هو واحد من آخر ممثلي جيل الكبار الذين ولدوا وتربوا في فلسطين الانتدابية، ليعيشوا لاحقاً معظم حياتهم خارجها.
إنه الإذاعي واللغوي حسن الكرمي الذي تختزل صورته كما يرسمها هنا
إلياس سحَّاب الكثير مما حمله القرن العشرون من تقلبات على الحياة العربية والقضية الفلسطينية بشكل عام.

بالإضافة إلى الخدمة الإخبارية التي صنعت شهرة هيئة الإذاعة البريطانية خارج حدودها، يمكن القول إن القسم العربي في هذه الإذاعة، قد اشتهر على مدى النصف الثاني من القرن العشرين بمجموعة من البرامج الإذاعية التي رسَّخت السمعة الإذاعية المهنية لهذا القسم. وليس من باب المبالغة القول أنه كان يقف على رأس هذه البرامج، لسنوات طويلة، البرنامج الأدبي قول على قول ، الذي كان يعده ويقدمه الأديب الفلسطيني حسن الكرمي. ومن خلال هذا البرنامج لمع اسم الكرمي واحتل مكانته في الذاكرة الثقافية لتلك الفترة.

ولد حسن الكرمي في مدينة طولكرم (فلسطين)، في العام 1902م، لعائلة عريقة في الأدب والفقه واللغة، اشتق اسمها من اسم المدينة العريقة التي تنتسب إليها. فوالده الشيخ سعيد الكرمي (1852 – 1935م)، درس في الأزهر بالقاهرة وتتلمذ على الشيخ جمال الدين الأفغاني، واكتسب عضوية المجمع العلمي العربي بدمشق في العام 1920م، وله رسالة في التصوف عنوانها واضح البرهان في الرد على أهل البهتان . وشقيقه الأكبر، أحمد شاكر الكرمي (1895 – 1927م) تلقى علومه العليا في الأزهر بالقاهرة طيلة ست سنوات وعمل في تحرير جريدة القبلة ، في مكة المكرمة، ثم تنقل في عالم الصحافة بين دمشق والقاهرة. وشقيقه الآخر شاعر فلسطين الكبير عبدالكريم الكرمي، الشهير بـ أبو سلمى (1907 – 1980م).

أما حسن الكرمي فبعد دراسته الابتدائية في طولكرم، توجه إلى دمشق لدراسته الثانوية في مكتب عنبر . ويقول الكرمي أنه كان هو وإخوته الفلسطينيين الوحيدين في المكتب. ويرسم في مذكراته التي نشرتها دار القدس العربي في عام 1990م، صورة حية عن التعليم والحياة في سورية خلال تلك الفترة. ويروي كيف أن طلاب المكتب استقبلوا الجنرال الفرنسي غورو بالصراخ عندما زار المدرسة للاطلاع على التعليم فيها. كما يتحدث أيضاً عن مشاركته في تظاهرة ضد الوجود الفرنسي في سورية.

ومن دمشق، عاد الكرمي إلى القدس للالتحاق بالكلية الإنجليزية فيها. وحاز على بعثتين دراسيتين في إنجلترا في العامين 1937 و 1945م) حيث درس أصول التربية والتعليم والإحصاء التربوي. ثم عين بعد عودته لفلسطين مفتشاً لإدارة المعارف بالقدس، ودرَّس اللغة الإنجليزية في أشهر المدارس العليا في فلسطين الكلية العربية ، ابتداءً من العام 1938م.

وعاش الكرمي في الثلاثينيات الثورة الفلسطينية، وكان معارضاً لقيادة الحاج أمين الحسيني. فاعتُبر موالياً لسلطة الإنجليز. وازدادت أوضاعه تأزماً بعد اغتيال شقيقه محمود على أيدي بعض مؤيدي الحسيني في بيروت.

قول على قول
بعد نكبة فلسطين في العام 1948م، هاجر إلى إنجلترا، حيث انخرط في تأليف عدد من القواميس النفيسة، ثم عمل في إعداد وتقديم برنامجه الإذاعي الشهير قول على قول لسنوات طويلة، جمع مادته ونشرها بعد ذلك في كتاب حمل الاسم نفسه يقع في ثلاثة عشر مجلداً.

يمكن أن نطلق على هذا البرنامج الشهير اسم شعر على شعر ، فهو بلا شك أشهر برنامج إذاعي مخصص لتناول وعرض وشرح أجمل نماذج الشعر العربي القديم والجديد.

كانت فكرة البرنامج تعتمد على توجيه أسئلة إلى الأستاذ حسن الكرمي، عن بيت شعر شهير (أو غير شهير أحياناً)، مع سؤال تقليدي، يتكرر في كل مرة: من القائل؟ وفي أية مناسبة؟

والحقيقة أنه بعد تلاوة أبيات الشعر موضوع السؤال، وطرح السؤال التقليدي المذكور، كان حسن الكرمي يغرق، ويغرق معه ملايين المستمعين العرب، بين المحيط والخليج، في محيط التراث الشعري العربي، فيقود المستمع في رحلة ممتعة لدرجة يتمنى معها المستمع عدم انتهائها. فيبدأ طبعاً بشرح معاني الأبيات موضوع السؤال، ثم يضعها في المقطع الشعري في القصيدة التي تنتسب إليها، ثم يشرح المناسبة التي دفعت الشاعر إلى قول القصيدة، وإلى تضمين الأبيات موضوع السؤال.

وقد ظلَّت الحلقات الأصلية للبرنامج، تقدَّم لسنوات طويلة في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، فعندما توقف حسن الكرمي عن تسجيل حلقات جديدة، عمدت إدارة الإذاعة البريطانية إلى إعادة بث جميع حلقات البرنامج المسجلة، فظل صوت حسن الكرمي يتردد من إذاعة لندن العربية، بينما كان هو قد أنهى هجرته إلى بريطانيا وحزم حقائبه وعاد إلى الأردن، تاركاً بعض أفراد عائلته، ومنهم ابنته غادة التي انتسبت إلى أحد الأحزاب وانخرطت في السياسة.

معاجم الكرمي
إضافة إلى كتاب قول على قول الذي أشرنا إليه سابقاً، أصدر الكرمي في العام 1995م، كتاب العلم والتعليم في فلسطين والكلية العربية في القدس ، وهي الكلية التي درَّس فيها اللغة الإنجليزية، وكانت الصرح الذي خرَّج كبار المثقفين الفلسطينيين قبل النكبة. غير أن أشهر أعماله تبقى سلسلة القواميس والمعاجم التي وضعها وابتدأت بـ المنار عام 1970م، ثم تبعها المغني و المغني الكبير ثم المغني الأكبر .

في عام 1983م، عينه مجمع اللغة العربية الأردني عضواً فخرياً فيه. وكان قد نال وساماً من ملكة بريطانيا في العام 1969م على خدماته في مجال العمل الإذاعي.

لا همَّ له غير اللغة
ومن شهادات الذين عرفوا حسن الكرمي عن كثب، قد يكون ما رواه عنه الكاتب المصري حسين أحمد أمين أبلغها وأكثرها إيجازاً. إذ يقول وهو الذي عمل معه في هيئة الإذاعة البريطانية: لم يكن رؤساؤنا من الإنجليز يحترمون أحداً منّا احترامهم لحسن الكرمي . ويضيف: كان نادراً ما يبتسم، ونادراً ما ينفعل، بارد العاطفة، أو هكذا خيل إلي… أما المؤكد فهو أنه كان دودة كتب، لا حديث له إلا في ما يقرأ أو يكتب، في تصريف فعل أو أصل كلمة… ولا غرام يشغل قلبه غير الغرام باللغة العربية… أما الاهتمام بالمسرح أو الموسيقى والسينما وفنون التصوير والنحت والباليه والأوبرا فقد كان معدوماً، على الأقل من خلال حديثه .