قول آخر

بذل الحقوق بدل حفظها

كنت أتساءل وأنا طفل، ما الفائدة من العبارة: كل الحقوق محفوظة؟ ما فهمته آنذاك هو أنها تعني بأن كل الحقوق، من تأليف ونشر وتوزيع، محفوظة لصاحب المصنِّف، سواء العلمي أو الفني أو الأدبي. غير أن الواقع ينفي ذلك، فليست كل الحقوق محفوظة. إذ يمكنك أن تجد على أرصفة الشوارع نسخاً من كل شيء، تشارك الأصل في الاحتفاظ باسم المؤلف، وتختلف عنه في الجودة والسعر.

لو أردنا أن نحدد، بشيء من البساطة، أسباب ما يتعرض له الإبداع من قرصنة، لوجدناها تنحصر في سببين: الأول ارتفاع سعر بيع المصنف الأصلي، والثاني صعوبة نشره وتوزيعه في جميع الدول.

فارتفاع سعر البيع يدفع الراغبين في امتلاك المصنَّف إلى البحث عن نسخة غير أصلية (سواء نسخة كربونية أو نسخة مقلدة تبدو كأنها الأصل)، تباع في الغالب بسعر زهيد جداً. والأمر نفسه يحصل في حالة غياب ذاك المصنف في بلد ما (بسبب الرقابة، أو بسبب سوء التوزيع)، إذ يضطر طالب المصنف إلى الاكتفاء بنسخة عن الأصل.

نرى إذن أن عبارة كل الحقوق محفوظة لا محل لها من الإعراب! فحقَي النشر والتوزيع، وهما الضامنين للعائد المادي من وراء المصنف، قد قُرصِنا. ولم يبق هناك سوى الحق المعنوي، الذي لا يوفر للمبدع أي دخل مادي يكفل له حياة كريمة. إذن، ألم يحن الوقت لنتخلص من تلك العبارة ونستبدلها بمفهوم: بذل الحقوق؟ .

بذل الحقوق يعني تنازل المؤلف عن بعض (أو كل) حقوق ملكيته لمصنف إبداعي ما، مثل حقوق الطبع والتوزيع. حيث سيصير آنذاك بإمكان أي شخص، أو مؤسسة، طباعة وتوزيع ذاك المصنف. شرط أن يكون سعر البيع معقولاً جداً ويقارب سعر التكلفة.. في هذه الحالة سيصل المصنف إلى فئات عريضة من القرَّاء، بجودة وسعر مناسبين جداً.

فقط سيبقى السؤال: أين العائد المادي لصاحب المصنف؟

سيكون هناك ثلاث إمكانيات:
– 
تبرع القرَّاء والمؤسسات الناشرة للمؤلف: القرَّاء سيشترون الكتاب بسعر زهيد، فلو راقهم سيكون بمقدورهم إرسال تبرعات، ولو صغيرة جداً، للمؤلف. كذلك المؤسسات الناشرة، لو أن الكتاب حقق بعض النجاح فهي ستحقق شيئاً من الأرباح من استثمار لم تتجاوز تكلفته الصفر إلا بقليل. وهي لذلك ستكون مدينة للمؤلف ببعض التبرعات. طبعاً هذه مسألة أخلاقية بالأساس، ما زلنا نحن العرب بعيدين عنها، رغم أننا الأحق بها.
– 
تخصيص منح للتفرغ (من وزارة الثقافة أو الجامعات أو حتى المؤسسات الخاصة، حسب طبيعة المصنَّف). ولا بد من وجود شروط صارمة (ومرنة في ذات الوقت) حتى يتم تخصيص هذه المنح لمن يستحق فعلاً من أصحاب المواهب، وليس لذوي أنصاف المواهب.
– 
تخصيص جوائز دورية (أدبية، علمية، فنية) تحقق شيئاً من الحركية الإبداعية. هذه الجوائز ستشرف عليها وترعاها المؤسسات الخاصة، الجامعات، الصحف والمجلات.

بوجود هذه الاحتمالات الثلاثة، مع تفاوت أهميتها حسب كل حالة، فإن أي مبدع حقيقي سوف يحصل على حقه كاملاً غير منقوص، بعيداً عن سلطة دور النشر والمنتجين.

هذا عن حقوق الطبع والتوزيع، لكن يبقى هناك حق آخر يمكن للمؤلف التنازل عنه، وهو حق الملكية الفكرية. فعند قيام مبدع آخر بالتعديل والتحوير والإضافة على مصنف ما، فإنه سيعتبر لصاً ومقلداً، مهما تكن درجة الإبداع التي أضافها هذا الأخير على المصنف الأصلي.

بتنازل المؤلف عن هذا الحق، فإنه يسمح للآخرين بحق اشتقاق أعمال إبداعية أخرى من عمله هو، مع اشتراط الإشارة دوماً إلى المصدر الاشتقاقي في كل مرة. البعض قد يرى أن هذا سيخلق نوعاً من الفوضى، لكن الواقع سيكون غير ذلك، فهذا سيخلق لنا حركية إبداعية لا مثيل لها، خاصة مع استغلال الإنترنت باعتبارها وسيط نشر لا يكلف شيئاً تقريباً. والعائد المادي للمؤلف سيبقى دائماً مضموناً بقدر الإبداع الذي يحمله عمله.

أضف تعليق

التعليقات