قصة مبتكر
قصة ابتكار
جورج إيستمان
الملعقة المسنَّنة
ولد جورج إيستمان في ولاية نيويورك عام 1854م، وأوقف عن الدراسة الثانوية عندما كان في الرابعة عشرة من عمره لأنه «غير موهوب بشكل لافت»، فاضطر إلى العمل حاجباً في شركة تأمين لإعالة أمه الأرملة وشقيقتيه. ومن ثم انتقل إلى العمل حاجباً أيضاً في أحد المصارف.
كان إيستمان في الرابعة والعشرين من عمره عندما خطَّط لرحلة إلى جمهورية الدومينيكان. ونصحه أحد معارفه في العمل بتسجيل مشاهداته، الأمر الذي وضع إيستمان لأول مرة أمام آلة التصوير الفوتوغرافي التي كانت في زمنه بحجم فرن الميكروويف اليوم، وتعتمد على الشرائح الرطبة لالتقاط الصور. لم يسافر إيستمان إلى الدومينيكان، ولكنه شغف بآلته الجديدة. وقرأ ذات مرة في إحدى الصحف أن المصورين في بريطانيا يصنعون شرائح التصوير الرطبة بأنفسهم. فتعلَّم صناعتها، وشاء تطويرها لتصبح جافة. وطوال سنوات ثلاث، كان إيستمان يعمل نهاراً في المصرف، وينصرف ليلاً لتطوير شرائح التصوير، حتى تمكَّن من إنتاج شريحة جافة. ثم بدأ ببيع ابتكاره لباقي المصوِّرين. وعندما استأجر مكتباً لذلك، واضطر إلى شراء محرك كهربائي بقوة حصانين، علَّق على الأمر بقوله: «إني بحاجة إلى محرك بقوة حصان واحد، ولكن من الممكن أن تزدهر الأعمال في المستقبل وأستفيد من قوة الحصانين»!.
تفانى إيستمان في عمله وفي تطوير مستلزمات التصوير، فابتكر لاحقاً لفافة الفلم عام 1885م، التي تسهِّل التقاط عدة صور من دون تبديل الشريحة بعد كل صورة. وهو الابتكار الذي لولاه لما كان هناك تصوير سينمائي. وفي العام 1892م، أسس شركة «كوداك» لصناعة آلات التصوير المحمولة، ذات العدسة الثابتة، لينقل بذلك التصوير الفوتوغرافي من عالم النخبة والهواة إلى كل من يشاء من عامة الناس. وقالت حملته الترويجية للاختراع الجديد: «عليك أن تضغط على الزر فقط، ونحن نتولى الباقي». وبفعل متابعة إيستمان لأدق تفاصيل العمل في مؤسسته، تمكَّن من إيصالها إلى قمة النجاح، وترويج منتجاتها في العالم بأسره، قبل أن يتوفى عام 1932م، ووصفته صحيفة نيويورك تايمز آنذاك في افتتاحيتها بأنه أحد كبار الأساتذة في صياغة العالم المعاصر.
جمع ايستمان من نجاح أعماله وابتكاراته ثروة عملاقة. كما جمع إلى عقله العلمي والإداري كرماً عزَّ نظيره. إذ بلغ مجموع التبرعات التي قدَّمها للمؤسسات الإنسانية والتعليمية نحو 75 مليون دولار وهي ثروة أسطورية بمقاييس ذلك الزمن. إلى ذلك اعتبر إيستمان رائداً في الإدارة الحديثة، إذ لم يسبقه أحد إلى معاملة أصغر العمال شأناً بمثل الاحترام والتقدير الذي عامل بهما العمال والموظفين في مؤسسته. وكانت نظريته تقول إن الابتكار ورأس المال لا يكفيان لنجاح الشركات، فلذلك لابد من إخلاص العمال. وهكذا، على سبيل المثال، قام في العام 1919م بتوزيع ما قيمته عشرة ملايين دولار من أسهمه على العمال والموظفين في كوداك. «لأنه لا يجب أن يُكتفى بدفع الرواتب العادلة. فالإنتاج الجيد يتطلب أكثر من ذلك». ومثل هذه النظرة لم تكن فقط ريادية في ذلك الزمن، بل تكاد أن تكون عكس المتعارف عليه في العالم.
ثمة أداة لتناول الطعام لا عهدة لنا بها، بدأت تطالعنا أكثر فأكثر، وخاصة في مطاعم الوجبات السريعة. إنها الملعقة المسننة عند طرفها.
فبعد الملعقة المعروفة منذ فجر التاريخ في كل الحضارات، والشوكة التي ظهرت ملامحها الأولى قبل نحو ألفي سنة، ونجح الأوروبيون في ترويجها بعد القرن السادس عشر، تظهر اليوم هذه الأداة الجديدة التي هي نصف ملعقة ونصف شوكة، ولهذا سميت رسمياً في براءتي الاختراع عند تسجيلها «سبورك»، والكلمة مؤلفة من النصف الأول لاسم الملعقة والنصف الثاني من اسم الشوكة بالإنجليزية (spoon, fork).
وهذا الابتكار ليس جديداً تماماً، ولكن رواجه تطلب وقتاً يناهز القرنين من الزمن. فقد ظهرت أداة مشابهة كانت مخصصة لتناول المثلجات في أمريكا في مطلع القرن التاسع عشر، وتم تسجيلها كاختراع جديد في العام 1874م، ولكن اسم «سبورك» لم يظهر إلا في مطلع القرن العشرين. واستناداً إلى صحيفة نيويورك تايمز في 20 ديسمبر 1952م، حاول شخص من بنسلفانيا تسجيل اسم «سبورك» كعلامة تجارية، ولكن ذلك لم يُحفظ في السجلات، لأن شركة «بلاستيكو» البريطانية هي التي سجلت الاسم في العام 1975م، في المملكة المتحدة.
والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الابتكار هو جمع أداتي طعام في واحدة تسمح باستعمالها كشوكة وكملعقة في أنٍ واحدٍ. وإضافة إلى أنها سهَّلت تناول بعض الأطعمة التي تختلط فيها الأجسام الصلبة بالسائلة أو شبة السائلة، وجدت فيها مطاعم الوجبات السريعة أداة توفير عملية، تختصر تكلفة الأدوات التي تقدِّمها مجاناً مع الوجبة، إذ صارت ترفق وجباتها بـ «سبورك» بدلاً من ملعقة وشوكة.
إضافة إلى ذلك، وجد هذا الابتكار قبولاً في السجون، حيث يختصر عدد الأدوات المعدنية بين أيدي السجناء، وخاصة الشوكة التقليدية ذات الأسنان الطويلة التي يمكن استخدامها كسلاح. كما لقي الابتكار نفسه رواجاً في الثكنات العسكرية، وحيثما ظهرت الحاجة لتخفيض المصاريف والمجهود المبذول على التنظيف.
وبسبب طابعها العملي، وبعدما كانت الـ «سبورك» تنتج بشكل عام من البلاستيك للاستخدام مرة واحدة في مطاعم الوجبات السريعة، صارت تصنع من الستنلس ستيل والألومنيوم والتيتانيوم للاستخدام الدائم في البيوت. وفرضت نفسها حتى على أعرق دور صناعة أدوات الطعام الفاخرة من الفضة في فرنسا وبريطانيا.
|