قول في مقال

أيها الطبيب..
هل أمضغ علكة، أم أتناول تفاحة؟

كثيراً ما تطالعنا نتائج أبحاث ودراسات طبية تناقض ما كانت قد توصلت إليه دراسات أخرى. وتعرضها علينا وسائل الإعلام مبسطة، مع شيء من المبالغة أو التفكّه لجذب انتباه القرَّاء.
عبدالخالق الغامدي ينطلق من خبر صغير نشر في وسائل الإعلام مؤخراً، ليطرح ســـؤالاً كبيراً، حول تضارب تقارير الأبحاث الطبية، وقيمتها الحقيقية، وتجريد تفاصيل من وقارها مع شيوع وسائل الاتصال الحديثة.

نشرت صحيفة «الحياة» بتاريخ الثاني من ديسمبر 2010م خبراً طريفاً في صفحتها الأخيرة، يتحدث عن مدرِّسة ألمانية تحث طلابها على مضغ العلكة، استناداً إلى النظرية القائلة إن العلكة محفزة للخلايا العصبية إضافة لتعزيزها للتركيز، وجاء في المقال: مضغ العلكة يحفِّز نشاط الدماغ ويساعد بالتالي على زيادة مستوى الانتباه والقدرة على التركيز..!

والحقيقة أن هذا المقال مدعاة للتفكير في قضية تبتعد عن العلكة وعن المدارس وعن ألمانيا، ولتثير التساؤل التالي: أين وصلت الدراسات والتقارير والأبحاث الطبية التي تُجرى على الأطمعة والأشربة؟ وما القول الفصل في تأثير هذا المأكول أو ذاك المشروب على صحة الإنسان؟ ويزداد هذا التساؤل وجاهة ونحن نشهد دراسات ينفي بعضها بعضاً، ويتناقض مضمون أحدها مع مضمون الآخر يوماً بعد يوم. وفي مجال الطب تحديداً يصبح هذا التضارب خطراً حقيقياً لاتصاله المباشر بصحة الإنسان وحياته.

ترى ما هو المرجع في استقاء تلك الدراسات واستحداثها؟ وأيها يخلص إلى نتائج دقيقة وصحيحة؟ وأيها يتحدث بما لا يعرف؟

لا بد من الإقرار في البداية بأن هناك مؤشرات تتحدث عن أن طبيب اليوم قد يكون خطراً على صحة المرء، في الوقت الذي يُتوقع أنه المنقذ من الألم والمريح منه كما كان «حكيم» الأمس. والواقع يخبر عن مشاهدات عديدة تعزِّز هذا الافتراض. فمن الحوادث المشهورة في هذا الصدد الإضراب الذي قام به الأطباء في لوس أنجلوس عام 1978م واستمر شهراً كاملاً، وكانت أهداف ذلك الإضراب بعيدة كل البعد عن النتيجة الكبرى التي صدمت مراكز الأبحاث والمتابعين، وهي انخفاض نسبة الوفيات خلال ذلك الشهر بنسبة %18!

الأمر نفسه تكرر في فلسطين المحتلة، عندما أضرب الأطباء في عام 2000م في كافة أنحاء البلاد مطالبين بزيادة الأجور وتحسين الأوضاع المعيشية، وكان من المدهش أن الوفيات انخفضت واستمرت في الانخفاض مع استمرار ذلك الإضراب، حتى أشارت تقارير إلى أنه في بعض المدن هوت نسبة الوفيات بمعدل %50، وهو ما جعل السؤال المثير يطفو على السطح: هل الأطباء يقتلون المرضى؟

ومن الدراسات الطريفة كذلك، تقرير نشر في أكتوبر 2008م، تناول فيه باحثون أمريكيون وكنديون من جامعات مختلفة بعض الإضرابات التي قام بها الأطباء خلال الثلاثين عاماً الماضية، وحصروا منها خمسة إضرابات كبيرة، وكانت النتيجة أنه في جميع هذه الحالات كانت نسبة الوفيات تقل عن المعتاد أو على الأقل تبقى بمعدلاتها الطبيعية، إلا أن لا إضراباً من تلك نتجت عنه زيادة في عدد الوفيات بسبب غياب الرعاية الطبية.

وبعيداً عن إضرابات الأطباء ونتائجها، تظهر أمام المتابع أسباب أخرى من شأنها إحداث الشك في كثير من تلك التقارير الطبية والدراسات والنصائح المستمرة التي تنهال على الفرد بمجرد سؤاله عما يحافط له على صحته. فالانفتاح الإعلامي مثلاُ لا يمكن أن يُغفل عند الحديث حول هذه المشكلة، وما يتيحه الإنترنت لنشر وتسويق أي معلومات أو تقارير مغلوطة أصبح أمراً مألوفاً لدرجة أنه أوقع بعض المؤسسات والمراكز العالمية المعتبرة في حرج، من بعض التقارير الملفقة التي تنسب إليها.

فعلى سبيل المثال، انتشر عبر البريد الإلكتروني تقرير مطول عن الخلايا السرطانية وخطورة العلاج الكيميائي الذي قد يعالج الورم جزئياً، لكنه يؤثر بالكامل على الخلايا الدماغية في جسم الإنسان. ولقي هذا التقرير رواجاً كاسحاً في صناديق البريد والمجموعات الإلكترونية، لدرجة أنه ترجم إلى العربية وتناقله «المجتمع الإنترنتي» العربي، وجاء المقال بعنوان: «أحدث بحث طبي صادرعن جامعة الأبحاث الطبية الأمريكية الشهيرة -جون هوبكنز- والتي تعد ثاني أحسن جامعة ومركز أبحاث طبي على مستوى أمريكا».

تحدث المقال بوجاهة! وبلغة علمية مبسطة محترفة عن أحد عشر سبباً لجعل العلاج الكيميائي «مهلكاً» للإنسان، وأشار التقرير إلى أن في كل إنسان ثمة خلايا سرطانية، لكنها لا تظهر كمرض إلا بعدما تتكاثر في منطقة معينة من الجسم، كما أن العلاج الكيماوي يقوم بتسميم تلك الخلايا السرطانية، ويؤدي أيضاً إلى تدمير خلال سليمة سريعة النمو في النخاع الشوكي والجهاز الهضمي ويسبب أضراراً في الكبد والكلى والقلب أو الرئتين.. إلى آخر المقال.

وجاء في نهاية المقال أن جامعة جون هوبكنز الشهيرة نشرت هذا البحث في دوريتها العلمية، وتناقلته مراكز بحث كبرى في الولايات المتحدة، كما ظهر الدكتور إدوارد فوجيموتو، مدير برنامج الصحة بمستشفى كاسل مؤخراً في برنامج تلفزيوني ليشرح هذه الظواهر ويؤكدها!!

والحقيقة أن جامعة جون هوبكنز أصدرت بياناً خاصاً بهذا البحث، تؤكد فيه أن هذا البحث لم يصدر عنها، ولم ينشر في دوريتها ولا في غيرها، وأوردت ما مفاده: «نشرت على القوائم البريدية معلومات خاطئة نسبت إلى جامعة جونز هوبكنز، تستعرض بالتفصيل حقائق عن الخلايا السرطانية وسبل العلاج منها، وجون هوبكنز لم تنشر هذه المعلومات التي أرسلت بالبريد الإلكتروني، كما أنها لا تؤيد محتواها أيضاً».

ولكن المفارقة تأتي هنا في أن بيان الجامعة العريقة لم يلق الرواج الذي لقيه التقرير المزيف. وهو ما يعيدنا إلى الاستفهام عن المرجعية العلمية والطبية والحقوقية والفكرية في العالم الافتراضي الرقمي؟ من يحاسب من؟ وما هي الآليات التي تحفظ القارئ من التلفيق والتزوير وتأليف الحقائق المغلوطة؟

حسناً، من الواجب أيضاً قبل أن نضع نقطة نهاية السطر أن نشير إلى ثقافة عامة قد تكون سبباً مهماً آخر من أسباب هذه الفوضى البحثية الطبية، وهي النظرة التقليدية إلى الطبيب، والافتراض أنه أحرص على صحة المريض من نفسه. إن المبالغة في توهم المرض أولاً، والتوجس من أي عارض قد يصيب الجسم، ثم المبادرة بالاعتماد على الطبيب لتقديم العلاج والتشخيص ثانياً، والافتراض بأنه أدرى بجسم المريض من نفسه، وبما يتعرض له ذلك الجسم من مؤثرات بيئية واجتماعية ونفسية وغيرها، يحول الإنسان من مسؤول راشد عن عافيته وسلامته، إلى متلقٍّ بليد يتكئ على ما يوصي به الطبيب وما تنصح به الأبحاث.

هناك واجب مناط بكل فرد، وهو أن يقوم بمسؤوليته الصحية تجاه نفسه، ولا يتعامل مع أي عارض بتفاعل سلبي مبالغ فيه، ولعل هذا ما يشير إليه القول المأثور: «لا تمارضوا فتمرضوا»!

تُرى، هل ما زال العلك الآن منشطاً للخلايا الدماغية وسبباً لزيادة التركيز؟ أم أن العلك يحتوي على مواد كيميائية وملونة وكمية عالية من السكر؟

أضف تعليق

التعليقات