حياتنا اليوم

على إيقاع الصمت!

لقد ظَلَم ضجيج المدينة الصوت، لدرجة أن البعض قد صنَّفه في خانة الضوضاء بالدرجة الأولى، ولا غرابة في ذلك، فمن يعيش في المدينة -وهي حالة النسبة العظمى من البشر اليوم- لا يسعه إلا أن يصل لمثل هذه النتيجة. إن المدن تهتز بإيقاع الأصوات. بين ضجيج الشوارع والطائرات، ورنين الهواتف والأجراس، وصخب موسيقى الإيقاع المتلاحقة على برامج المحطات الفضائية من الصباح إلى آخر الليل.

إنها ليست أصواتاً تصل إلى الأذن وحدها، بل تحيط بالإنسان بكامله. تصله عبر ارتجاجات الجدران والنوافذ، وتتسرب من كل اتجاه، وهذا ما دفع إلى ظهور حملات الاحتجاج على التلوث الصوتي .

لا يعرف المرء حجم ووقع الصوت الذي يحيط به في حياة المدينة، إلا حين يتجه إلى بلدة نائية. ومع ذلك قد يجد هناك قدراً من الصوت، مهما كان ضئيلاً، يستطيع قياسه إذا ما اتجه إلى الخلاء التام في كنف هضبة أو صحراء ممتدة. هناك فقط يشعر بما زال عن كاهله من آثار الضجيج، المخفي حيناً والصريح حيناً آخر، الذي يتعرض له في المدينة. ويشعر براحة واسترخاء غريبين وكأنه يطفو في مكان بلا جاذبية. وفي هذا الخلاء يكاد يستطيع أن يستمع إلى الصمت ويستمتع به.

وكم من أديب وشاعر تغنى بالصمت، وياليت الإنسان يستطيع أن يعزف الصمت كما يعزف الصوت، لكن الصمت أعصى على العزف، لا تحصل عليه إلا بالمقارنة.

ومن يستمع إلى الموسيقى في أشكالها الراقية، يلاحظ لحظات توقف العزف، يقصد منها الملحن أن يجعل للصمت وقع اللحن. لا بل هو يجعل لحظة الصمت تواكب لحظة اللحن كي تعزز وقعها. وفي حفلات الموسيقى الحية هناك لحظة صمت بالغة القيمة هي بين نهاية المقطوعة أو الأغنية وتصفيق الجمهور. وبقدر ما يترجم الجمهور حماسه للأداء الموسيقي بتصفيق مبكر أحياناً، إلا أنه في أحيان أخرى يترك الجمهور للحظة صمت، وذلك قبل أن يبدأ بالتصفيق. فالصوت الجميل له وقع. والصمت البليغ له وقع أيضاً. والظلم الذي أصاب الصوت هو نفسه قد يصيب الصمت.

إن ما لحق بالصوت من ظلم يتعدى الأصوات الجميلة، سواء أكانت تلك التي يصنعها الإنسان في آلاته الموسيقية أو تلك التي تنتشر في البيئة الطبيعية مثل خرير المياه وحفيف أوراق الشجر وتغريد العصافير وغيرها. علماً بأن هناك آلات غير موسيقية ، إذا جاز التعبير، حين نسمعها بمفردها وفي جو هادئ يمكن أن تمتع وتطرب، حيث يشكل التكرار الآلي المتصل إيقاعاً مريحاً للنفس، فالظلم أصاب الصوت نفسه، أي صوت.. لدرجة أصبح معه توقنا إلى الصمت يفوق شوقنا للصوت مهما كان جميلاً. وهذا ظلم للصوت وللصمت معاً. إذ يصبح الصمت مجرد غياب صوت وهو أكثر بكثير من ذلك. ففي الصوت صمتٌ مخفي يزيد من جماله، وفي الصمت صوت مخفي.. أو ربما أصوت . ونحن نحتاج إلى الإثنين، بعيداً عن ضجيج المدينة.

أضف تعليق

التعليقات