بيئة وعلوم

فـرق العمل في عالم الحيوان

  • 43a
  • 37a
  • 38aa
  • 39a
  • 40a
  • 40b
  • 41
  • 42a

تؤكد مفاهيم اقتصادية وتصحح أخرى اجتماعية
تشكل روح الفريق واحدة من قيم العمل التي تسعى المؤسسات في العصر الحديث إلى زرعها في صفوف العاملين فيها؛ نظراً لعوائدها الإيجابية على الفرد والمجموعة والإنتاج، حتى صارت شرطاً من شروط النجاح. الدكتور مدحت مريد صادق يتناول في هذا الموضوع فرق العمل في عالم الحيوان، حيث يكون التعاون ضمن الفريق المتكافل مكتسباً طبيعياً ويندرج ضمن الشروط الضرورية لبقاء النوع، ويتجاوز في عمقه روح الفريق الإنسانية، ليعيد صياغة مفهوم جديد لمعنى الفرد والمجموعة.
كانوا ستة من الأصدقاء ألقت بهم المغامرة إلى منزل شبه مهجور تحوطه الثلوج المميزة لشتاء أوروبا القارس، وكان عليهم أن يبيتوا ليلتهم في هذا المنزل الذي يخلو من أية وسائل للتدفئة. لكن التفكير لم يطل، فسرعان ما أخرجوا أغطيتهم البسيطة واختاروا أضيق حجرة بالمنزل وافترشوها معاً، وما هي إلا ساعة حتى كانت حرارة الأجسام قد أدفأت الغرفة الصغيرة لينام الجميع نوماً هانئاً حتى الصباح.

ليس البشر وحدهم من يتقن التعامل مع ظروف كهذه. فطيور البطريق، مثلاً، تتزاحم بالطريقة نفسها تقريباً لإنتاج الحرارة الكافية لحضانة بيضها في شتاء القطب الجنوبي. وبعض القشريات الصغيرة عندما يتهددها ارتفاع قلوية المياه من حولها تلجأ إلى التجمع والاحتشاد بأعداد وفيرة حتى تضمن ترويض قلوية المياه بفعل نواتج تنفسها الحمضية. وصغار ذبابة الفاكهة يندر أن تعيش إذا سلكت دروب الحياة فرادى، ولكن تجمعها يُـمَكِّنها من البقاء وتحويل ثمرة واحدة صغيرة إلى بستان يمنح المأوى ويفيض بالغذاء.

ويزخر عالم الحيوان بأنماط أخرى من التعاون، تتدرج من هذا النوع البسيط الذي يخلو -أو يكاد- من أي تفاعل بين الأفراد عدا التجاور المكاني، كما تغيب فيه المسؤولية الجماعية، صعوداً إلى مستويات أرقى من التعاون، لعل أوثقها وأكثرها إيجابية ذلك الذي تعيشه الحيوانات الاجتماعية التي تنتظم في مجتمعات تسودها قواعد صارمة لتوزيع الأعباء وتقاسم المنافع، وتتميز بوجود وسائل فاعلة للتخاطب والتفاهم، كما تبرز فيها قِيمٌ عليا كالتفاني والإيثار واستعداد الفرد لبذل حياته طوعاً فداءً للمجموع.

التعاون بين الأنواع المختلفة
وتجدر الإشارة إلى أن التعاون في عالم الحيوان ليس مقصوراً على أفراد النوع الواحد، بل يمكن أن يتعاون الحيوان مع حيوانات أخرى من غير نوعه. من أبرز الأمثلة على ذلك التعاون بين الطائر الإفريقي المعروف بالدُّبسي أو مرشد العسل (honeyguide) وبين حيوان البادجر (badger) أو عَنّاق الأرض. والحق أن هذه العلاقة تمثل نوعاً فريداً من التعاون التكاملي، فالدُّبسي لا يأكل العسل بل يتغذى على الشمع فقط وأحياناً على صغار النحل. كما يمكنه رصد مواقع أعشاش النحل بسهولة، لكنه لا يستطيع دخولها لأن معظم أنواع النحل البري في إفريقيا تبني أعشاشها في تجاويف شبه مغلقة بجذوع الأشجار لا تتسع أبوابها إلا لدخول النحلة الصغيرة. أما عَنّاق الأرض فهو حيوان ثديي يعشق العسل، وله مخالب قوية يمكنه أن يحطم بها قلف الأشجار ويقتحم أعشاش النحل بشرط أن يرشده أحد إلى مكانها. ولهذا فإن الطائر يقوم بالبحث عن أعشاش النحل، وحالما يعثر على أحدها يسارع إلى أقرب عَنّاق فيلفت انتباهه بإشارة صوتية معينة يفهمها الحيوان على أنها اتبعني . وعلى الفور يتحرك عَنّاق الأرض وعيناه على الطائر الذي يتنقل من شجرة إلى شجرة حتى يصل الاثنان إلى المكان المقصود. وعندها يدنو عَنّاق الأرض من العش ويكشف عن غدة معينة بجسمه تبعث في الجو رائحة تنفر النحل وتدفعه إلى الهرب -تماماً مثلما يطلق البشر دخاناً لطرد النحل من أعشاشه- ثم ينقض على العش محطماً جدرانه ويأخذ في التهام العسل بينما ينتظر الدُّبسي في صبر جميل، حتى إذا شبع عَنّاق الأرض من العسل وبانت أقراص الشمع نظيفة بيضاء أقبل عليها الدبسي لينال وجبته، ثم يمضي الصديقان كل في طريق.

ولقد درس العلماء هذه الظاهرة واكتشفوا أن سلوك الطائر ليس مجرد فعل غريزي خال من التفكير، وإنما هو فعل ذكي يتسم بكثير من الإبداع ويدل على أن الطائر يعي ما يفعل. فقد وجد مثلاً أن الطائر يلجأ إلى الإنسان إذا تعذر وجود عَنّاق الأرض في المنطقة، فتراه يدنو من أول شخص يلقاه ثم يحاول لفت انتباهه بشتى الطرق! صحيح أن الإنسان في الغالب لا يستجيب بالسرعة والهمة اللتين يستجيب بهما عَنّاق الأرض لتغريدة الطائر، إلا أن هذه الطيور تعلمت على ما يبدو أن تتسامح مع جهل الإنسان أو غروره، ووطنت أنفسها على الإلحاح في دعوة الإنسان للتعاون معها. وقد سجل العلماء واقعة ظل فيها طائر الدبسي يتوسل إلى بعض الأشخاص ويتبعهم وهم مسافرون بسيارتهم حتى قطع معهم مسافة ثمانية كيلومترات، وأخيراً فطن أحدهم وقرر الاستجابة للطائر فترجل وتبعه، فإذا بالطائر يقوده إلى عش كبير للنحل لا يبعد عن المكان أكثر من كيلومترين فقط. وواضح من هذه الواقعة أن الطائر كان قد رصد مسبقاً أكثر من عش واحد وأنه احتفظ في ذاكرته بخريطة لمواقع الأعشاش في المنطقة، وعندما وجد من يساعده من بني البشر اقتاده إلى أقرب هذه الأعشاش! ربما كانت تلك القدرة الفائقة هي التي دفعت بإحدى القبائل الإفريقية إلى عقد ما يمكن أن نسميه معاهدة صداقة وتعاون مع طيور الدبسي، فدأبت على تعليم أبنائها كيفية الإصغاء إلى هذه الطيور والتعاون معها للحصول على العسل، وقد كان هذا التعاون الفريد -ولا يزال- موضع دراسات مكثفة.

التعاون ضمن النوع الواحد للحماية والحصول على الغذاء
أما أنماط التعاون بين أبناء النوع الواحد فبرغم تنوعها وتعدد أشكالها فإن العلماء يقسمون أهدافها إلى قسمين رئيسين للتبسيط، وهما الدفاع أو الحماية و تأمين الحصول على الغذاء والمأوى . بالطبع هناك أهداف أخرى للتعاون، كاللهو والترويح أو رعاية الصغار وتنشئتهم، غير أن مثل هذه الأهداف يعتبرها العلماء أهدافاً ثانوية بالقياس إلى الدفاع وجلب الغذاء.

من مظاهر تعاون الحيوان بغرض الدفاع مثلاً تحرك الطيور في أسراب، فبهذه الطريقة يمكن للطيور أن تراقب بشكل جماعي أي معتد يقترب منها، وعندما يرصد أي طائر خطراً ما فإنه يطلق صيحة تحذير يستجيب لها كل طائر بأن يفر مبتعداً عن مركز السرب فيتشتت الجمع ويتشتت معه تركيز المفترس فيفشل في اقتناص أي من أفراد المجموعة.

والسلوك نفسه تنتهجه بعض الأسماك. إذ تسبح في أسراب وتقوم بنفس الحركة التشتتية حالما تلوح نذر الخطر. أما الغريب فهو ما يحدث في بعض الطيور كالبط البري (mallard duck)، فالأجنة قُبَيْل الفقس تتبادل رسائل صوتية وتتفاوض فيما بينها -وهي بعد داخل البيض- حول التوقيت الأمثل للخروج من البيضة، أي أن كل جنين يحاول أن يعدل من موعد خروجه ليتفق مع خروج الآخرين، حتى يتمكن الجميع من مواجهة صعوبات الحياة معاً منذ اليوم الأول! ذلك لأن مجرد الكثرة العددية يمكنها أن تكون مصدر تخويف وردع لأي مفترس محتمل.

وفي حالة غزلان المسك التي تقطن القطب الشمالي تتجمع الذكور القوية في شكل دائرة محكمة حول الصغار والإناث كلما أحدق الخطر. وتتراص الحيوانات كتفاً إلى كتف موجهة قرونها الغليظة صوب الخارج في تأهب يكفي لإقناع المفترس بتغيير وجهته. وفي خنازير البحر (porpoises) (والتي تسمى أحياناً سمك يونس ، لكنها ليست أسماكاً بل حيوانات ثديية تشبه الدلافين وتتنفس الهواء الجوي) يقوم الذكور بتطويق الأنثى التي يأتيها المخاض وتبدأ في وضع مولودها، ويستمر ذلك التطويق حتى تمام الولادة، وذلك لحماية الأم ووليدها من أسماك القرش التي قد تجذبها رائحة الدم. ومعروف عن هذه الحيوانات أيضاً أنه إذا تعرض أحدها لجرح أو مرض فإن الأصحاء يتطوعون بحمله إلى سطح الماء لتمكينه من التنفس.

وفي عالم النمس المعروف باسم ميركات (meerkat) تتم حراسة القطيع بالتناوب، فأحد الأفراد يتخذ له مكاناً عالياً أشبه ببرج مراقبة. ومن هناك يسهر على حراسة أبناء عشيرته بينما هم يتناولون طعامهم أو يغطون في نوم عميق، حتى إذا انتهت نوبته قام فرد آخر ليحل محله! ولا يزال العلماء بصدد دراسة القواعد التي تحكم طول نوبة الحراسة ومعايير اختيار الحراس، وكيفية تفادي الصدام أو المشاحنة عند توزيع مثل هذه المهام.

وتشكِّل إناث الفيلة وصغار السن منها مجموعات مترابطة (بينما تهيم الذكور الناضجة غالباً)، ويكفل هذا التجمع حماية ومهابة لتلك الحيوانات التي لا تنقصها الضخامة. وفي هذه المجتمعات يحظى الصغار بالتغذية والرعاية اللازمتين من جانب الأمهات وغير الأمهات على السواء، كما يعرف الصغار للكبار مكانتهم، فحين يموت أحد الأفراد مثلاً تجد القطيع، وقد أخذه الحزن، يقوم بدفنه تحت أفرع الشجر، ولا يبرح القطيع المكان قبل التأكد من حماية الفيل الميت من الطيور الجارحة حتى يحل الظلام.

القردة والإحساس بالمسؤولية
أما القردة العليا والتي تضم الشمبانزي والغوريللا وغيرهما فتعيش في مجتمعات أكثر إحكاماً، يعرف فيها الفرد أشقاءه وأبناء عمومته وأقرباءه بمختلف درجاتهم، بل يعرف جميع الأفراد الآخرين بشكل شخصي، وتنتشر الصداقات والتحالفات، ويتفاهم الجميع بلغة يقدر العلماء حجم مفرداتها اللغوية بأنها تكفي لتناقل بضعة آلاف من الرسائل ذات المضامين المختلفة. وبرغم عدم خلو تلك المجتمعات من خصال سيئة كالغش والخداع والخيانة أحياناً، إلا أن التعاون على تنشئة الصغار هو السمة الأبرز، كما يشيع الإحساس بالمسؤولية تجاه العشيرة ويبادر كل من يلمح خطراً إلى تحذير الجميع منه. وفي القردة العادية مثل البابون baboon والمكاك macaque والفيرفت vervet، تلعب قرابة الدم دوراً أساساً في تحديد العلاقات، فترى الخدمات تؤدى للأقارب باستعداد أكبر. وفي دراسة حديثة نسبياً على أحد أنواع هذه القردة في شرق إفريقيا، تبين أن في لغتها أربعة نداءات صوتية مختلفة هي أساس الحماية من الأخطار إذ تستخدم في التنبيه والتحذير. فهناك نداء يستخدم للتحذير من الطيور المفترسة كالصقر والعقاب، وتستجيب له القردة بالنظر إلى أعلى وبمحاولة الاختباء أسفل الأشجار أو الشجيرات الكثيفة، وإذا كان أحدها فوق شجرة وقت سماع هذا التحذير فإنه ينزل على الفور. وهناك نداء يستخدم للتحذير من المفترسات الأرضية كالفهد مثلاً، وحال سماعه تستجيب القردة على العكس من التصرف السابق تماماً. إذ يسارع كل منها للصعود إلى أقرب شجرة. وهناك نداء ثالث للتحذير من الثعابين، وعند سماعه تتسمر أفراد القطيع في أماكنها ويحدق كل منها في العشب مع اتخاذ وضع من يستعد للضرب بقبضته على الأرض. وأما النداء الرابع فهو على ما يبدو مخصص للتحذير من البشر، إذ تستجيب له القردة غالباً بإطلاق سيقانها للريح. وللتأكد قام العلماء بتسجيل هذه النداءات الأربعة ثم إعادة إذاعتها لاحقاً عبر أبواق صغيرة خبئت وسط العشب، وكانت استجابة القردة دائماً تشير إلى فهم القردة لفحوى هذه النداءات مهما تغيرت الظروف.

أما تعاون الحيوان من أجل جلب وتأمين الغذاء، فمن أبرز مظاهره أن يتعاون أكثر من فرد للانقضاض على الفريسة. وقد لا يعرف معظمنا أن كثيراً من الحيوانات المشهورة بكفاءتها في الافتراس، كالأسد والذئب والضبع وابن آوى، لا تقدم على الصيد فرادى، وإنما تتجمع وتنسق الجهود في حملات جماعية تيسر الإيقاع بالفريسة. بل إن الطيور التي تقتات على الأسماك، كالبجع مثلاً، تسبح على سطح الماء في مجموعة على هيئة صف واحد، ثم بعد ذلك ينثني الصف ليكون قوساً، ثم لا يلبث القوس أن ينغلق مكوناً دائرة حول الأسماك التي تشعر حينئذ بأنها محاصرة، فتقع بسهولة بين فكوك البجع.

الإيثار المتبادل
شكل من أشكال الضمان الاجتماعي
ولا يقتصر التعاون على لحظة الافتراس وحدها، وإنما في كثير من الحالات يقوم المفترس بجلب الطعام إلى أبناء عشيرته من الصغار وممن يعجزون عن القنص. ولقد درس فريق من العلماء بجامعة كاليفورنيا حالة شهيرة من حالات اقتسام الغذاء في الخفاش المعروف باسم الخفاش السفاح (vampire bat) والذي يتغذى على دماء الحيوانات البرية. وبرغم ما يحمله ذلك الاسم من شراسة، فإن تلك الخفافيش تعيش فيما بينها حياة اجتماعية يسودها كثير من الود والتكافل. فالخفاش الذي يعود بعد وجبة دسمة يقوم بتقاسم وجبته مع غيره ممن لم يوفقوا في العثور على ضالتهم. ويتم تقاسم الغذاء بنقله من فم إلى فم. ولقد تبين من الملاحظة الدقيقة لسلوك هذه الخفافيش والتي استغرقت نحو سنوات عشر أن الخفافيش يعرف بعضها بعضاً وأن الفرد الذي يضن اليوم بغذائه على الجياع سرعان ما يفقد تعاطف المجموعة، ويتم فرزه من القطيع ثم حرمانه من الغذاء غداً عندما يدور عليه الزمن ويصبح في موقع الجائع. أما الكريم الذي يبذل جزءاً من غذائه لأقرانه عن طيب خاطر فيكون أول المدعوين إلى الغذاء في المرة القادمة. ولقد وفرت دراسة هذه الظاهرة دعماً لنظرية شهيرة في علم سلوك الحيوان عرفت بنظرية الإيثار المتبادل (reciprocal altruism)، والتي تقول إن الحيوان يمكن أن يؤثر رفاقه على نفسه، ولكن بحساب. فالإيثار لا يوجَّه إلا لمن يستحقه. ولا أعتقد أننا نبالغ إذا قلنا إن هذه الخفافيش المتواضعة تعتبر بسلوكها هذا أسبق من البشر إلى إرساء نظام محكم للضمان الاجتماعي، ففيها يتنازل الفرد -لطالما كان موفقاً ومنتجاً- عن بعض جهده للمجتمع، وذلك في مقابل إعالته من جانب نفس المجتمع عندما تقعده الظروف عن السعي والإنتاج!

أعلى مستويات التعاون في عالم الحشرات
أما الجدير بالتأمل حقاً فهو أن أعلى درجات التعاون لا توجد في القردة العليا ولا في غيرها من الثدييات والحيوانات الراقية، بل توجد في الحشرات! ولعل نحل العسل خير نموذج للمجتمعات ذات التعاون المثالي. وربما يسود الاعتقاد بأن لا جديد هناك يستحق المعرفة بعد كل ما كتب للكبار والأطفال حول مجتمعات النحل. لكن الحق أن هذا الاعتقاد أبعد ما يكون عن الصحة، فحتى كتابة هذه السطور يطالعنا العلماء بالجديد كل يوم عن عالم النحل. ومعروف بين العلماء أن نحل العسل يحتل المرتبة الثالثة بين الكائنات الحية (بعد الإنسان وذبابة الفاكهة) من حيث حجم ما أجري عليه من أبحاث وما كتب حوله من نظريات ودراسات. ويحتل العالم النمساوي الشهير، كارل فون فريش، رأس قائمة العلماء الأفذاذ الذين اتخذوا من النحل مادة لأبحاثهم. فلقد أنفق ذلك العالم العظيم ما يربو على خمسين عاماً من عمره المديد (96 سنة) في دراسة النحل، وتتلمذ عليه عدد من العلماء الذين انتشروا في بقاع العالم وصار كل منهم فيما بعد مدرسة بحثية رفيعة المستوى. وفي عام 1973م حصل فون فريش على جائزة نوبل تكريماً له عن اكتشاف لغة النحل (bee language)، فقد كان أهم اكتشافاته أن شغالة النحل عندما تعود من الخارج إلى العش محملة بالغذاء تسارع إلى تفريغ حمولتها أولاً، ثم تتوجه على الفور إلى رفيقاتها في العش فتخبرهم -بواسطة خطوات معينة تخطوها على قرص الشمع- عن المكان الذي جلبت منه الغذاء. وقد بيَّن فون فريش وتلاميذه أن تلك الحركات تتضمن معلومات عن المسافة التي يبعدها مصدر الغذاء، وفي أي اتجاه هو، وكذلك مدى ثراء هذا المصدر. وحال تلقي الرسالة تهرع الشغَّالات إلى مكان الغذاء مباشرة، مما يوفر الجهد والوقت المبذولين في البحث عن الغذاء.

وكأنما هو قدر العلماء العظام – قوبل اكتشاف فون فريش للوهلة الأولى بالتحفظ، وتصدى له اثنان من العلماء الأمريكيين محاولين تسفيه آرائه وتفنيد طرائق البحث التي اتبعها. وقد استمر السجال في هذا الصدد أكثر من عشرة أعوام تراكمت فيها الأدلة على صحة اكتشافات فون فريش، حتى حُسِم الأمر لصالحه في النهاية. من هذه الأدلة مثلاً قيام فريق من العلماء بصنع روبوت صغير من الخشب في حجم النحلة، ثم تثبيته في ذراع جرى توصيلها بجهاز كومبيوتر يمكن برمجته لتحريك تلك النحلة الصناعية كي تؤدي الخطوات الدالة على أي رسالة يراد إبلاغها للنحل. وعن طريق هذا الروبوت الصغير أمكن للبشر، ولأول مرة في التاريخ، أن يخاطبوا النحل بلغته، وأمكنهم أن يطلبوا من النحل مثلاً بأن يخرج من العش ويجعل الشمس عن يساره بزاوية قدرها ثلاثون درجة مثلاً، ثم يطير في اتجاه مستقيم مسافة خمسة كيلومترات، ثم يحط على الأرض بحثاً عن الغذاء. وكان النحل يتلقى الرسالة فتخرج الشغَّالات من العش وتنفذ التعليمات بدقة لا يشوبها خطأ أو ارتجال. كان هذا بالطبع دليلاً قاطعاً على صحة ترجمة فون فريش للغة النحل. والآن وبعد عقود من إنجازات فون فريش يقدِّر العلماء أن لغة النحل تبلغ من الثراء حداً يجعلها تتسع لتشكيل ألف مليون رسالة مختلفة، وهو ما يعني أن لغة النحل تتفوق من حيث السعة المعلوماتية على لغة الشمبانزي والدلافين بنحو مليون مرة!!

وفي النمل الأبيض تبلغ مظاهر التعاون ذروتها في بناء المساكن، إذ تشترك الآلاف وربما الملايين في بناء المسكن. وفي تقديري أن النمل الأبيض أيضاً قد سبق البشر إلى ابتكار عمارة الفقراء ، تلك التي نادى بها المعماري الرائد حسن فتحي. فالنمل الأبيض يشيِّد منازله من أرخص الخامات وأوفرها في بيئته، ألا وهي حبات التراب. وبرغم ضآلة هذه اللبنات إلا أن بعض منازل النمل الأبيض يصل ارتفاعها إلى ما يوازي ارتفاع طابقين من مساكن البشر، ويتمتع بصلابة لا تقل كثيراً عن صلابة الخرسانة الإسمنتية. ولا شك أن منزلاً يقطنه ما يتراوح ما بين مئة ألف وعشرة ملايين فرد من النمل لابد أن يكون على هذا القدر من الضخامة والشموخ، كما يجب أن تتوافر فيه وسائلُ محكمة للتهوية، وطرقٌ لتنظيم الحرارة، ومسالك للإخلاء السريع عند الخطر. وكل ذلك أبدع النمل الأبيض في ابتكاره على أحسن ما يكون من فنون العمارة!

التعاون يغيِّر تعريف الفرد
ولسنا بالطبع بصدد سرد كل مظاهر التعاون في النحل والنمل الأبيض، فالمقام لا يتسع لذلك. لكن الجدير بالذكر أن البحوث التي أجريت على الحشرات الاجتماعية كان لها الفضل الأكبر في صياغة بعض النظريات البيولوجية التي قد تبدو غريبة لغير المتخصص، لكنها تملك من المقومات العلمية ما يجعلها موضع اعتبار من المختصين. إن الفرق الأهم بين الحياة الاجتماعية للحيوانات الراقية كالقردة العليا مثلاً، وبين الحشرات الاجتماعية هو أن القرد يستطيع العيش بمفرده، وإن كان يفضل الحياة الاجتماعية. أما في الحشرات الاجتماعية كالنحل والنمل الأبيض فلا حياة للفرد وحده بأي حال من الأحوال. فشغَّالة النحل برغم أنها تقوم بكل الأعمال الشاقة وغير الشاقة في المستعمرة إلا أنها تعجز عن العيش بمفردها مهما توافر لها من ظروف! إن حتمية العيش الاجتماعي هذه كانت الأساس في صياغة النظرية الشهيرة المعروفة باسم الكائن الفائق (superorganism) والتي تقول إن مستعمرة النحل أو النمل الأبيض، أو غيرهما من الحشرات الاجتماعية، هي في الواقع ليست عدداً من الكائنات بل كائناً واحداً فائقاً، وأن ما نعتبره فرداً، كالشغَّالة مثلاً، إنما يناظر الخلية في الإنسان. فكما تعجز خلية الإنسان عن البقاء حية بمعزل عن جسم الإنسان فإن شغَّالة النحل تعجز عن البقاء حية بمعزل عن جسم المستعمرة.

لقد غيرت هذه النظرية التعريف التقليدي لمصطلح الفرد بعد أن وسعت تخومه ليشمل مستعمرة النحل أو النمل الأبيض. من ناحية أخرى، أثبتت بحوث الوراثة أن إيثار شغَّالات نحل العسل لنسل شقيقتهن الملكة هو نتيجة إملاء جيني لا تملك الشغالة إزاءه إلا الانصياع، وكان في ذلك دعم لنظرية أخرى صاغها العالم الأمريكي الشهير ريتشارد دوكنز وتعرف بنظرية الجين الأناني والتي تعتبر أن الوحدة الأساسية في البيولوجيا ليست هي ذلك الكائن الفائق ، ولا هي الفرد التقليدي، ولا حتى الخلية ، وإنما هي الجين ، وأن هذا الجين يتسم بالأنانية المفرطة ولا يعبأ إلا بنفسه. فما نحن كأفراد إلا وسائل يستخدمها ذلك الجين الأناني للإكثار من ذاته وإشباع نرجسيته. فالبيضة تقرر أن تفقس وتنتج دجاجة لأن هذا هو السبيل الأمثل أمامها لإنتاج المزيد من البيض، والجين داخل شغَّالة النحل يدفعها للتضحية بحياتها في سبيل رعاية صغارٍ ليسوا من صلبها، والجين داخل خلايا البشر يدفع الإنسان إلى الزواج وإنتاج المزيد من البشر، وتكبد المشاق في رعايتهم، لأن هذا هو السبيل الأمثل للإكثار من ذلك الجين الأناني!

بطبيعة الحال تظل تلك النظرة الاختزالية الشديدة لدور الفرد ومكانته موضع جدل بين علماء البيولوجيا. ولكن الأهم أنه بينما تحاول مختبرات العلم الوصول إلى إجابة في هذا الشأن، تواصل شغَّالة النحل عملها في صمت لفائدة مجتمعها، ويواصل النمل الأبيض بناء منازله، ويسهر النمس حارساً لأهله، غير عابئين بتنظيرات العلماء وتخريجاتهم.

اقرأ للعمل
فريق العمل
وتنظيم السلوك… إنسانياً
يطيب للكثيرين البحث عن أوجه الشبه بين فريق العمل في عالم الحيوان، وفريق العمل الإنساني. ولكن مقارنة الاثنين لا يمكنها أن تستخلص ما يتعدى بعض الخواطر الفلسفية أو الصور الشعرية. ففريق العمل في عالم الحيوان هو حتمية طبيعية, بمعنى أنه مؤلف ومحدد في موروثاته الجينية التي يستحيل عليه التخلص منها, أو تطويرها بقرار واعٍ. أما في عالم الإنسان ففريق العمل هو خيار. واعتماد هذا الخيار مرتبط بشرط انتماء العامل إلى منظمة, وهو على درجة من التعقيد والأهمية بالنسبة إلى الفرد والمنظمة التي ينتمي إليها إلى درجة أنه أصبح عالماً قائماً بحد ذاته ضمن العلوم الإدارية.

واحد من أفضل الكتب التي تبحث في هذا الشأن هو سلوك المنظمة – سلوك الفرد والجماعة للدكتورة ماجدة العطية, الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الشروق في عمَّان عام 2003م.

بين المنظمة والفرد
تقول المؤلفة في مقدمة كتابها إن المنظمة تتشكَّل من أجل تحقيق أهداف معينة, ويعمل الأفراد في المنظمة من أجل تحقيق أهدافهم الشخصية. ولكي يتمكن كل من الطرفين، المنظمة والأفراد، من تحقيق أهدافهما, فإن ذلك يتطلب تحقيق التوافق بين تلك الأهداف. وإذا أخذنا بعين الاعتبار اختلاف أهداف الأفراد وتغير هذه الأهداف بتغير الظروف، إلى جانب تغير أهداف المنظمة بتغير الظروف أيضاً, فإن ذلك يؤدي إلى زيادة تعقيدات العلاقة بين المنظمة والعاملين فيها.

وتضيف المؤلفة أن كتابها هو محاولة للتعرف على العوامل المؤثرة على سلوك الأفراد والجماعات التي تعمل داخل المنظمة من خلال العلاقات الإدارية وتصميم العمل والثقافة.

الجماعة وفريق العمل
وتخص المؤلفة موضوع الجماعة وفريق العمل بباب خاص في كتابها الذي يقع في 384 صفحة. وفي حديثها عن الفرق بين الجماعة والفريق تقول: إن الجماعة تتكون من فردين أو أكثر، يتفاعلون ويعتمدون على بعضهم البعض ويسعون إلى تحقيق هدف معين. فجماعة العمل تتفاعل أساساً للمشاركة بالمعلومات ولاتخاذ قرارات تساعد كل عضو من الأعضاء على الأداء ضمن مجاله في المسؤولية. وبذلك فإن أداءها هو فقط عملية تجميع المساهمات الفردية، ولا يظهر أثر تجميع إيجابياً يؤدي إلى تحقيق مستويات أداء كلية أكبر من مجموع مداخلات الأفراد. أما فرق العمل, فإنها تخلق أثر تجميع إيجابياً من خلال تنسيق الجهود. وتؤدي الجهود الفردية للأعضاء إلى تحقيق مستوى أداء أكبر من مجموع المدخلات الفردية.

وتقول المؤلفة في موضع آخر، إنه قبل ربع قرن من الزمن، عندما طبقت شركات مثل فولفو و الشركة الغذائية العامة أسلوب فرق العمل في عملياتها الإنتاجية، شكَّل الأمر خبر الساعة، ذلك لأن هذا النمط من العمل لم يكن مستخدماً في مكان آخر. وقد تغير الحال اليوم عما كان عليه سابقاً. فالمنظمات التي لاتطبق أسلوب فرق العمل أصبحت هي الحالة الاستثنائية.لا بل أدرجت شركات كبرى مفهوم روح الفريق ضمن القيم الأساسية التي توجه سير العمل فيها.

أضف تعليق

التعليقات