .. وما يكون ..
وخلصتُ من تلك السفاسف والقشور ..
ومن فجاءات الجنون ..
ونعمتُ بعدك بالسكون .. فلا صراع .. ولا دموع ولا ظنون ..
ويسلخ حمزة من عمره سنين قضاها في تعليم بناته الخمس وتنشئتهنّ، وبخاصة بعد أن فقدتْ الفتيات والدتهنّ، فخلا البيت من الأم التي تدير شؤونه. فألقت حينئذ الأقدار على عاتق الوالد مسؤوليات جديدة، كان عليه خلالها أن يقوم مقام الأب والأم معاً، فكان يذهب بفتياته إلى المدرسة، ويعود بهنّ منها كل يوم، وفرض على بيته سياجاً يصون البنات من كل سوء، ولم يكن ليزوره أحد إلا أصدق الأصدقاء، بعد ترتيب موعد سابق يتمّ قبله تنظيم أمور المنزل.
يقول حمزة: «لقد اضطررتُ بعد عناد طويل امتدّ على غير جدوى، أن أكنس الغرفة الكبيرة بعد أن غدتْ غرفة نومي، وغرفة الجلوس والممر الضخم والحمام والمطبخ، واضطررتُ أمس لغسل سبع وعشرين قطعة ملابس».
ويقول أيضاً: « إنّ وضعي هنا على ما تَعْهده من انقطاعي عن الناس، وكفالة هذا المجتمع الصغير الذي أنزل من أفراده منزلة الأب والأم والمعلم والرقيب والخادم والمهرج أحياناً».
وتوجّه الأقدار مزيداً من ابتلاءاتها نحو حمزة، الذي أظهر من إيمان المؤمن وثبات الرجال الشيء الكثير، وما عُهد عنه إلا شموخه ورفعة رأسه، وأخذتْ ظروف الحياة الحالكة تتناوشه بين مدّ وجزر، ومن المحطات المؤلمة في حياته ما كان حين أجريت له عملية جراحية في عينيه، أخطأ الجراح بها، فإذا بضياء العين يخفت شيئاً فشيئاً.
ويسافر حمزة إلى إسبانيا لاستشارة أطبائها، وهناك فوجئ بأنّ الخطأ الطبي لا يمكن تداركه أو إصلاحه، وأيقن بأنّ العلم لا يملك له من الأمر شيئاً، فاستمرّ ضعف بصره، واحتاج إلى من يقرأ له ويسير معه، وكلّما ذكر أمامه خطأ الطبيب قال بإيمان صادق: «أخطأ الطبيب إصابة الأقدار».
لقد خلّفتْ تلك الظروف القاهرة في حياة حمزة وراءها أخاديد غائرة وجروحاً لمّا تلتئم. فالحرمان الأسَري، والاهتزازات الصحية، وقسوة الوحدة، وحنينه الدائم إلى الاستقرار المفقود، كلّها عوامل تركتْ فيه بصماتها الواضحات، ومع ذلك لم تنجح في تغيير رموز عمق الفكر، وعبق أصالة النفس، والعاطفة الجياشة، والرجولة المتماسكة التي لا يعيبها أن تبكي في وقت يجدر فيه البكاء.
يقول حمزة في لحظة صفاء يخاطب فيها قلبه، في أبيات طغتْ عليها أجواء قاتمة، حنّتْ إلى الماضي، وتخوفتْ من المستقبل:
حنانيك حدثني ولا تُخف مـا وشـى
به صمتك الآسي هوى متدفّقا
ويا قلب إن يعصف بك الحزن فاتئد
فما زلتُ ألقاك السمير الموفّقا
وقل كـنـتُ أهواه هــواك ألم تـكن
تنافـثه نـجواك غيران شـيّقا
أمـا كان بـدراً فـاق بدرك بهجة
أما كان أسنى منه وجهاً ومفرقا
ويا قلب إن يعصف بك الحزن فاتئد
فكم ضاع مسعى للقلوب وأخفقا
نظرته الفلسفية إلى العمل
وتركتْ كتابات شحاتة النثرية، الكثير من بصمات فكره الفلسفي، وظهر من خلالها حرصه على العمل الدؤوب وإتقان ما كان يكتبه ويقوله، وعن ذلك يعبّر: «العمل المتواصل هو الذي يصنع الشخصية، ويبني الاعتماد على النفس، وينمّي قوى الذهن والنفس، ويضفّر عضلات العقل، ويطرد سموم التفكير والتفاهات الذهنية والعاطفية، إنّ الحياة نشاط، والموت يوقف هذا النشاط».
ويقول في مقام آخر: «ليس هاماً أن يبدأ إنسان من أي مستوى، فالسفح هو أول المستويات، ويمكن أن يظلّ الإنسان مرتبطاً به ارتباطاً أفقياً، والصعود يقتضي الانتباه والتفكير، والسؤال هنا ليس كيف أصعد، وإنما ماذا ينبغي أن أفعل كي أحتفظ بمستواي الجديد، لكيلا أتدحرج ؟».
ومن أجمل ما يعكس رؤية حمزة شحاتة الفلسفية في الحياة أبياته:
أيها الكادح الذي اتخذ الوعر سبيلاً إلى السعادة رفقا
هي وهم مجدد أنت منه في نضال تنوء وتشقى
وهي لغز تمضي الحياة ولا تكشف عنه الظنون خرقاً ورتقا
كم سرينا على سناياها حيارى نركب الوعر والعواصف خرقا
فإذا نحن في كفاح مرير بين سار على الكلال وملقى
حنينه إلى جدة
وكثيراً ما تغنى حمزة بشوقه إلى وطنه الذي كواه بُعده عنه، وكان يجد في قلمه متنفّساً لما يدور في صدره من مشاعر دافئة، تجاه تلك السنين التي قضاها في ربوع حبيبته (جدة)، التي عشق بحرها وبرها وذرات رمالها، وها هو يتغنى بشطآنها، ويبثّ همومه وأحزانه إلى لياليها الدافئة:
النهى بين شاطئيك غريــق
والهوى فيك حالم ما يفيق
ورؤى الحب في رحابك شتى
يستفزّ الأسير منها الطليق
ومعانيك في النفوس الصديات
إلـى ريها المنيع رحـيق
ويذوب الجمال في هيكل الحب
إذا آب وهـو فيك غريق
الخطيب التنويري
وبزغ نجم حمزة شحاتة أيضاً في فنّ الخطابة. فإذا به المحاضر المفوّه الذي يتكلّم فينصت له حضور أحبّه، وأسرَه الانسياب السلس للكلمات، والترابط الأنيق للأفكار.
ومن أروع محاضراته التي هزّتْ واقع الأندية الثقافية في تلك الحقبة: «الرجولة عماد الخلق الفاضل»، التي ألقيتْ في جمعية الإسعاف بمكة، وأثار فيها الفتى ذو الثلاثين ربيعاً، فضول شيوخ مكة ومثقفيها، إذ سطعتْ قوة بلاغته، ونمط تفكيره الفذ. ففي تلك الليلة صفّق الحضور أكثر من ثلاثين مرة، وهم يعبّرون عن إعجابهم بخطاب شحاتة، وما ضمّه من أبعاد فكرية عميقة ومضامين فلسفية بنّاءة.
لقد كان تنوير المجتمع وإصلاحه هدفَين رئيسين، سعى حمزة شحاتة بقوة إلى تحقيقهما. وكثيراً ما دعا في خطبه إلى النهوض بالمجتمع، ونادى برفع شأن الوطن، وعبّر عن تضامنه مع كفاح الدول العربية آنذاك، ومناصرته لقضايا الشعوب المستضعفة.
ونرى شحاتة وهو يرقى هنا بمشروعه الإصلاحيّ إلى درجة سامية، حرص فيها على الدعوة إلى توخّي الحياء، عماد الدين والإنسانية، الذي يبني الحياة الفاضلة.
يقول شحاتة في خطبته البديعة تلك: «أيها الخطيب الذي يُضلّل الضمائر ويقول ما لا يعتقد، استحِ. أيها المتحدّث الذي يخدع أخاه بما يضمر ضدّه، استحِ. أيها الكاتب الذي يئد الحقّ والجمال والقوة ليظهر، استحِ. أيها الشاعر الذي يصنع الكذب والباطل والملق في شعره، فيسجّل به عاراً على أمّته، استحِ. أيها الكريم الذي يقيم المآدب ينفق عليها المئات في مأتم أمّته، استحِ. أيتها المَدرسة التي تدفع إلى الحياة شباباً حائراً لا يعرف سبيله في الحياة، استحِ. أيتها الأمة التي لا تبني مَدرسة تصنع الرجال الأقوياء، يقيمون مجد الوطن، استحِ. أيها المتعلِّم المترفِّع عن غشيان معترك الحياة، استحِ».
«أيها الوطني الصادق، إنْ أعجزك الجهاد لأنك ضعيف، فجهادك أن تأخذ بيد الضعيف تواسيه، وبيد الحائر تهديه، وبيد المصاب تعزّيه، وبيد العاثر تنهضه، وجهادك أن تنفخ في الضمائر حتى تحيا».
رسائله إلى ابنته
ونرى أيضاً أنّ لحمزة شحاتة حضوراً قوياً بين صفوف أدباء الرسائل، وبين أيدينا مجموعة من رسائله الأثيرة، خصّ بها ابنته شيرين، التي أعادت إلى والدها حنينه القديم إلى الكتابة. إذ شجّعه على ذلك شوقه إليها بعد أن عادت إلى وطنها برفقة زوجها، وما هي إلا أيام حتى غدتْ شيرين ملهمة أفكار رسائل حمزة شحاتة.
كان حمزة قد رفض بحزم مقترح ابنته في نشر تلكم الرسائل، ونجح الأصدقاء لاحقاً في إقناع شيرين بالعدول عن تلك الفكرة بعد رحيل والدها، حتى لا تُحرم مكتبات الأدب العربي من كنز نفيس كهذا.
وفي رسالات شحاتة إلى ابنته، تدفقتْ مشاعر صادقة من الأبوة الحنون، وترقرقتْ شلالاً من الضوء والألوان البديعة. وقد ترك لريشته العنان، فشعّتْ بذلك لمسات الجمال والفن والذوق الرفيع. وارتفعتْ رسائله إلى مصافّ الأعمال الأدبية الفريدة، التي لم تضطرب فيها عبارة، أو يضعف خلالها سبك أو ترابط لتسلسل الجمل والأفكار.
«ابنتي شيرين، لا تزالين بيننا، وأظنك في غير حاجة إلى البرهان، فصوتك وضحكاتك تملأ أرجاء البيت، إنّ الفراغ الذي خلّفه لنا بعادك عنا سيتسع ويكبر، وهذا يعني لي مزيداً من القلق والعذاب. إنك دائماً أمامي وصوتك ينساب إلى أذني وقلبي رقيقاً حانياً، وأنفاسك تتردّد على وجهي، فتلطّف حرارة إحساسي بالضنك والمرارة والعذاب».
«تشجعي ولا تقلقي ولا تخافي، وتذكري أنّ الحياة سلسلة من الصدمات لا نتغلب عليها إلا بالمزيد من الصبر والقدرة على التكيف، ولا شيء في الحياة يتحقق بغير جهد وصبر وعراك دائم مع متناقضاتها».
«نعم أنتِ هنا ملء فكري وبصري ونفسي وشعوري وخيالي، وملء أملي واعتزازي، لا تدعيني أقلق عليك، وهذا رجاء أيتها الحبيبة الغالية».
«إنّ قلبي يا صغيرتي يتابع خطواتك وأنفاسك، يرفرف حولك سعيداً بما يحسّه من فرحتك بالحياة، شقياً تعساً بما يخشاه عليكِ حتى من حرارة الجو وبرده، ومن قلق لحظة يعرضك له عارض عابر أو خيال بارق. إلى اللقاء
يا حلمي البهيج، يا كل شيء لي».
ولحمزة شحاتة فلسفته الخاصة في فهم فقه الجمال، تستند إلى رؤية شاملة لمحيطه الخارجي بكلّ ما فيه. كما أنّ له رؤية جمالية ثاقبة، يرتبط فيها السبب بالمسبّب ارتباطاً وثيقاً، ومن أقواله في ذلك: «والجمال في ذاته ما هو؟ أهو تجاوب القسمات، واتساق الملامح، واكتمال الانسجام، أم هو معانٍ مكنونة ودواعٍ تعبِّر عنها ظواهره البادية؟».
«فالجمال ليس في صور الأشياء، بل في الشعور بتلك الصور، وإذابة بواعث الفتنة التي تتحوّل إلى حطام من المعاني الفاترة السخيفة، ولهذا يتفاوت الموقف لدى المتأمّلين باختلاف شعورهم وتلون أحاسيسهم. إنّ الجدول المترقرق، والحقل المهتز، والنسمة الطليقة، والبدر المشرق، والليل الساجي، مظاهر جمالية، لكنّ جمالها ليس في ذاتها، وإنما فيما تولّده في النفوس من معاني تلك المظاهر المتجددة التي تقاوم الثبات».
«إنّ الزمن لو كان ربيعاً كلّه، لفقد الربيع معنى سحره وألقه وروائه الأخاذ. ولذلك، كان تعاقب الصور وتجددها شرطاً لازماً لضمان تأثير الجمال وتأثير معانيه. فالماء يظلّ ماءً بعد أن يروي العاطش منه، وما يفنى هي تلك الخطرات التي نجدها عند من بلغ به الظمأ مبلغه، فإذا ما ارتوى تلاشت، وظلّ الماء على حقيقته».
إذن فعماد الجمال لدى حمزة يقوم على الرفع من قيمته المستترة، والبحث عن معاني الحبّ السامية، واستنطاق أسرارها الخبيئة، والتنقيب عنها بالغوص في أعماقها، وللجمال في نظر هذا العاشق معنى لا تحدّه النظرة، ولا تقيّـده الفكرة.
غياب الفارس
وفي القاهرة في أواخر سنة 1390هـ، رحل الفارس النبيل عن دنيانا بهدوء. وترك في أعماق مَن عرفه شجوناً، أنّى تنتهي، وغدا حمزة شحاتة الغائب الحاضر، إذا ما ذكر الشعراء ورموز التنوير والقيم الفاضلة. ولم يتمالك نفسه محمد صالح باخطمة صديق الشاعر الأثير ورفيق دربه في القاهرة، فأخذ يرثيه بأبيات مليئة بالنظرات والعبرات، جاء فيها:
الفارس غاب ..
ركب الفرس المغسول بضوء الفجر ..
وسار ومضى لا يلوي ..
ترك الفانية وليس لحيّ في الأمر خيار ..
ومضى في دنيا باقية ..
لا يُسمع فيها صوت الأشرار ..
سكت الصوت المجلو بلون الصبح فما ثَمّ هزار ..
بقيتْ بسمته للإنسان ..
بقي الفكر الصافي ..
يعطي الحكمة إن الدنيا ليل ونهار ..