حياتنا اليوم

حقيبة السفر..
أشياء من حياة وأوطان

تتداعى في حقيبة السفر معاني الانتقال بكلّ اشتقاقاته وشروحاته؛ كما بكلّ ترجماته النفسية والعاطفية، إذ تحيلك بعض الاشتقاقات إلى السفر بمعناه الذي ينطوي على عودةٍ، عاجلة أم آجلة أم مؤجلة أكثر. وقد تتكشّف لك بعض مشتقّات المعنى عن الارتحال بمفهوم التقافز بين أجمات الغيابات، الجزئية أو الدائمة، كما قد تشرع لك ترجمات المعاني باباً عريضاً على الرحيل بمفهوم الوداع، الذي لا عودة بعده مع أننا نتشهّى العودة جداً. ونتحسّر على الغياب المطبوع بالفقد والهجر ردحاً من الذاكرة؛ ذلك أن في الرحيل فصماً في الوجود الحيّ يتبعه انفصام تدريجي بين الأصل والذكرى. ضمن هذه المعاني، وما يستتبع عنها من معان تحتمل «إلباسات» كثيرة وتأويلات تكتسب شرعيّتها من نفسية المؤوِّل -إن جاز وصفه بذلك- فإن حقيبة السفر هي الرمز المعنوي بموازاة التفسير الحسي لانتهاء علاقتنا بجغرافيا بعينها، قيمتها يحدّدها أناس الجغرافيا أنفسهم بقدر حيثيّات البيئة العاطفية فيها، والانتقال إلى جغرافيا مختلفة ورقعة بشرية نفسية أخرى، إمّا مراماً وحبّاً وابتغاءً للجغرافيا المستجدّة وإما قهراً وقسراً ولفظاً من جغرافيتنا الأم أو جغرافيتنا «القديمة».

إن الحقيبة تروينا بطريقتها، وفصول روايتها في جميع الأحوال لا تقارب تلك الرواية الممجوجة التي دأبت المسلسلات والأفلام العربية على قصّها علينا، فتكون هناك دوماً حقيبة صغيرة فارغة على ظهر الخزانة، لا هوية لها وغالباً ما تكون إطلالتها الرثة متناقضة مع بهرجة غرفة النوم، جاهزة لتلبية مشهد حرد الزوجة أو هروب الرجل من بيت الزوجية، حيث تُنتشل الملابس «المزعومة» من الخزانة وتُلقى في «الشنطة» كيفما اتفق، مع ملاحظة إسقاط المشهد الركيك عناصر لا يستوي توضيب حقيبة السفر، أو حقيبة الحرد، من دونها؛ كالجوارب والملابس الداخلية وفرشاة الأسنان ومعجون الحلاقة، إلى جانب حذاء أو خفّ واحد على الأقل! وبدلاً من أن تنوء المرأة الغاضبة والزوج الساخط بحقيبة ثقيلة، محدّبة، تكاد تنبقر من الانتفاخ، تتهادى الغاضبة كما الساخط بحقيبة خفيفة مُقعّرة، يسهل أن نكتشف في كل مرة أنها فارغة.

وفي كل مرة يصر «رواة» الأفلام غير الشطار على أننا لسنا شطاراً بما يكفي كي نعرف أن الحقيبة التي تكاد تطير من يد صاحبها فارغة. قد لا تكون رواية الحقيبة في الأفلام الأجنبية أكثر قابلية للتصديق من نظيرتها العربية، لكنها تظلّ أكثر أناقة، أكثر إقناعاً، وأكثر مشهدية؛ وفي الذاكرة تبرق صورة لمحطة قطارات، مستلفة من أوراق أزمنة رومانسية شفّافة، غاصّة بالمسافرين والمسافرات الذين يحملون حقائب صندوقية الشكل، صغيرة على نحو لا يليق تماماً بمستلزمات السفر الطويل، لكنها مع ذلك توحي بأن ثمة حياةً ما، وذكريات منتقاة، مصفوفة ومرتبة بعناية داخلة الحقيبة.

نحن مع حقائبنا نكون ما نريد للعالم أن يرانا عليه، تماماً كما لا نريد للعالم أن يفضحنا. ففي حقائبنا أشياؤنا؛ شيءٌ من حياتنا الذاهبة، وشيءٌ من حياتنا الماشين إليها. شيءٌ من فرحنا المدسوس في جيوب الحقيبة السرية عنوة، وشيءٌ من هزائمنا التي تضيف ثقلاً زائداً فوق ثقل الحقيبة، شيءٌ من آمالنا المستكينة، وشيءٌ من شقائنا المسْتكِن. شيءٌ من عذابنا المنزوي وشيءٌ من ضحكنا المتبقّي. شيءٌ من بكائنا الغافي، وأشياء من وطن.

بين الملابس والهدايا والتذكارات، بين الأوقات العابرة والانكسارات، بين أوراق إثبات الهوية المرتحلة وصور لحظاتنا الزائلة، بين وطن غائب ووطن مُرام، فإن أشدّ ما نخشاه هو أن نختصر الأوطان في حقائبنا. هذا ربما ما جعل شاعرنا محمود درويش ينفي بمرارة أن يكون الوطن حقيبة، في رباعيات «يوميات جرح فلسطيني»، المهداة لسيدة الشعر فدوى طوقان:
آه يا جرحي المكابر
وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر
إنني العاشق، والأرض حبيبة

لكن خشيتنا في محلّها، ومحمود درويش نفسه لم يستطع في النهاية إلا أن يحزم الوطن في حقيبة، بل ذهب إلى حد أن الوطن كلّه حقيبة، في تشييء قاسٍ وموجع للوطن، ومحاكاة تقرص الروح، إذ يتماهى الوطن بالمطلق -رحيلاً وارتحالاً، غربة واغتراباً- مع حقيبة السفر، في قصيدة «مديح الظلّ العالي»:
وطني حقيبة
وحقيبتي وطنُ الغجر.

أضف تعليق

التعليقات