قول آخر

«تيدكس» العربية..
الإبداع والقبض على الهواء

بات معروفاً أن مؤتمر «تيد» (TED) مؤتمر سنوي دولي بدأ في العام 1984م، ويُقام في الولايات المتحدة اﻷمريكية بشكل منتظم، ويهتم بنشر اﻷفكار التي تستحق التقدير والاهتمام في مجالات متعددة، من ضمنها موضوعات في العلوم، الفنون، العمارة، التقنية،الترفيه والتصميم الغرافيكي والديكور الداخلي، والقضايا العالمية على نحو عام، وغيرها من حقول الحراك الإنساني المعرفي الفاعل. وفي الغالب، يأتي المتحدثون في هذا المؤتمر من أماكن متعددة في العالم، ومنهم من له مناصب عليا على الصعيد العالمي، كرؤساء الدول واﻹعلاميين والحاصلين على جوائز نوبل وغيرهم، وكان من أشهر من تحدث في «تيد» الرئيس السابق للولايات المتحدة بيل كلينتون ومؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس.

ورغم الأهمية المتصاعدة التي يتخذها المؤتمر فإنه من الصعب التصور أن يأتي شبان -في عالمنا العربي- من الساعة الرابعة عصراً، ويجلسون في قاعة مؤتمرات حتى العاشرة ليلاً، ليستمعوا إلى محاضرات وخطب وأحاديث، حتى لو كان ذلك لحضور مؤتمر «تيد (إكس)» العربي، حيث تشير «إكس» (x) إلى أنه يقام مستقلاً عن (TED) العالمي.. وهكذا أقيم «تيدكس» العربي في جدة مطلع ديسمبر الماضي. (وكان أقيم المؤتمر خلال السنوات الماضية في الدوحة والقاهرة ودبي والخرطوم). وقد يتساءل المرء عن مفارقة إقامته في دول متقدمة تحت مظلة عالمية بمحتوى متقدم، وإقامته في دول نامية بمحتوى ساع إلى التنمية. مع الأخذ في الحسبان الاستقلالية وما يمكن أن يقدَّم هناك وهنا. إذ يحتمل المعنى المبطن بأن ما يصلح هناك لا يصلح هنا، وهي حقيقة، فلا زلنا في طور السعي نحو التنمية. ورغم ذلك كان في جدة طرح جديد لم يُتناول من قبل، حيث ابتدأت الفعاليات بعرض فيديو خاص بـ«تيد» عرَّف الجمهور بالمؤتمر العالمي الشهير وبعض مقاطع المؤتمر في موطنه الأمريكي. وتحدث نحو خمسة عشر متحدثاً عن تجاربهم، من بينهم مجموعة من الأسماء السعودية التي «أبدعت» وحققت السبق، وهي تقف أمام الملأ لتعرض تفاصيل فكرتها «الإبداعية»، لا سيما أن العنوان الذي حمله «تيدكس العربي» موجه للإجابة عن سؤال «ماهو الإبداع؟».

انصبت الكلمات، وكانت جيدة. وإن كانت في جزئية منها تنطق بلسان حال مستتر لتدفع بالشباب الحاضر نحو الإبداع، وكأن الإبداع فعل إرادي يتقصده الفرد فيصله. هذا المفهوم بدا طاغياً ومسيطراً في الخلفية الذهنية لدى المحاضرين، وإن كانت الواجهة الأساسية لدى المتكلم هي الفخر بما أنجز والمباهاة بما تحقق -رغم محدوديته-، ربما ذلك من حقه إن لم يكن متواضعاً، ولكن ليس من المنطقي أن يعلي عمله إلى مرتبة الإبداع، وليس المجال للدخول في تعريف للإبداع حتى وإن كان المؤتمر كرس عنوانه تحت السؤال عن هويته.

إذن تشكل مفهوم مضطرب في الثقافة العامة ورسخه المؤتمر، بأن ما قام به المتحدثون هو إبداع، في حين أن ما فعلوه لا يخرج عن نطاق الأعمال المألوفة في الثقافة العالمية. والمؤتمر ذو طابع ومنشأ عالمي حتى لو أخذ من كلمة «العربية» مخرجاً له يهرب به من مواجهة العالم المتقدم، ويبني تحته قبة التميز الإقليمي.. فقد غاب عن المتحدثين أن الإبداع قد يأتي أو لا يأتي بعد مجهودات مضنية وعمل دؤوب وتجارب لا حصر لها، وأنه إذا أتى فإنما يأتي مباغتاً نتيجة التواصل في التجريب والخطأ، فبدوا وكأنهم يقولون للشباب (أبدعوا) أو كمن يطالب بالقبض على الهواء.

حري بالأهمية أن يتحدث مبدع حقيقي عن الخطوات التي قادته إلى لحظة الإبداع. ففي ذلك تحريض للشباب على البحث والعمل والاطلاع والتفكير والتجريب. وبكل تأكيد، لا يفعل ذلك من لا يمتلك أدوات البحث ومعرفة أساسيات ما يبحث فيه وعنه.. كان حرياً بالمؤتمر أن يبث رسالة يغلفها التحفيز إلى صقل الذات والعمل والتفاني في الجهد، لا الإيهام بمقولة: أبدعوا.

أضف تعليق

التعليقات