ملف العدد

ناطحات السحاب

  • 87a
  • 88a
  • 89a
  • 89b
  • 91a
  • 91b
  • 92a
  • 92b
  • 93a
  • 93b
  • 94a
  • 94b
  • 94c
  • 95a
  • 95b
  • 96a
  • 98a
  • 101a
  • 101b
  • 101c
  • 102a
  • 102c

إنها سمة المدينة المعاصرة وملخص صورتها.
تثير في الأذهان صوراً وانطباعات عديدة قلّما اجتمعت بمثل هذا التنوع أمام أي إنجاز إنساني آخر.
فهي تارة صورة الحداثة في صيغتها المعمارية، وتارة تبدو وكأنها تتحدى القدرة على تجاوزها. وهناك من يرى أنها صورة الرأسمالية المنتصرة ومن يرى أنها صورة من صور النجاح في عالم الأعمال، وربما لا تحرك في آخر سوى الحنين إلى فن العمارة القديم..
وبقدر ما تتلون صورها والانطباعات عنها، تتعدد الأسئلة حول حتميتها وإنسانيتها وقيمتها الفنية.. حتى أن أكثر الأسئلة بدائية حولها وهو لماذا؟ لا يزال موضع نقاش. ويبدو أن العالم سلَّم بطبيعية ارتفاع ناطحات السحاب في المدينة المعاصرة. وصار التطلع الناقد إلى كل واحدة منها ينطلق من دفتر شروط خاص بها وبتصميمها وبيئتها.
في هذا الملف، يأخذنا فريق القافلة في جولة على عالم ناطحات السحاب تشمل محطاتها الهندسية وتاريخها وعلاقتها بالسينما والبيئة والنقد وكل التحديات التي واجهها الإنسان ولا يزال يواجهها وهو يتطلع إلى نطح السحاب.

هل صحيح أن كل هذا الاندفاع إلى فوق، وهذه الرغبة في نطح السحاب تقف عند حدود الحاجة العملية للاستفادة القصوى من مساحة أرض محدودة، في توفير أكبر قدر ممكن من المساحة المكتبية أو السكنية؟ أم أن هناك لدى الإنسان توقاً إلى الأعلى، ويفتعل المستحيل للنيل من هذا العلو؟!
في مقدمة فيلم أوديسة الفضاء محاولة للإجابة عن هذا التساؤل، تمثلت في حركة يقوم بها إنسان بدائي، يقذف بقطعة عظم إلى الأعلى بأقصى ما يستطيع من قوة، فإذا بها تعلو وتعلو وتعلو، وتتحول إلى مركبة فضاء تخيلها الفيلم ستتحقق في مستقبل بعيد.. عام 2002م!
كل الحضارات القديمة سعت إلى نطح السحاب. وتراوحت دوافعها ما بين تمجيد السلطة (أهرام مصر) أو الدفاع عنها (أبراج القلاع العسكرية) أو إضفاء أبهة شكلية على المدينة ككل من خلال بناء يستمد قيمته الأولى -والأخيرة- من شموخه، مثل برج بيزا في إيطاليا أو برج إيفل في باريس. إلا أن التحولات التي طرأت على كافة أوجه الحياة بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر (ومن ضمنها انخفاض تكلفة البناء عالياً وخاصة بالأرواح) سمحت بظهور ناطحات السحاب الحديثة التي باتت سمة المدينة المعاصرة بلا منازع. فلا مدينة تستطيع أن تدعي اليوم الانتماء إلى الحياة المعاصرة وأن تؤكد الحضور الفاعل فيها، من دون أن تكون فيها ولو ناطحة سحاب واحدة تتباهى بها. فواجهة المدينة صفٌ مرصوص من الأبنية الشامخة تتباهى الأحدث منها بالارتفاع عن سابقاتها، وبالتفوق عليها في فن العمارة، ناسبةً إلى أصحابها عزاً ونجاحاً، وكأنها بذلك تقول: أنا الشركة الفلانية.. فمن مثلي؟ .
وليست ناطحة السحاب حاضر المدينة الحديثة أو مستقبلها فقط، بل هي في الحقيقة أصبحت تاريخها وتراثها. وأي زائر لنيويورك مدينة المدن الحديثة، يشعر حين تطأ أقدامه مدخل إحدى ناطحات سحابها الأولى مثل الإمبايرستيت المشهورة، أنه إنما يدخل إلى أحد أهرامات العصر الحديث أو قلاعه أو معابده القديمة. هذه هي الحداثة وقد أصبحت تاريخاً وتراثاً معمارياً فيه ذاك العبق وعلى جدرانه، مثلما على جدران آثار العصور الأخرى، بصمات الزمن وتراكمات السنين.

تدرج مصطلح ناطحات السحاب في اللغة الدارجة عند الأمريكيين من وصف يستخدم لتسمية طير يطير على ارتفاع عالٍ عام 1840م، إلى القبعة الطويلة عام 1847م، إلى الكرة الطائرة عالياً في لعبة البيسبول عام 1866م. ولم يخطر ببال أولئك الذين استخدموا هذا الوصف لطير أو قبعة أو كرة، أن كاتباً مجهولاً في مجلة أخبار البناء والعمارة الأمريكية لسنة 1883م سيختطف الكلمة ويقول: يجب دائماً أن تحتفظ المباني العامة بشيء ما يميز أعلاها عن تلك المباني التي تجاورها… ناطحة السحاب هذه ستعطي انطباعاً بالاستقلالية والرضا الذاتي والتحدي والجرأة والقدرة على الوصول إلى السماء. مبنى الكونغرس يجب أن تكون له قبة، ولو أتيحت لي الفرصة، لبنيت ناطحة سحاب هائلة، ولكني أثق في مهارة البنَّاءين والمهندسين الأمريكيين ليبنوا ناطحة سحاب قوية تقاوم أية عاصفة هوجاء . ومنذ ذلك الحين، أصبح تعبير ناطحة السحاب وريثاً أو رديفاً للاسم القديم البرج .

ولم يمض عامان على حديث الكاتب، حتى بنيت في شيكاغو أول ناطحة سحاب في العصر الحديث، على يد المهندس وليام لي بارون جيني، وكانت بناءً تجارياً لإحدى شركات التأمين، ولم يتجاوز عدد طوابقها العشرة، ورغم أن بناءً بعشرة طوابق قد يغرق بسهولة في زحام أية مدينة حديثة من مدن القرن الحادي والعشرين، إلا أنه كان وقتذاك اختراقاً لأساليب البناء القديمة التي راوحت عند بناء مبنى لا يتعدى ستة طوابق.

تزايُد نمو التجارة المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية في نهايات القرن التاسع عشر، خاصة في مدينتي شيكاغو ومانهاتن، دفع بعجلة التفكير إلى البحث عن أساليب جديدة في البناء تعتمد على استغلال مساحة الأرض الضيقة لبناء يعلو عمودياً في السماء، من دون أن يمتد أفقياً على الأرض. ولكن العقبات التي واجهت المهندسين أمام طموحهم كانت كثيرة، ومن أهمها عدم وجود المواد الخام التي تقاوم الجاذبية الأرضية.

في موقع كيف تعمل الأشياء على الإنترنت، يشرح الكاتب هذه العقبة، فيطلب منك تخيل أنك تريد حمل صديق لك على كتفيك، فإذا كان هذا الصديق خفيف الوزن، فستبدو هذه العملية ممكنة. ولكن ماذا لو أن شخصاً آخر طلب أن يصعد ليحمله صديقك على كتفيه؟ ثقل الوزن الملقى على كتفيك سيكون أكبر، وربما لن تستطيع حمله لوحدك. ماذا لو أردت إقامة برج مرتفع من الناس؟ بالتأكيد ستحتاج إلى عدد أكبر من الأشخاص كقاعدة لدعم الأشخاص الموجودين في الطبقات العليا من البرج.

هذه هي طريقة بناء ناطحات السحاب، حيث يتوجب توافر أساسات أكثر في الأسفل؛ وذلك لدعم المواد المركبة في المنطقة العلوية، وفي كل مرة نريد فيها إضافة دور إضافي، يزيد الضغط على مجمل القوة الواقعة في الأسفل، وإذا ما استمرينا في زيادة قاعدة ناطحة السحاب ستنتفي الحاجة إلى بنائها من الأساس كون القاعدة السفلية تتطلب مساحة واسعة من الأرض أتى بناء ناطحة السحاب ليلغي الحاجة إليها. أما إذا أردنا أن نزيد سماكة الجدران السفلية لبناء طوابق علوية جديدة، فلن يكون ذلك عملياً لأن سماكة هذه الجدران ستحتل المساحات الموجودة في الطوابق السفلية.

إذن، ما الذي مكَّن مهندسي القرن التاسع عشر من بناء ناطحات سحاب تجاوزت العشرة طوابق إلى عشرين طابقاً؟ التقدم الأساس كان في تطور إنتاج الحديد والفولاذ البسميري (نسبةً إلى المهندس هنري بسمير)، وذلك من خلال إنتاج القضبان الحديدية الصلبة التي منحت المهندسين مجموعة كاملة من البلوكات الإنشائية والقضبان الجديدة ذات الوزن الخفيف التي تستطيع أن تدعم وزناً أكبر بكثير من ذلك الذي تدعمه الجدران القرميدية الصلبة التي كانت مستخدمة في عمليات إنشاء المباني القديمة، كما أن هذه القضبان كانت قادرة على تقليص الحاجة إلى مساحة أكبر خلال إضافة أدوار جديدة إلى بناء ناطحات السحاب.

ومن خلال الجديد في صناعة الفولاذ، أدخل المهندسون تقنية الهياكل الفولاذية لتدعيم ناطحات السحاب بالكامل، فالقضبان المعدنية تعمل على تثبيت المبنى من كلا الجانبين، ثم يتم وصل القضبان العمودية بقضبان أفقية في كل طابق من المبنى، وفي العديد من المباني تتواجد القضبان القطرية داخل عوارض المبنى للحصول على قدرة تدعيم إنشائية أكبر، وعن طريق هذه الشبكة ثلاثية الأبعاد (القضبان العمودية والأفقية بالإضافة إلى تلك القطرية) يتم نقل ثقل المبنى إلى القضبان العمودية، ومن ثم تقوم هذه الأعمدة بنقل الثقل إلى قاعدة البناء التي تقوم بدورها بنشر هذه القوة الضاغطة على التركيبات أو الأساسات الثانوية تحت المبنى والمصممة من الأسمنت.

وتعد الجدران الخارجية الستائرية إحدى أهم الميزات التي يمنحنا إياها الهيكل الفولاذي، وهي تلك التقنية أو الفكرة التي سمحت للمهندسين ببناء ما يريدون باستخدام هذه الجدران الرقيقة مقارنةً بتلك الجدران السميكة الموجودة في المباني التقليدية قديماً.

ولكن حل المشكلات الهندسية المتعلقة بقدرة ناطحة السحاب على أن تحمل نفسها أدى إلى ظهور سلسلة طويلة من التحديات الجانبية التي لم تكن مطروحة في المباني التقليدية، ولعل أبرزها الوصول إلى الأدوار العليا.
بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، شاع استخدام المصاعد المعتمدة على البخار لنقل المواد في المصانع والمناجم وورش العمل، ولكن هذه المصاعد البخارية لم تكن آمنة لنقل البشر، فإذا انقطع الحبل الذي يحمل أحدها، سقط إلى قاع الأرض مع ما أو من يحمله. في عام 1853م، قدَّم المبتكر الأمريكي إليشا أوتيس نسخة جديدة من المصعد المدني الآمن للبشر، المزوَّد بمكابح تمنع سقوط عربة الركاب في حالة حدوث أي طارئ للحبال التي تنقلها. بعد ذلك بعقود قليلة، سهَّل وجود المصعد المدني عملية بناء المباني الطويلة، أو ناطحات السحاب في وقت لاحق.

ومنذ البدايات الأولى لناطحات السحاب انشغل المهندسون بإجراء الدراسات حول تأمين مصاعد آمنة وسريعة وعملية في الوقت نفسه لقاطني هذه البنايات، فلا يمكن استخدام الدرج أو السلالم نزولاً وصعوداً مع بنايات تعلو لأكثر من أربعين أو خمسين طابقاً، ولا يمكن للعدد الهائل من سكان ناطحة السحاب أو العاملين فيها استخدام مصعد واحد والانتظار في طوابير حتى تتاح لهم فرصة استخدامه. فعمل المهندسون على تطوير تقنيات بناء المصاعد في ناطحات السحاب مع ما يتناسب مع الوقت الذي ينتظره عادةً أغلب الناس لاستخدام المصعد وهو حوالي 28 ثانية. ولحل هذه المشكلة تضم أغلب ناطحات السحاب مجموعتين من المصاعد قد يصل عددها حتى 99 مصعداً. ويتسع المصعد في المجموعة الواحدة لأكثر من خمسة وخمسين شخصاً. أول المجموعتين هي تلك التي تعمل على نقل قاطني الأدوار الأولى، والثانية لنقل المتجهين إلى الأدوار العليا. ولكن المشكلة أن مستخدمي المصاعد يضطرون أحياناً إلى الانتظار فترات طويلة حتى يمكنهم تغيير المصاعد بين المجموعتين، الأمر الذي دفع المهندسين لتخصيص بعض المصاعد للوصول مباشرة من الطابق الأول إلى الطابق الأخير، أو لتخصيص رواق إضافي للانتظار باسم رواق السماء في الدور الذي يتم فيه تغيير المصاعد.

الطبيعة أولاً
أعتى أعداء ناطحات السحاب هي العوامل الطبيعية، من رياح وزلازل. ولذلك يجب على ناطحات السحاب أن تتعامل مع القوة الأفقية للرياح إضافةً لمقاومتها ضغط الجاذبية الأرضية إلى الأسفل. ومعظم هذه المباني صممت للتحرك بضعة أقدام كشجرة تهتز أمام الرياح من دون أن تعرض سلامة المبنى أو ساكنيه للخطر، ولكن المشكلة تكمن في شعور قاطني المبنى بهذه الحركة، وانزعاجهم بسببها خاصة في الأدوار العليا. ورغم ذلك يذكر التاريخ حوادث كان للرياح فيها اليد العليا، مثل حادثة برج جون هانكوك في بوسطن، فالبرج المغطى بالزجاج العاكس بأكمله لم يصمد أمام رياح شتوية هبت في يناير عام 1973م بينما كان البرج تحت الإنشاء، فسقطت ألواح ضخمة من الزجاج على الشارع يزن كل لوح منها 55 باونداً، وبحلول أبريل من نفس السنة، كان قد تجاوز عدد الألواح التي لم تصمد أمام الرياح 65 لوحاً زجاجياً استبدلت برقائق من الخشب.

وبتطور هندسة ناطحات السحاب والتقنيات اللازمة لها، تعددت وسائل مواجهة الرياح والزلازل. ومن أكثرها شيوعاً الأنظمة الهيدروليكية داخل المبنى التي تحرك كتلة من الأسمنت يصل وزنها إلى 400 طن لحفظ توازن البناء خلال العواصف الهوائية. كما أن تصميم شكل ناطحة السحاب الذي بات أكثر مرونة مع الفولاذ والزجاج صار يسمح بإعطائها أشكالاً انسيابية تسمح للرياح المصطدمة بها أن تنزلق عليها مخففة بذلك من ضغطها على واجهة البناء. فلكل ناطحة سحاب وسائلها الخاصة في مواجهة العواصف والزلازل استناداً إلى مكان إنشائها ومعطياته الجغرافية.

وعداء البشر
ومع عداء الطبيعة الذي تتواصل جهود المهندسين للتغلب عليه، يأتي نوع آخر من العداء هو عداء البشر لناطحات السحاب، وهو عداء لوجودها المادي والمعنوي في وقت واحدٍ، وإن اختلفت الدوافع. فلندن التي سارت جنباً إلى جنب مع نيويورك وشيكاغو في إنشاء ناطحات السحاب في أواخر القرن التاسع عشر، توقفت مسيرتها بسرعة نتيجة لاعتراض الملكة فكتوريا على أبنية شاهقة العلو تحجب أشعة الشمس وتشوه سماء لندن، كبناء فندق جراند ميدلاند، والذي لم يتجاوز طوله الاثنين والثمانين متراً، واستمرت القوانين التي تحد من بناء ناطحات السحاب في إنجلترا حتى خمسينيات القرن الماضي. أما العاصمة الفرنسية باريس المعتزة بتخطيطها المحدد بشكل شبه نهائي منذ القرن التاسع عشر، وبأبنيتها الحجرية التي يبلغ متوسط ارتفاعها ست طبقات، فلا تحوي حتى اليوم سوى ناطحة سحاب واحدة هي برج مونبارناس.

ولكن العاصمة الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة إلى التعامل مع موجبات ناطحات السحاب، وجدت الحل في تخصيص إحدى ضواحيها الغربية المعروفة باسم لاديغاس (أي الدفاع) حيث أطلقت يد المهندسين ليبنوا ما شاءوا وبالارتفاعات التي يريدونها. وخلال ثلث قرن فقط تحولت تلك المنطقة إلى غابة من ناطحات السحاب، ومن أشهرها برج مانهاتن الذي بني في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان أول ناطحة سحاب في فرنسا مغطاة بالزجاج بأكملها.

ويختلف الأمر تماماً في أمريكا. ففي شيكاغو، وجد المهندسون أنفسهم في القرن الماضي محاصرين بقوانين تحدد عدد الطوابق المسموح ببنائها بأربعين طابقاً فقط. ووحدها نيويورك أفلتت من مثل هذه القوانين، وإن حاول ويحاول أنصار البيئة فرضها من حينٍ لآخر. وحول كل ناطحة سحاب تبنى في إحدى المدن الأمريكية، تجد المعارضين الذين يحاولون الحفاظ على سماء مدينتهم الصافية، أشعة الشمس التي تصل إلى شارعهم أو إلى الشارع المجاور له، وحتى الهوية التاريخية للمكان. ويتجاوب مصممو ناطحات السحاب مع بعض هذه الاعتراضات، فتكتسي معظم ناطحات السحاب بنوافذ زجاجية تعكس أشعة الشمس ولا تحجبها، وينصاع محافظو المدن لبعضها فيمنعون بناء ناطحات السحاب التي تهدد الهوية التاريخية للأحياء القديمة. ولكن رغم هذا وذاك، لم تستحوذ ناطحات السحاب على الرضا من أنصار البيئة. لأن اعتراضهم هو قائم على البناء ذاته، لا الظروف المحيطة به، إلى أن بنيت ناطحة السحاب كومرزبانك في فرانكفورت، وهي أول ناطحة سحاب خضراء في عام 1997م، واعتبر هذا انتصاراً ساحقاً لأنصار البيئة توالت بعدها انتصاراتهم. ففي نيويورك مثلاً تصر سلطات تخطيط المدينة على أن تتبع ناطحات السحاب الجديدة المعايير القاسية التي يفرضها مجلس البناء الأخضر، وتؤكد الدراسات أن العاملين في ناطحات السحاب الخضراء (الذين يتعرضون لأشعة الشمس والهواء الطبيعي النقي أثناء عملهم) أقل تعرضاً للإصابة بالأمراض التي كان العاملون في الأبراج المغلقة المعتمدة على هواء التكييف معرضين للإصابة بها، خاصة تلك التي بنيت في فترة السبعينيات من القرن الماضي. تكاليف البناء الأخضر لناطحات السحاب أعلى بكثير من تلك التي يتكلفها البناء التقليدي، ولكن الشركات تقبل على هذا الخيار نتيجة لعاملين تضعهما في الاعتبار: العامل الأول الصورة الدعائية للشركة بين العامة لدى معرفتهم باختيارها لـ الأخضر وحفاظها على البيئة، والعامل الثاني كون البناء الأخضر يوفر %35 من استهلاك الطاقة، وبالتالي فهو استثمار للشركة على المدى البعيد.

صورتها بين الوجدان الأدبي وخلافه
أما عن العداء المعنوي لناطحات السحاب، فقد بدأ منذ إنشائها، فالبعض لم يستطع أن يتقبل التغيرات التي تضفيها ناطحات السحاب على المدينة، والبعض الآخر خشي على المدينة التي عرفها طفلاً وشاباً من أن تتحول مخلوقاً جديداً لا يعرفه وليس له علاقة به. ولذلك، تسابق هؤلاء ليضعوا ناطحات السحاب ضمن إطار يضمن لهم إحساساً بالاتصال بتاريخهم، ويضفي على البناء القاسي الطويل حساً إنسانياً، ذلك أن الجهد الإنساني الذي تطاول ليصل للسحاب، كان مجموعة من الجهود الفردية التي بذلها العمال. يصف الكاتب الأمريكي دوينج في كتابه الأبراج بناء ناطحات السحاب بصعود الصناعة إلى الأعلى على حساب الإنسانية، ويصر على أن كل مواطن يمتلك جزءاً من هذه الأبراج العالية، وذلك لأن الشركات تبني ناطحاتها معتمدة على قروض من البنوك التي يمولها المواطنون! ورغم أن رأيه هذا، بمعايير عصرنا اليوم، ليس مقنعاً، إلا أنه يمثل جهداً حقيقياً بذله الكتاب وقتذاك لاسترجاع القوة المفقودة من المواطن العادي أمام الغابة المتسعة من ناطحات السحاب. أما المؤرخ ماكس بيج فيصف ما تقدمه ناطحات السحاب إلى المدن الأمريكية بأنه تخريب إبداعي . وربما لم يعد غالبية الكتَّاب ينظرون إلى ناطحات السحاب بالحدة ذاتها، ولكن تبقى ناطحة السحاب في وجدان الكثيرين من الأدباء والكتَّاب، بطرازها العمراني، وبما تمثله من نجاح مادي، بناء من دون قلب، فيه كل ما في المادة من الجمال، وليس فيه كل ما لا تستطيع المادة شراءه من أصالة، وكما يقول الكاتب المصري كامل زهيري: ناطحات السحاب جميلة؛ لأنها نظيفة قاطعة كحد الموس. تلمع لأنها من الفولاذ الأبيض. زجاجها كالمرآة.. حجارتها تلمع كالزجاج. ولكن ليس لها جذور في الأرض. إنها مجرد كميات هائلة من الحجارة والصفيح والحديد والزجاج، كومت بعضها على بعض .

من جهة أخرى، ومنذ بداية إنشائها، تلعب ناطحات السحاب دوراً رئيساً في الدعاية للاقتصاد، وتعتبر مؤشراً لا يقبل الجدل على النجاح في حقول الأعمال، ففي بداية القرن العشرين، اكتشفت الشركات الكبرى أن تأثير ناطحات السحاب في الدعاية لأعمالها يتجاوز بمراحل أي تأثير ممكن أن تحققه الدعاية عن طريق المنشورات أو الجرائد والمجلات، ونتيجة لهذا النجاح التي حققته ناطحة السحاب كرمز وكسياسة تسويق في عالم الأعمال، سرت عدوى الشغف بها إلى الدوائر الحكومية، مثل مبنى ولاية نبراسكا الذي أنشئ في عام 1932م، ومبنى أمانة الأمم المتحدة الذي بني عام 1950م. ورغم أن الصورة المثالية لناطحات السحاب كبناء لا يقهر اهتزت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنها سرعان ما استردت عافيتها. وعادةً ما تلجأ الشركات التي ليس لديها منتج ملموس يبتاعه المستهلك، كالبنوك وشركات العقار، إلى ناطحات السحاب للدعاية وللإيحاء بنفوذها وكفاءتها.

فبموازاة الوجدان الأدبي الناقد لناطحات السحاب، هناك وجدان شعبي يتطلع إليها بإعجاب، ربما لما تمثله من ثراء ومن تحدي قدرات الفرد المشاهد على صنع شيء مشابه. وبين هذا وذاك، هناك عوامل وضغوطات لا تأبه للأمزجة فنية كانت أم لا.. فتمضي بالمهندسين والبنَّاءين إلى بناء المزيد من ناطحات السحاب.. ومن ثم المزيد.

رجل من فولاذ
السير هنري بسمير
ولد في عام 1813م في إنجلترا، وابتكر تقنية إنتاج الفولاذ بكميات كبيرة وبتكاليف رخيصة نسبياً، وهي التقنية التي مكَّنت المهندسين من بناء ناطحات السحاب. دفع الفقر الأمريكي ويليام كيلي لبيع براءة اختراعه لطريقة إنتاج الفولاذ بتقنية مشابهة لتلك التي كان بسمير يعمل عليها، فانتهز بسمير الفرصة وابتاعها، وبعد دمج الطريقتين، استطاع بسمير عام 1855م إنتاج الفولاذ وحاز براءة اختراع، بالإضافة إلى أنه قد مُنح لقب الفارس تقديراً لمساهمته في التقدم العلمي. وحتى اليوم يصنع الفولاذ تكنولوجياً باعتماد الوسيلة التي قدمها بسمير.

ويليام لي بارن جيني
ولد جيني في عام 1832م، واشتهر بكونه مخططاً للمدن، ومصمماً مبتكراً للعديد من المشروعات الهندسية، ولكن شهرته التي طبقت الآفاق تكمن في بنائه للأبنية التجارية الطويلة، التي عرفت وقتها بناطحات السحاب، رغم أنها لم تتجاوز العشرين طابقاً. وكانت بناية هوم انشورانس أولى ناطحات السحاب التي استخدم فيها الهيكل المعدني للدعم، وأصبحت معياراً يقاس عليه في بناء ناطحات السحاب الأمريكية. وتتلمذ على يديه أعظم مهندسي ناطحات السحاب مثل سوليفان ووليام هول بير، وبهذا اعتبر أباً لناطحات السحاب. وتوفي هذا الرائد في العام 1900م، بعد أن أرسى قواعد بناء ناطحات السحاب في علم الهندسة.

أشهر ناطحات العصر الحديث
إمبايرستيت نيويورك
منذ بنائها في عام 1931م، وحتى أربعين سنة بعدها، ظلت ناطحة السحاب الإمبايرستيت أطول ناطحات السحاب في العالم، ليتجاوزها مركز التجارة العالمي في السباق، ثم بفترة قصيرة برج سيرز في شيكاغو. وقد ضمت الجمعية الأمريكية للهندسة المدنية هذا المبنى ضمن عجائب الدنيا الحديثة السبع.

صممت هذا المبنى شركة شريف ولامب وهارمون ، وعمل في بنائه 3400 عامل، توفي منهم 14 أثناء العمل. وصادف الانتهاء من بنائه دخول أمريكا في عصر الكساد الاقتصادي في ثلاثينيات القرن الماضي، وأطلق عليه العامة وقتذاك اسم البناء الخالي أو (Empty State Building) في إشارة إلى مكاتبه الخالية التي لم تؤجر حتى أربعينيات القرن الماضي نتيجة للأحوال المالية المتردية في نيويورك. وبتدمير برج التجارة العالمي في عام 2001م، عادت الإمبايرستيت لتصبح أعلى ناطحة سحاب في نيويورك.

بتروناس كوالالمبور
يتألف برجي بتروناس في العاصمة الماليزية كوالالمبور من 88 طابقاً، وكان إلى وقت قريب (2003م) أطول أبراج العالم. وصمم بتروناس المهندس الأرجنتيني سيزر بيلي، وانتهى البناء فيه في عام 1998م، واعتمدت الزخرفة الإسلامية في التصميم الخارجي للبرجين لتعكس الروح الإسلامية التي تنتمي إليها ماليزيا. كلفت شركتان ببناء البرجين كلٌ منهما على حدة على غير العادة، بل وأقامت الجهة المسؤولة عن بناء الأبراج، وهي الشركة التي سمي البرجان باسمها، مسابقة بين الشركتين، أيهما ينهي برجه أولاً، وفي النهاية فازت الشركة التي كلفت ببناء البرج الثاني بالرغم من أنها قد بدأت بعد تلك التي بنت البرج الأول بشهر. وبعد انتهائه، واجه البرج الفائز مشكلات عديدة حينما تبين بعد انتهاء بنائه انحرافه بخمسة وعشرين مليمتراً عن الزاوية العمودية.

مونبارناس باريس
بنيت ناطحة سحاب مونبارناس في العام 1972م، وهي حتى الآن، بثمانية وخمسين طابقاً، أطول بناية مأهولة في باريس، وتحتل غالبية طوابقها المكاتب التجارية، عدا طابقين خصصا للزوار ليطلوا على باريس.

منذ بنائها، ومونبارناس تواجه نقداً لاذعاً بسبب تصميمها البسيط الخالي من الجمال، واعتبره النقاد تشويهاً لسماء باريس بدلاً من أن يكون إضافةً لها. ونتيجة لذلك النقد صدر قانون بمنع بناء ناطحات السحاب في باريس بعد سنتين من اكتمال مونبارناس.. ويقول سكان باريس مازحين إن الميزة الوحيدة التي تتوافر للعاملين في مكاتب مونبارناس، هي أن هذه البناية هي المكان الوحيد في باريس الذي لا تستطيع أن ترى من نوافذه.. مونبارناس!

تايبيه
في 17 أكتوبر من العام 2003م، حاز تايبيه 101 لقب أطول بناية في العالم. بُني تايبيه في العاصمة التايوانية التي سمي باسمها، ويتضمن 101 طابق بالإضافة إلى خمسة طوابق تحت الأرض. يعتبر تايبيه من نواحٍ عدة أكثر ناطحات السحاب تكنولوجيةً حتى اليوم، فالمبنى يوفر اتصالاً بالإنترنت تبلغ سرعته واحد جيجابايت في الثانية. أما مصاعده فتستطيع أن تنقل الزوار من الطابق الأول حتى الطابق التاسع والثمانين في أقل من تسع وثلاثين ثانية. التصميم الخارجي للمبنى مفعم برمزية النجاح المادي. والطبقات التي تتوالى بعضاً فوق بعض وتعطي الانطباع لدى الكثيرين بأنها سلات من الخيزران، هي في الحقيقة تمثيل لقوالب من الذهب كانت العائلة المالكة في الصين القديمة تستخدمها كعملة. المبنى يحتوي على تمثيل لثمانية من هذه القوالب، كل قالب منها يضم ثمانية طوابق، وكلمة ثمانية في اللغة الصينية شبيهة في نطقها بعبارة اكسب ثروة ، أما الدوائر الأربع الموجودة على جوانب المبنى قريباً من قاعدته، فتمثل قروشاً دائرية.

أرقام ومراتب
تتفوق هونج كونج على جميع مدن العالم باحتوائها على أكثر ناطحات السحاب، فعددها 7417 بناية، تليها نيويورك بأكثر من أربعة آلاف وأربعمائة ناطحة سحاب تقريباً، ثم سنغافورة بأكثر من 2500، ثم ساوباولو في البرازيل بألفين وخمسمائة ناطحة سحاب، بينما حازت سيول المرتبة الخامسة بأكثر من ألفي ناطحة سحاب.

سينما ناطحات السحاب
ناطحات السحاب من الملامح المميزة في صناعة الأفلام، فهي تقول الكثير، من دون أن تتكلم على الإطلاق. في الأفلام القديمة والمسلسلات التلفزيونية الأمريكية، عادةً ما يبدأ الفيلم بتصوير إحدى ناطحات السحاب من الخارج، بينما يصل للمشاهد محادثة تجري في أحد مكاتب البناية بين أشخاص غالباً ما يكون أحدهم رجل أعمال مشهور، أو رئيس عصابة كبرى.

عزلة ناطحات السحاب، ونظامها الأمني المشدد أيضاً يجعلها مكاناً مثالياً لأحداث دراماتيكية كاختطاف الرهائن أو اندلاع الحرائق، وهي من المواضيع المفضلة لأفلام المغامرات والإثارة الأمريكية.. أما في أفلام الكوارث الطبيعية أو الكونية، فناطحات السحاب هي أولى المباني التي يدمرها الفيضان، أو يحتلها الغزاة القادمون من الفضاء.

ومن أهم ناطحات السحاب التي كان لها حضور مؤثر في الأفلام هي الإمبايرستيت في نيويورك، فهو المبنى الذي تتسلقه الغوريلا العملاقة في فيلم كينغ كونج ، وهو المبنى الذي تدمره سفينة فضائية غازية في فيلم يوم الاستقلال ، أما سطحه الذي يقصده الزوار، فقد كان له دلالة رومانتيكية في فيلم الأرق في سياتل .

غير أن أشهر الأفلام السينمائية قاطبة التي كانت ناطحة السحاب موضوعها الأساس هو فيلم البرج الجهنمي الذي قام ببطولته ستيف ماكوين وبول نيومان.
يروي هذا الفيلم الذي أنتج في منتصف السبعينيات قصة حريق يندلع في برج من أكثر من أربعين طابقاً، نتيجة عملية غش في التمديدات الكهربائية. فتندلع شرارة صغيرة خلال الاحتفال بتدشينه لتتحول بسرعة إلى حريق عملاق وقاتل بسبب طبيعة الهندسة الداخلية للبناء نفسه حيث المقاييس الضخمة تشكل آلة موت ضخمة أيضاً. وحتى إطفاء الحريق يعتمد على ضخامة خزانات المياه الموجودة على سطحه، فيتم تفجيرها لإغراق البناء من الداخل.. الأمر الذي يؤدي إلى سقوط المزيد من الضحايا. وقد كان هذا الفيلم وقت ظهوره بمثابة جرس إنذار نشر المزيد من التوعية حول خطورة أبسط المعطيات الفنية في هذه المباني العملاقة.

أعداء ناطحات السحاب

تدرج مصطلح ناطحات السحاب في اللغة الدارجة عند الأمريكيين من وصف يستخدم لتسمية طير يطير على ارتفاع عالٍ عام 1840م، إلى القبعة الطويلة عام 1847م، إلى الكرة الطائرة عالياً في لعبة البيسبول عام 1866م. ولم يخطر ببال أولئك الذين استخدموا هذا الوصف لطير أو قبعة أو كرة، أن كاتباً مجهولاً في مجلة أخبار البناء والعمارة الأمريكية لسنة 1883م سيختطف الكلمة ويقول: يجب دائماً أن تحتفظ المباني العامة بشيء ما يميز أعلاها عن تلك المباني التي تجاورها… ناطحة السحاب هذه ستعطي انطباعاً بالاستقلالية والرضا الذاتي والتحدي والجرأة والقدرة على الوصول إلى السماء. مبنى الكونغرس يجب أن تكون له قبة، ولو أتيحت لي الفرصة، لبنيت ناطحة سحاب هائلة، ولكني أثق في مهارة البنَّاءين والمهندسين الأمريكيين ليبنوا ناطحة سحاب قوية تقاوم أية عاصفة هوجاء . ومنذ ذلك الحين، أصبح تعبير ناطحة السحاب وريثاً أو رديفاً للاسم القديم البرج .

ولم يمض عامان على حديث الكاتب، حتى بنيت في شيكاغو أول ناطحة سحاب في العصر الحديث، على يد المهندس وليام لي بارون جيني، وكانت بناءً تجارياً لإحدى شركات التأمين، ولم يتجاوز عدد طوابقها العشرة، ورغم أن بناءً بعشرة طوابق قد يغرق بسهولة في زحام أية مدينة حديثة من مدن القرن الحادي والعشرين، إلا أنه كان وقتذاك اختراقاً لأساليب البناء القديمة التي راوحت عند بناء مبنى لا يتعدى ستة طوابق.

تزايُد نمو التجارة المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية في نهايات القرن التاسع عشر، خاصة في مدينتي شيكاغو ومانهاتن، دفع بعجلة التفكير إلى البحث عن أساليب جديدة في البناء تعتمد على استغلال مساحة الأرض الضيقة لبناء يعلو عمودياً في السماء، من دون أن يمتد أفقياً على الأرض. ولكن العقبات التي واجهت المهندسين أمام طموحهم كانت كثيرة، ومن أهمها عدم وجود المواد الخام التي تقاوم الجاذبية الأرضية.

في موقع كيف تعمل الأشياء على الإنترنت، يشرح الكاتب هذه العقبة، فيطلب منك تخيل أنك تريد حمل صديق لك على كتفيك، فإذا كان هذا الصديق خفيف الوزن، فستبدو هذه العملية ممكنة. ولكن ماذا لو أن شخصاً آخر طلب أن يصعد ليحمله صديقك على كتفيه؟ ثقل الوزن الملقى على كتفيك سيكون أكبر، وربما لن تستطيع حمله لوحدك. ماذا لو أردت إقامة برج مرتفع من الناس؟ بالتأكيد ستحتاج إلى عدد أكبر من الأشخاص كقاعدة لدعم الأشخاص الموجودين في الطبقات العليا من البرج.

هذه هي طريقة بناء ناطحات السحاب، حيث يتوجب توافر أساسات أكثر في الأسفل؛ وذلك لدعم المواد المركبة في المنطقة العلوية، وفي كل مرة نريد فيها إضافة دور إضافي، يزيد الضغط على مجمل القوة الواقعة في الأسفل، وإذا ما استمرينا في زيادة قاعدة ناطحة السحاب ستنتفي الحاجة إلى بنائها من الأساس كون القاعدة السفلية تتطلب مساحة واسعة من الأرض أتى بناء ناطحة السحاب ليلغي الحاجة إليها. أما إذا أردنا أن نزيد سماكة الجدران السفلية لبناء طوابق علوية جديدة، فلن يكون ذلك عملياً لأن سماكة هذه الجدران ستحتل المساحات الموجودة في الطوابق السفلية.

إذن، ما الذي مكَّن مهندسي القرن التاسع عشر من بناء ناطحات سحاب تجاوزت العشرة طوابق إلى عشرين طابقاً؟ التقدم الأساس كان في تطور إنتاج الحديد والفولاذ البسميري (نسبةً إلى المهندس هنري بسمير)، وذلك من خلال إنتاج القضبان الحديدية الصلبة التي منحت المهندسين مجموعة كاملة من البلوكات الإنشائية والقضبان الجديدة ذات الوزن الخفيف التي تستطيع أن تدعم وزناً أكبر بكثير من ذلك الذي تدعمه الجدران القرميدية الصلبة التي كانت مستخدمة في عمليات إنشاء المباني القديمة، كما أن هذه القضبان كانت قادرة على تقليص الحاجة إلى مساحة أكبر خلال إضافة أدوار جديدة إلى بناء ناطحات السحاب.

ومن خلال الجديد في صناعة الفولاذ، أدخل المهندسون تقنية الهياكل الفولاذية لتدعيم ناطحات السحاب بالكامل، فالقضبان المعدنية تعمل على تثبيت المبنى من كلا الجانبين، ثم يتم وصل القضبان العمودية بقضبان أفقية في كل طابق من المبنى، وفي العديد من المباني تتواجد القضبان القطرية داخل عوارض المبنى للحصول على قدرة تدعيم إنشائية أكبر، وعن طريق هذه الشبكة ثلاثية الأبعاد (القضبان العمودية والأفقية بالإضافة إلى تلك القطرية) يتم نقل ثقل المبنى إلى القضبان العمودية، ومن ثم تقوم هذه الأعمدة بنقل الثقل إلى قاعدة البناء التي تقوم بدورها بنشر هذه القوة الضاغطة على التركيبات أو الأساسات الثانوية تحت المبنى والمصممة من الأسمنت.

وتعد الجدران الخارجية الستائرية إحدى أهم الميزات التي يمنحنا إياها الهيكل الفولاذي، وهي تلك التقنية أو الفكرة التي سمحت للمهندسين ببناء ما يريدون باستخدام هذه الجدران الرقيقة مقارنةً بتلك الجدران السميكة الموجودة في المباني التقليدية قديماً.

ولكن حل المشكلات الهندسية المتعلقة بقدرة ناطحة السحاب على أن تحمل نفسها أدى إلى ظهور سلسلة طويلة من التحديات الجانبية التي لم تكن مطروحة في المباني التقليدية، ولعل أبرزها الوصول إلى الأدوار العليا.
بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، شاع استخدام المصاعد المعتمدة على البخار لنقل المواد في المصانع والمناجم وورش العمل، ولكن هذه المصاعد البخارية لم تكن آمنة لنقل البشر، فإذا انقطع الحبل الذي يحمل أحدها، سقط إلى قاع الأرض مع ما أو من يحمله. في عام 1853م، قدَّم المبتكر الأمريكي إليشا أوتيس نسخة جديدة من المصعد المدني الآمن للبشر، المزوَّد بمكابح تمنع سقوط عربة الركاب في حالة حدوث أي طارئ للحبال التي تنقلها. بعد ذلك بعقود قليلة، سهَّل وجود المصعد المدني عملية بناء المباني الطويلة، أو ناطحات السحاب في وقت لاحق.

ومنذ البدايات الأولى لناطحات السحاب انشغل المهندسون بإجراء الدراسات حول تأمين مصاعد آمنة وسريعة وعملية في الوقت نفسه لقاطني هذه البنايات، فلا يمكن استخدام الدرج أو السلالم نزولاً وصعوداً مع بنايات تعلو لأكثر من أربعين أو خمسين طابقاً، ولا يمكن للعدد الهائل من سكان ناطحة السحاب أو العاملين فيها استخدام مصعد واحد والانتظار في طوابير حتى تتاح لهم فرصة استخدامه. فعمل المهندسون على تطوير تقنيات بناء المصاعد في ناطحات السحاب مع ما يتناسب مع الوقت الذي ينتظره عادةً أغلب الناس لاستخدام المصعد وهو حوالي 28 ثانية. ولحل هذه المشكلة تضم أغلب ناطحات السحاب مجموعتين من المصاعد قد يصل عددها حتى 99 مصعداً. ويتسع المصعد في المجموعة الواحدة لأكثر من خمسة وخمسين شخصاً. أول المجموعتين هي تلك التي تعمل على نقل قاطني الأدوار الأولى، والثانية لنقل المتجهين إلى الأدوار العليا. ولكن المشكلة أن مستخدمي المصاعد يضطرون أحياناً إلى الانتظار فترات طويلة حتى يمكنهم تغيير المصاعد بين المجموعتين، الأمر الذي دفع المهندسين لتخصيص بعض المصاعد للوصول مباشرة من الطابق الأول إلى الطابق الأخير، أو لتخصيص رواق إضافي للانتظار باسم رواق السماء في الدور الذي يتم فيه تغيير المصاعد.

الطبيعة أولاً
أعتى أعداء ناطحات السحاب هي العوامل الطبيعية، من رياح وزلازل. ولذلك يجب على ناطحات السحاب أن تتعامل مع القوة الأفقية للرياح إضافةً لمقاومتها ضغط الجاذبية الأرضية إلى الأسفل. ومعظم هذه المباني صممت للتحرك بضعة أقدام كشجرة تهتز أمام الرياح من دون أن تعرض سلامة المبنى أو ساكنيه للخطر، ولكن المشكلة تكمن في شعور قاطني المبنى بهذه الحركة، وانزعاجهم بسببها خاصة في الأدوار العليا. ورغم ذلك يذكر التاريخ حوادث كان للرياح فيها اليد العليا، مثل حادثة برج جون هانكوك في بوسطن، فالبرج المغطى بالزجاج العاكس بأكمله لم يصمد أمام رياح شتوية هبت في يناير عام 1973م بينما كان البرج تحت الإنشاء، فسقطت ألواح ضخمة من الزجاج على الشارع يزن كل لوح منها 55 باونداً، وبحلول أبريل من نفس السنة، كان قد تجاوز عدد الألواح التي لم تصمد أمام الرياح 65 لوحاً زجاجياً استبدلت برقائق من الخشب.

وبتطور هندسة ناطحات السحاب والتقنيات اللازمة لها، تعددت وسائل مواجهة الرياح والزلازل. ومن أكثرها شيوعاً الأنظمة الهيدروليكية داخل المبنى التي تحرك كتلة من الأسمنت يصل وزنها إلى 400 طن لحفظ توازن البناء خلال العواصف الهوائية. كما أن تصميم شكل ناطحة السحاب الذي بات أكثر مرونة مع الفولاذ والزجاج صار يسمح بإعطائها أشكالاً انسيابية تسمح للرياح المصطدمة بها أن تنزلق عليها مخففة بذلك من ضغطها على واجهة البناء. فلكل ناطحة سحاب وسائلها الخاصة في مواجهة العواصف والزلازل استناداً إلى مكان إنشائها ومعطياته الجغرافية.

وعداء البشر
ومع عداء الطبيعة الذي تتواصل جهود المهندسين للتغلب عليه، يأتي نوع آخر من العداء هو عداء البشر لناطحات السحاب، وهو عداء لوجودها المادي والمعنوي في وقت واحدٍ، وإن اختلفت الدوافع. فلندن التي سارت جنباً إلى جنب مع نيويورك وشيكاغو في إنشاء ناطحات السحاب في أواخر القرن التاسع عشر، توقفت مسيرتها بسرعة نتيجة لاعتراض الملكة فكتوريا على أبنية شاهقة العلو تحجب أشعة الشمس وتشوه سماء لندن، كبناء فندق جراند ميدلاند، والذي لم يتجاوز طوله الاثنين والثمانين متراً، واستمرت القوانين التي تحد من بناء ناطحات السحاب في إنجلترا حتى خمسينيات القرن الماضي. أما العاصمة الفرنسية باريس المعتزة بتخطيطها المحدد بشكل شبه نهائي منذ القرن التاسع عشر، وبأبنيتها الحجرية التي يبلغ متوسط ارتفاعها ست طبقات، فلا تحوي حتى اليوم سوى ناطحة سحاب واحدة هي برج مونبارناس.

ولكن العاصمة الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة إلى التعامل مع موجبات ناطحات السحاب، وجدت الحل في تخصيص إحدى ضواحيها الغربية المعروفة باسم لاديغاس (أي الدفاع) حيث أطلقت يد المهندسين ليبنوا ما شاءوا وبالارتفاعات التي يريدونها. وخلال ثلث قرن فقط تحولت تلك المنطقة إلى غابة من ناطحات السحاب، ومن أشهرها برج مانهاتن الذي بني في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان أول ناطحة سحاب في فرنسا مغطاة بالزجاج بأكملها.

ويختلف الأمر تماماً في أمريكا. ففي شيكاغو، وجد المهندسون أنفسهم في القرن الماضي محاصرين بقوانين تحدد عدد الطوابق المسموح ببنائها بأربعين طابقاً فقط. ووحدها نيويورك أفلتت من مثل هذه القوانين، وإن حاول ويحاول أنصار البيئة فرضها من حينٍ لآخر. وحول كل ناطحة سحاب تبنى في إحدى المدن الأمريكية، تجد المعارضين الذين يحاولون الحفاظ على سماء مدينتهم الصافية، أشعة الشمس التي تصل إلى شارعهم أو إلى الشارع المجاور له، وحتى الهوية التاريخية للمكان. ويتجاوب مصممو ناطحات السحاب مع بعض هذه الاعتراضات، فتكتسي معظم ناطحات السحاب بنوافذ زجاجية تعكس أشعة الشمس ولا تحجبها، وينصاع محافظو المدن لبعضها فيمنعون بناء ناطحات السحاب التي تهدد الهوية التاريخية للأحياء القديمة. ولكن رغم هذا وذاك، لم تستحوذ ناطحات السحاب على الرضا من أنصار البيئة. لأن اعتراضهم هو قائم على البناء ذاته، لا الظروف المحيطة به، إلى أن بنيت ناطحة السحاب كومرزبانك في فرانكفورت، وهي أول ناطحة سحاب خضراء في عام 1997م، واعتبر هذا انتصاراً ساحقاً لأنصار البيئة توالت بعدها انتصاراتهم. ففي نيويورك مثلاً تصر سلطات تخطيط المدينة على أن تتبع ناطحات السحاب الجديدة المعايير القاسية التي يفرضها مجلس البناء الأخضر، وتؤكد الدراسات أن العاملين في ناطحات السحاب الخضراء (الذين يتعرضون لأشعة الشمس والهواء الطبيعي النقي أثناء عملهم) أقل تعرضاً للإصابة بالأمراض التي كان العاملون في الأبراج المغلقة المعتمدة على هواء التكييف معرضين للإصابة بها، خاصة تلك التي بنيت في فترة السبعينيات من القرن الماضي. تكاليف البناء الأخضر لناطحات السحاب أعلى بكثير من تلك التي يتكلفها البناء التقليدي، ولكن الشركات تقبل على هذا الخيار نتيجة لعاملين تضعهما في الاعتبار: العامل الأول الصورة الدعائية للشركة بين العامة لدى معرفتهم باختيارها لـ الأخضر وحفاظها على البيئة، والعامل الثاني كون البناء الأخضر يوفر %35 من استهلاك الطاقة، وبالتالي فهو استثمار للشركة على المدى البعيد.

صورتها بين الوجدان الأدبي وخلافه
أما عن العداء المعنوي لناطحات السحاب، فقد بدأ منذ إنشائها، فالبعض لم يستطع أن يتقبل التغيرات التي تضفيها ناطحات السحاب على المدينة، والبعض الآخر خشي على المدينة التي عرفها طفلاً وشاباً من أن تتحول مخلوقاً جديداً لا يعرفه وليس له علاقة به. ولذلك، تسابق هؤلاء ليضعوا ناطحات السحاب ضمن إطار يضمن لهم إحساساً بالاتصال بتاريخهم، ويضفي على البناء القاسي الطويل حساً إنسانياً، ذلك أن الجهد الإنساني الذي تطاول ليصل للسحاب، كان مجموعة من الجهود الفردية التي بذلها العمال. يصف الكاتب الأمريكي دوينج في كتابه الأبراج بناء ناطحات السحاب بصعود الصناعة إلى الأعلى على حساب الإنسانية، ويصر على أن كل مواطن يمتلك جزءاً من هذه الأبراج العالية، وذلك لأن الشركات تبني ناطحاتها معتمدة على قروض من البنوك التي يمولها المواطنون! ورغم أن رأيه هذا، بمعايير عصرنا اليوم، ليس مقنعاً، إلا أنه يمثل جهداً حقيقياً بذله الكتاب وقتذاك لاسترجاع القوة المفقودة من المواطن العادي أمام الغابة المتسعة من ناطحات السحاب. أما المؤرخ ماكس بيج فيصف ما تقدمه ناطحات السحاب إلى المدن الأمريكية بأنه تخريب إبداعي . وربما لم يعد غالبية الكتَّاب ينظرون إلى ناطحات السحاب بالحدة ذاتها، ولكن تبقى ناطحة السحاب في وجدان الكثيرين من الأدباء والكتَّاب، بطرازها العمراني، وبما تمثله من نجاح مادي، بناء من دون قلب، فيه كل ما في المادة من الجمال، وليس فيه كل ما لا تستطيع المادة شراءه من أصالة، وكما يقول الكاتب المصري كامل زهيري: ناطحات السحاب جميلة؛ لأنها نظيفة قاطعة كحد الموس. تلمع لأنها من الفولاذ الأبيض. زجاجها كالمرآة.. حجارتها تلمع كالزجاج. ولكن ليس لها جذور في الأرض. إنها مجرد كميات هائلة من الحجارة والصفيح والحديد والزجاج، كومت بعضها على بعض .

من جهة أخرى، ومنذ بداية إنشائها، تلعب ناطحات السحاب دوراً رئيساً في الدعاية للاقتصاد، وتعتبر مؤشراً لا يقبل الجدل على النجاح في حقول الأعمال، ففي بداية القرن العشرين، اكتشفت الشركات الكبرى أن تأثير ناطحات السحاب في الدعاية لأعمالها يتجاوز بمراحل أي تأثير ممكن أن تحققه الدعاية عن طريق المنشورات أو الجرائد والمجلات، ونتيجة لهذا النجاح التي حققته ناطحة السحاب كرمز وكسياسة تسويق في عالم الأعمال، سرت عدوى الشغف بها إلى الدوائر الحكومية، مثل مبنى ولاية نبراسكا الذي أنشئ في عام 1932م، ومبنى أمانة الأمم المتحدة الذي بني عام 1950م. ورغم أن الصورة المثالية لناطحات السحاب كبناء لا يقهر اهتزت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنها سرعان ما استردت عافيتها. وعادةً ما تلجأ الشركات التي ليس لديها منتج ملموس يبتاعه المستهلك، كالبنوك وشركات العقار، إلى ناطحات السحاب للدعاية وللإيحاء بنفوذها وكفاءتها.

فبموازاة الوجدان الأدبي الناقد لناطحات السحاب، هناك وجدان شعبي يتطلع إليها بإعجاب، ربما لما تمثله من ثراء ومن تحدي قدرات الفرد المشاهد على صنع شيء مشابه. وبين هذا وذاك، هناك عوامل وضغوطات لا تأبه للأمزجة فنية كانت أم لا.. فتمضي بالمهندسين والبنَّاءين إلى بناء المزيد من ناطحات السحاب.. ومن ثم المزيد.

ناطحة سحاب
في النهار، تنتصب ناطحة السحاب من وسط الدخان وأشعة الشمس، وتكتسب روحاً.
شارعا المدينة: الغابة والوادي ، يفرغان فيها كتلاً بشرية، ما تلبث أن تتمازج وتختلط في طوابقها العشرين، ثم يعاد قذفها إلى الشوارع: البراري والأودية.
إنهم الرجال والنساء، الفتيان والفتيات، ينسكبون كل يوم داخل ناطحة السحاب وخارجها، مما يشحن البناء بروح وأحلام وأفكار وذكريات.
(ولو كان البناء غارقاً في لجة بحر، أو مشيداً في الصحراء، فمن كان سيهتم به أو يأتي على ذكر اسمه، أو يسأل شرطياً عن الطريق المفضي إليه؟).
تنزلق المصاعد على حبالها، وتتلقى الأنابيب رسائل وطروداً، وتحمل أنابيب أخرى الماء والغاز إلى الداخل، وتقذف المياه الآسنة للخارج.
تتسلق الأسلاك محملة بالأسرار، حاملة النور والكلمات، مبشرة بالمغانم، منذرة بالويلات والعواطف، ناقلة شتائم الرجال ومشروعات أعمالهم وأسئلة النساء ومكائد غرامياتهن.
ساعة بعد ساعة تلامس صناديق المتفجرات صخور الأرض، وتحمل البناء إلى كوكب دوّار.
ساعة بعد ساعة، تتحول العوارض المعدنية إلى دعامات، تحمل معاً الجدران الحجرية وأرضية الحجرات.
ساعة بعد ساعة، تمتد يد معلم العمار وخلاّطي مواد البناء، لتثبت القطع حسب التصميم الذي اختاره المهندس.
ساعة بعد ساعة، يتدافع على البناء الشمس والمطر، الهواء والصدأ، وضغط الزمن الذي يتراكم قروناً، فتفعل فعلها داخل البناء وخارجه، إلى أن تستهلكه.
أما الرجال الذين جبلوا مواد البناء فيساقون إلى القبور، حيث تصفر الريح أغنية وحشية بلا كلمات.
وهذا مصير الرجال الذين مدوا الأسلاك وثبتوا الأنابيب، وشاهدوا البناء يرتفع طابقاً إثر طابق.
أرواحهم جميعاً هنا، حتى صناعة خلط مواد البناء، تتسول أمام الأبواب الخلفية على مسافة مئات الأميال، كما يرقد هنا عامل القرميد الذي كان قد سيق إلى سجن الولاية لقتله رجلاً آخر، وهو ثمل.
(سقط رجل من فوق إحدى الدعامات، ودقَّت عنقه على حافة منصة مستقيمة، وهو يرقد هنا أيضاً، وقد امتزجت روحه بحجارة البناء).
وعلى أبواب المكتب، تجد من صف لصف مئات الأسماء، يعود أحدها لوجه طفل ميت، أو عاشق متيم، أو طامح إلى صفقة بمليون دولار، أو غارق في ملذات الحياة السهلة.
وخلف الإشارات التي تحملها الأبواب، تراهم يعملون، لكن الجدران من غرفة لغرفة لا تقول شيئاً.
ويحمل عامل اختزال راتبه الأسبوعي عشرة دولارات، يحمل رسائل من مديري الشركة، ورجال قانون، ومهندسين، وتذهب أطنان من الرسائل من قاطني البناء إلى كل عناوين الأرض.
ابتسامات ودموع كل موظفة تذوب في روح البناء، تماماً كابتسامات ودموع المديرين الذين يحكمون البناء.
وعندما تشير عقارب الساعات إلى الظهيرة يُفرغ كل طابق رجاله ونساءه الذين يتوجهون لتناول الطعام ثم يعودون للعمل.
فإذا اقتربت نهاية فترة الظهر، فإن سرعة كل الأعمال تتباطأ، عندما يشعر الناس أن النهار ينغلق عليهم.
وتبدأ الطوابق بإفراغ من فيها، طابقاً بعد آخر، ويختفي عمال المصاعد ذوو الأزياء الخاصة بمهنتهم، وترسل الدلاء رنينها، وتبدأ أجهزة غسل الغاز عملها، متحدثة بلغات غريبة. وتعمل المكانس والمماسح بتنظيف الأرضيات من الغبار واللعاب الآدمي، وأوساخ الآلات في ذلك النهار. وتنتـشر على الأسقف إشارات إلكترونية ناطقة برغبة أعداد من المنازل بشراء حاجيات مقابل النقود، وتظل الإشارات ناطقة حتى منتصف الليل.
يخيم الظلام على المداخل والأروقة، وتتحول الأصوات إلى صدى، ويسود الصمت.. يبدأ الحراس بالتنقل ببطء بين طابق وآخر، يتفحصون الأبواب، تتدلى المسدسات من الجيوب الخلفية لسراويلهم، بينما تقف الخزنات الحديدية بأمان في الزوايا محشوة بالنقود.
ينحني أحد الحراس على نافذة، فيشاهد أضواء الزوارق التجارية تشق طريقها عبر الميناء، وشبكات من القناديل الحمر والبيض في محطة للسكك الحديدية، وجسراً من الظلمة يتساقط خطوطاً بيضاء وضبابية، ويعبر وينتشر فوق المدينة.
وعندما يخيم الليل، تنتصب ناطحة السحاب وسط الدخان والنجوم بروح نابضة.

كارل ساندبرغ
ترجمة: الياس سحّاب

ناطحات سحاب زمن مضى
يتناقل اليمنيون حكايات عن مدينتهم شبام، التي يرجع تاريخ عمران مبانيها القديمة إلى أكثر من خمسمائة سنة. بنيت المدينة على الطراز القديم، إذ يحيط بها سور قديم له بوابة وحيدة، وشوارعها ضيقة ملتوية، وبيوتها مبنية من الطوب اللبن والطين النيئ، وتتراوح طوابقها ما بين 6 و 7 طوابق، وارتفاع كل طابق من 4 إلى 6 أمتار. أما سماكة جدران الدور الأرضي للمنزل في شبام فهي بين متر ونصف ومترين، ولكنها تتناقص صعوداً حتى الحافة العليا للمنزل.

أما الإنجليز، فيحكون عن بناء الفلاكسميل ، وهو أول بناء مؤطر بالحديد في العالم. بني الفلاكسميل عام 1797م، ويقال إنه الجد الشرعي لناطحات السحاب الحالية، نتيجةً للقضبان العمودية والأفقية المصنوعة من الحديد، والتي طورت في العصر الحالي لتصبح قضباناً من الفولاذ. ويحتاج الفلاكسميل في الوقت الحالي إلى عناية واهتمام عمراني لمنعه من الانهيار. وهذا ما دفع لجنة التراث الإنجليزي إلى الإعلان في شهر مارس من العام 2005م عن عزمها شراءه والحفاظ عليه.

الأبراج العربية
الفيصلية، المملكة، دبي
الفيصلية و المملكة اسمان يعرفهما كل من يعرف مدينة الرياض. فناطحتا السحاب هاتين تحولتا منذ الأيام الأولى لتدشينهما إلى أبرز المعالم العمرانية في العاصمة السعودية، وأقوى نقاط الاستقطاب للمقيمين فيها.

ولكل من البرجين اللذين يخترقان فضاء المدينة المنبسطة أفقياً، شكل فني مميز، حتى أنك تجد مجسماتهما المصنوعة من الزجاج أو المعدن أو الكريستال أو على شاكلة علاَّقات مفاتيح وما شابه، تباع كتذكارات أينما كان في العاصمة وخارجها.

يحتوي كل برج على ثلاثين طابقاً. وفي حين أن الفيصلية مخصص للمكاتب، خصَّ المملكة بعض أدواره لفندق الفصول الأربعة . ويبلغ ارتفاع الأول 266 متراً، والثاني 300 متر.

أما السؤال الذي يُطرح من خلال ارتفاع هذين البرجين في فضاء العاصمة السعودية فهو حول ما إذا كانا باكورة سلسلة من ناطحات السحاب قد تغيّر مستقبلاً البناء في الرياض ككل، أم أنهما مجرد إضافة إلى فضاء المدينة كما هو حال مونبارناس في باريس، مجرد تلوينة وحركة تكسر أفقية المدينة، وتضفي عليها شيئاً من الحيوية والمركزية؟

وعلى الصعيد العربي، ورغم انتشار ناطحات السحاب في معظم المدن والعواصم، تبقى صورة إمارة دبي الأكثر التصاقاً بصور ناطحات السحاب. ورغم العدد الكبير من الأبراج في الإمارة يجري حالياً فيها تشييد برج دبي الذي يتوقع أن يتجاوز ارتفاعه 700 متر. وهو المرشح الأول لتجاوز أعلى ناطحات السحاب في العالم حالياً (برج تايبيه 101). ويتوقع أن ينتهي البرج في العام 2008م، ويقال إن الطابق الواحد فيه يشيَّد خلال سبعة أيام فقط. أما عن ارتفاعه المحدد فالمسؤولون يتكتمون حوله خوف المنافسة.

قيل في ناطحات السحاب
ناطحات السحاب هي العمارة النهائية للرأسمالية، فكل تخطيط مبدئي لأية ناطحة سحاب يتضمن المعادلة بين التكلفة والأرباح .

كارول ويلز – مؤرخ عمراني

المساهمة الوحيدة التي قدمتها أمريكا للعالم كانت ناطحات السحاب، وموسيقى الجاز، وشراب الكوكتيل .

فيدريك كاسترو

ناطحات السحاب عبارة عن مديح ذاتي من الزجاج والفولاذ .

ماسون كولي

أنت لا تتطلع إلى ناطحة السحاب، أنت تتطلع إلى المهندس الذي بناها .

مجهول

ناطحات السحاب ليست فقط رمزاً لروح أمريكا، ولكنها الشيء الوحيد الذي نستطيع (كأمريكيين) أن ندَّعي أنه بلا جدال ابتكار أمريكي في عالم الهندسة .

كلود براجدون

أضف تعليق

التعليقات