قول في مقال

نعمة الوضع الوسط

لا تزال التحولات التي طرأت على الفكر والثقافة خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين موضع تقويم ونقد سلباً أو إيجاباً.
الكاتبة رنا المسفر تتناول هنا ما تسميه الجيل الوسط من المفكرين الذي يعمل اليوم على متابعة المسيرة التي بدأها الجيل السابق، والاختلافات ما بين هذين الجيلين لجهة المسائل المتناولة واللغة والوقع.
أجرت الصحافية البريطانية جين ديفرسون مجموعة من المقابلات مع المراهقين في بريطانيا في يناير من عام 1963م، بتكليف من إحدى المجلات النسائية. وكشفت المقابلات عن مجموعة من السمات التي تجمع بين المراهقين وقتذاك، وبينما اعتبرت ديفرسون النتائج التي توصلت إليها ظاهرة اجتماعية تستحق مزيداً من الدراسة والتحليل، رفضت المجلة نشرها واعتبرتها غير مناسبة لسياستها التحريرية. عندها، عملت ديفرسون مع الصحافي تشارلز هامبلت على نشر بحثها في كتاب، سمته الجيل إكس . ومنذ ذلك الحين، شاع استخدام هذا المصطلح، وأصبح يطلق على الجيل الذي ولد بين العامين 1960 و1981م، وبلغ مراهقته أو شبابه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. وهو الجيل نفسه الذي عاش السنوات المبهمة التي انتقل فيها العالم من زمن الاستعمار والإمبريالية إلى العولمة. هو جيل ضائع بين جيلين، الجيل الأكبر الذي اختبر رخاء ما بعد الحرب العالمية، والجيل الأصغر الذي اختبر ترف ثورة الدوت كم. الجيل إكس، هو الجيل الذي حمّله هامبلت وديفرسون، في كتابهما مسؤولية قيادة العالم في العقود الأخيرة من القرن العشرين إلى القرن الذي يليه.

المقال الذي يعرّف بالجيل إكس في موسوعة الإنترنت الحرة (الويكيبيديا) يشير إلى أن محتوى المقال متعلق بالولايات المتحدة الأمريكية بشكل رئيس، وأن المعلومات الواردة فيه قد لا تكون ممثلة لوجهة نظر عالمية بهذا الشأن. وإن حاولت أن تبحث عن الجيل إكس العربي على صفحات الإنترنت العربية، فقد لا تجد شيئاً. ولكنك قد تجد من يتحدث عن الجيل إكس العربي دون أن يستخدم المصطلح الغربي الذي أتت به ديفرسون، وإنما يصفه بمرارة حائرة، هي عربية بجدارة. في مقال الدكتور أحمد خالد توفيق بعنوان لعنة الوضع الوسط يقول الكاتب في معرض حديثه عن الجيل الذي أتى في الزمن الوسط على حد تعبيره: ماذا عن الزمن الوسط؟.. لست في زمن جيفارا والقومية العربية ومؤتمر باندونج ومظاهرات الشباب واجتماعات المثقفين مع سارتر.. لقد ولى هذا الزمن، لكنك كذلك لا تبتلع فكرة العولمة التي هي الأمركة بمعنى آخر… فأين تقف بالضبط؟ .

الاتجاهات جديدة..
واللغة أيضاً
أين يقف هذا الجيل بالضبط؟ أو لنكن أكثر تحديداً. أين يقف مفكرو هذا الجيل بالضبط، الذين ربما لم يوصفوا قط قبل اليوم بأنهم مفكرون؟ أين يقف د. أحمد خالد توفيق، ود. أحمد عبدالله، وأشرف إحسان فقيه، ود. عبدالله البريدي وغيرهم كثيرون ممن ابتلوا على حد تعبير الكاتب بلعنة الوضع الوسط؟ هم في نهاية الأمر ليسوا أسماء لامعة مثل تلك التي عاشت في الذاكرة، لأن الموقف الفكري في ذلك الزمن (الزمن الحافل بالثورات وتحديد الاتجاهات وتوحيد الصف أمام الأعداء) كان ثورة هائلة لا تخمد أوارها. قد يمضي زمن طويل قبل أن تلمع أسماء هؤلاء وقد يمضون حياتهم دون أن يحظى الواحد منهم بشهرة تصب في مجرى نهر التمجيد الذي تمتع به الجيل الأول من المفكرين.

لن تجد من مفكري الجيل الوسط من يحدثك بلغة فخمة مصقولة عن تراث الأمة العربية أو عن الحداثة والمعاصرة أو عن التعارض بين الإبداع والمجتمع. بل ستجدهم يحدثونك عما تبثه الفضائيات العربية والأجنبية، عن الصداقة على الإنترنت، عن الأستاذ والمدرسة، عن رمضان وعمرو خالد، عن ماكدونالدز والوجبات الأمريكية السريعة، ومواضيع أخرى كثيرة قد يكون من بينها تلك المساحات التي يطرقها المفكرون الكبار.

ولكن لغة الخطاب الفكري لدى مفكري جيل الوسط تمسك مباشرةً، بلغة سهلة، ومفردات أسهل.. ليس من الضروري أن تكون قارئاً مثقفاً كي تفهمها، وليس من الضروري أن تكون صاحب قضية لتعتنقها أو لتهتم بقراءتها.

أفكار الجيل الوسط تحرِّك المياه الراكدة، ولكنها لا تغير من طبيعتها تغيراً ظاهراً لتصبح إعصاراً أو فيضاناً. هي أفكار هادئة وواقعية وعملية. قد يظن البعض، لبساطة الطريقة التي كُتبت بها، أنها أفكار أتت عفو الخاطر دون تحليل أو تفكير حقيقي. بينما قد يعتنقها البعض بسهولة ومن دون أن يفرق بينها وبين أفكاره، ومن دون أن يدرك حقيقة كونها أفكاراً مجردة وعميقة، على عكس تلك الأفكار التي كتبها ويكتبها المفكرون الأوائل من دون أن يؤطروها في أمثلة حية وقريبة من حاضر القارئ. ولذلك نجد أن الهالة التي تحيط بهؤلاء المفكرين من الجيل الوسط، مع من يقرأ لهم أو يستمع إليهم، هي هالة قرب وود، لا هالة هيبة ورهبة. ولولا بعض من إدراك، وكثير من حياء، لفكر البعض منا أنه قد يكون منهم، إن بذل قليلاً من الجهد، في كتابة أفكاره ونشرها!

قدرة على المواءمة والانفتاح
ومع ذلك، ففكر الجيل الوسط هو حائط الصد الذي سيحتمي به جيلنا، الجيل الذي ولد في الثمانينيات والتسعينيات وما بعده من أجيال، من الرياح القاسية الموجِّهة التي تود أن تقتلع ثقافتنا وهويتنا، كما تقتلع غيرها من الثقافات دون تمييز. ذلك أنه جيل تربى على تراث تركه الصف الأول من المفكرين، وهو تراث لا يمكنك تجاهل تأثيره في من نشأ عليه. تراث ينبض إسلاماً وعروبة وقومية واتجاهات أخرى كثيرة، تصبح جزءاً من تكوين من تربى عليها في صغره.

الجيل الوسط استطاع في الوقت نفسه أن يقدم منتجات فكرية جديدة، تختلف في طبيعتها وشكلها وتوجهها عن تلك التي تربى عليها، وتجمعها سمات قد يكون من بينها الانفتاح من دون تعصب على جميع الثقافات الأخرى ومن بينها الثقافة الأمريكية، ومقاومتها للجزع الذي تحفل به كتابات الجيل الأكبر أمام كل الظواهر التي تأتي بها العولمة وثورة المعلومات والاتصالات، وقدرتها على المواءمة المعتدلة بين القديم والجديد وجمعها في قالب معاصر مواضيع مختلفة من ذلك الزمن، ومن هذا الزمن.

جيل الوسط من المفكرين يعيش في هدوء، يحقق نجاحات مرضية في الطرق التي اختارها لحياته والقناة التي ارتضاها لواقعه، ويؤثر على شريحة واسعة من القرَّاء الذين وُلدوا في زمن ليست القراءة من أعظم إنجازاته.

وقد يمضي بعض هؤلاء المفكرين، وليس الكل، حياتهم بأكملها في هدوء، كعصر ضاع بين صباح ومغرب، ولكنهم بالتأكيد، خلقوا في فكر من يقرأ لهم جمالاً لن يزول أو يتلاشى بسهولة.. جيل الوسط، يستحق تحية إكبار، وعرفان بالجميل، وامتنان عميق وحقيقي لما يضيفه إلى حياتنا من غنى، في ظل دنيا عامرة نعيشها، فيها الكثير والكثير.. ولكننا نحتاج فيها مع ذلك إلى فكر عربي متنور ينير لنا الطريق، وإن طال وعسر.

أضف تعليق

التعليقات