ديوان اليوم

جنون العظمة
عند الشعراء.. جميل

يستضيف «ديوان الأمس.. ديوان اليوم» في هذا العدد الشاعر السعودي محمد رضي الشماسي، الذي يقدِّم لنا مختارات من أبرز ما قيل في الشعر العربي في فن الفخر والاعتداد بالذات قديماً وحديثاً، إضافة إلى قصيدة له بعنوان «أيها الشاعر» لديوان اليوم.

النرجسية كلمة حديثة معربة، وما تحتها من اشتقاقات معنوية متعددة مثل الاعتداد بالنفس، وجنون العظمة، الكبرياء، التكبر والمرح، والاختيال؛ كل هذه الكلمات تعبّر عن ظاهرة بشرية، غالباً ما تكون عند الموهوبين وأصحاب الفنون الراقية كالعلماء والأدباء والشعراء والرسامين وغيرهم ممن هم على هذا النمط.

تظهر هذه السمة بوضوح لدى المثرثرين بكلمة (أنا) فتكاد لا تسمع منهم إلا عبارة (أنا كتبت) أو (أنا نظمت) أو (أنا ألّفت) و(أنا عملت وأنا فعلت…). وهذه ظاهرة غير محمودة، ينفر منها السامع والقارئ. ولعلها ثرثرة يريد منها صاحبها أن يبني منها مجداً كاذباً. أما الأثر المحمود من هذه الظاهرة فهو ما يأتي أدباً وشعراً، تفيض به قرائح الشعراء تعبيراً عن مكنونهم الفني الراقي الذي قد لا يرون له أثراً في محيطهم وبين بني سحنتهم، أو لأنهم يعيشون النرجسية مظهراً سلوكياً يفرضه عليهم إحساسهم بالفوقية والتفوق؛ فأبو العتاهية مثلاً عندما سئل: أتعرف العروض؟ قال: «أنا أكبر من العروض»، كما قال عن نفسه: «لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت».

وقد جاء في تاريخ الشاعر أبي تمام أنه قيل له: لماذا لا تقول ما يفهم الناس؟ فكان جوابه: «ولماذا لا يفهم الناس ما أقول». وقد جاءت هذه العبارة مرة أخرى على لسان المرحوم عباس محمود العقاد عندما وُجِّه إليه السؤال نفسه. أما في ذلك الخليط من الشعراء فإن ظاهرة النرجسية أو الاعتداد بالنفس؛ فإنها تكون أكثر بروزاً، ولعلها تصل لدى بعضهم إلى حد الجنون (جنون العظمة).

وبنظرة شاملة في ديوان الشعر العربي؛ ابتداءً من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث؛ نرى عدداً من الشعراء تكبر في نظرهم نفوسهم، وتشمخ في مفاهيمهم مواهبهم، فهذا عنترة بن شداد، فارس بني عبس يقول مفتخراً بنفسه: (جواهر الأدب لأحمد الهاشمي)
ولو أرســلت رمحـــي مع جبــــان
لكــان بهيبتي يلقى الســباعا
ملأت الأرض خوفاً من حسامي
وخصمي لم يجد فيها اتساعا
إذا الأبطــال فـــرت خوف بأسـي
ترى الأقطــار باعاً أو ذراعا

وفي قصيدة أخرى يقول:
ورمحي ما طعنت به طعـــيناً
فعاد بعينه نَظَــرَ الرشــادا
ولولا صارمي وسنان رمحي
لما رفعت بنو عـبسٍ عمادا

لا أريد الاسترسال في هذا الموضوع فأقوم بعملية مسح زمني ماراً على جميع العصور الأدبية عصراً فعصراً أو شاعراً فشاعراً، وإنما هي أمثلة أسوقها على هذه الظاهرة النفسية لدى الشعراء، وقد أتخطى بعض العصور كالعصر الأموي مثلاً، وهو عصر زاخر بالفخر، وهو عصر أصحاب النقائض (الأخطل والفرزدق وجرير) الذين ملأوا الساحة الأدبية حينئذ بفخرهم ومدحهم وهجائهم.

ثم إن الشعراء الماضين -في عامتهم- كانوا يفتخرون بالقبيلة أو العشيرة، وإن كان الواحد منهم يدخل ضمناً في مجموع القبيلة أو العشيرة، حتى إن مفهوم الفخر في فحواه التاريخي لم يعد من أدبيات العصور المتأخرة، شأنه شأن الهجاء كباب من أبواب الشعر العربي القديم، فنحن اليوم لا نقرأ – غالباً – شاعراً يفتخر وآخر يهجو، أو ديواناً يُبوّب في الفخر، وآخر يُبوب في الهجاء. وإنما الذي نجده ونقرأه هو الفخر بالنفس، الذي نطلق عليه الاعتداد بالنفس، أو جنون العظمة، أو الكبرياء، أو التكبر أو المرح (من قوله تعالى: ولا تمش في الأرض مرحاً)، أو حسب التعبير الحديث (النرجسية) وهذا اللفظ هو جُماع كل تلك الألفاظ التي جاءت على نسق واحد من المعنى.

أكتفي بذكر شواهد من شاعرين قديمين هما المعري والمتنبي، ومن العصر الحديث: الجواهري وبدوي الجبل وأبي ريشة، ثم صاحب هذا الموضوع وإن كنت أنا خارج سربهم، ومتطفلاً على موائدهم.

مع أبي العلاء المعري
يقول أبو العلاء المعري:
وإني وإن كنـت الأخيرَ زمـانُه
لآتٍ بما لمْ تستطعه الأوائــــل
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي
على أنني بين الســماكين نازل
لدى موطن يشـتاقه كل سـيد
ويقصر عن إدراكـه المتنــاول
ينافس يومي فيّ أمسي تشــرفا
وتحسد أسحاري عليَّ الأصائل

ولكن هذا الشاعر المعتد بنفسه وبمنطقه، والذي امتلأ غروراً وكبرياء وحتى أمام أكابر عصره وعظماء فنه وفلسفته كالشريفيين الكبيرين في علمهما وأدبهما: الشريف المرتضى والشريف الرضي، أعجزه غلام عندما قال له: ألست القائل: وإني وإن كنت الأخير زمـانُه / لآتٍ بما لمْ تستطعه الأوائل قال المعري: بلى .. قال الغلام. حروف الهجاء 28 حرفاً فأتِ لنا بالحرف التاسع والعشرين. أجاب المعري: لقد أعجزني هذا الغلام.

ومع المتنبي
أما الشاعر الذي فاق المتقدمين والمتأخرين في الاعتداد والشموخ والنرجسية بكل ما لهذه الكلمات من ظلال معنوية وإيحاء نفسي، فهو الشاعر الفذ المتنبي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ملأ الدنيا بشهرته، وشغل الناس بشعره. لقد تعددت أقواله الاستعلائية بتعدد مواقفه، فلا يكاد يقول قصيدة، إلا وتجد (الأنا) إحدى نغمات شعره وبنات أفكاره. يصدح بها حتى في مجالس الحُكَّام وبين العلماء وأرباب الشعر ونقاده.
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأســمعت كلمـاتي مــن به صــمم
الخيل والليل والبيــداء تعرفنــــــــي
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تســعى به قــدم

هذه الأبيات من قصيدة قالها بين يدي سيف الدولة الحمداني، وفي حضرة جمع من العلماء والشعراء، فلم يهب مقام سيف الدولة، ولم ترعه هيبة المجلس، حتى وقف بشموخ ليقول:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم

وفي موقف آخر مع سيف الدولة، يقول وهو يهنئه بعيد الأضحى:
وما أنـــا إلا ســــمهري حملتــه
فَزَيــَّنَ معروضـــاً وراع مســددا
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فســـار به من لا يسـير مشــمراً
وغنى به من لا يغـــني مغــــردا
أجزني إذا أنشـــدت شـــعراً فإنما
بشــعري أتاك المادحــون مردَّدَا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى

وهذا البيت الأخير يأخذ بذاكرة مستقرئ ديوان المتنبي إلى قوله:
أفي كل يوم تحت ضـبني شـويعر
ضعيف يقاويني قصــير يطـــاول

واستعلاء المتنبي لا ينتهي في شعره، وكأنه هو المعلم الأول لهذا الضرب من القول، لكل من جاء بعده من الشعراء أصحاب النزعة النرجسية.

وأختم قولي في نرجسية هذا الشاعر الفذ بقوله في شعره:
إن هذا الشــعر في الشعر مَلـَك
ســار فهو الشمس والدنيا فلك

وفي العصر الحديث..
مع الجواهري
وتخف حدة النرجسية أو تكاد لدى الشعراء المتأخرين، بلغت ذروة توهجها لدى المتنبي، وخبت عند المتأخرين، حتى لا نكاد نراها في مضامين أشعارهم، وخصوصاً الكبار منهم، فهذا الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، لم أجد في مطولاته وفي شعره الكثير إلا القليل النزر من نرجسياته، كمثل قوله في قصيدة «يا ابن الفراتين» التي ألقاها في مهرجان الشعر العربي ببغداد عام 1969م:
يا شاتميَّ وفي كفي غلاصمهم
كموسع الليث شـتماً وهــو يُزدرد
أتلطمون جـبين الشمس إن قذيت
عيــونكم فبها من ضوئها رمـــد

وفي قصيدته (هاشم الوتري) وهي مطولة (131 بيتاً) تبرز نرجسيته في قوله:
وتقول كيف يظـــل «نجــم» ساطع
ملء العيون عن المحافــل غائبا
كذبوا فملء فـــم الزمــان قصـائدي
أبداً تجــوب مشـارقاً ومغــــاربا
تســـتل من أظفارهم وتحط مــن
أقـــدارهم وتثُّل مجــدا كـــــاذبا
أنا حــــتفهم ألج البيــــوت عليهــــــم
أغري الوليد بشــتمهم والحاجبا

وما قول هذا الشاعر الجواهري: «كذبوا فملء فم الزمان قصائدي» إلا صدى من قول المتنبي:
وما الدهر إلا من رواة قصـائدي
إذا قلت شــعراً أصبح الدهر منشدا

وإن قلت الشواهد الشعرية على كبرياء هذا الشاعر وجنون عظمته، فإن تقريظه لنفسه يوفر علينا كثيراً من الجهد في استقراء نرجسيته من خلال ديوانه الضخم ومطولاته الشائكة الشائقة، يقول (رحمه الله): (أكبر شاعر في هذا العصر بدوي الجبل وشاعر آخر). وما هذا الشاعر الآخر الذي لم يَفُه باسمه إلا الجواهري نفسه.

ومع بدوي الجبل
بدوي الجبل هو الآخر شاعر معاصر توفي عام 1981م. شاعر سوريا الكبير، ومن أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث.

لم يستطع هذا الشاعر العملاق التفلُّت من جنون العظمة والاستعلاء. وكيف يتفلت وهو يرى نفسه محاصراً بسياج من المعجبين والمصفقين، فهو مثل ذينك الشاعرين الجواهري وأبي ريشة اللذين تسبقهما شهرتهما إلى المحافل الأدبية الكبيرة.

يقول البدوي:
الخالدان – ولا أعد الشمس – شعري والزمان
ويقول في قصيدة أخرى:
كل مجد يفنى ويبقى لشعري
شرف باذخ ومجد أثيل

وفي قصيدة ثالثة يقول:
فمن مبلغ عني الشــــباب قصــيدة
يُجلي بها مُلك ويُحمى بها ثغـــر
تطـــوِّف في الدنيا الوســــــــاع كأنمــــــــا
هي الخضر أو يروي شواردها الخضر

استعلاء الشاعر بشعره كاستعلائه بنفسه وكلاهما من وحي آلام العبقرية التي يحس بها هؤلاء الأفذاذ فتظهر على فلتات أشعارهم بعد معاناة تنصهر في داخل وجدانهم. والمحيط الخارجي هو المسؤول عن هذا الفيض الوجداني، إيجاباً كأن يرى الشاعر مدى أهميته في وسطه الذي يعيش فيه، أو سلباً كأن يرى نفسه يعيش في قاع المحيط وليس في أعاليه.

فشاعرنا بدوي الجبل من شعراء الصنف الأول – طبعاً – فإذا استعلى، أو (تنرجس) فهو حري وجدير بهما، لا أحد يستطيع أن يقول له: أنت من أدعياء النرجسية. وفي هذه الأدبيات صدى من قول المتنبي:
وما الدهر إلا من رواة قصـائدي….
فسار به من لا يسير مشمراً …..

ذلك نموذج من استعلائه الشعري أما استعلاؤه النفسي فظاهر في قوله:
وما حاجتي للنــور والنور كامــن
بنفســـي لا ظــــلٌ عـــليه ولا ســـــــتر
وما حاجتي للأفق ضحيان مشـرقاً
ونفسي الضحى والأفق والشمس والبدر

ويكفي بدوي الجبل في عظيم شأنه قولة الجواهري: «أكبر شاعر في هذا العصر بدوي الجبل وشاعر آخر» ..

ومع عمر أبو ريشة
عمر أبوريشة ثالث الثلاثة الذين تألق بهم الشعر العربي الحديث. وهو ممن شمخوا بالشعر وشمخ الشعر بهم. يقول أبوريشة معتداً بنفسه:
رب ما زلت ضــــاربا
من زمــاني تمرده
صغــر اليأس لن يرى
بينَ جفنيَّ مقصــده

ويقول في قصيدة «عنفوان»:
لم ترتشــــــف دمعي شـــفاه الهـــوانْ
ولم ينـــــــاد المجــــد هــــــــذا جبــان
فاعصـــــــــــــف فإنـــــي صخرة يا زمـان

طلعـت في دنيـــــــاي عـــــــــــــــــــفَّ الرداء
ومــــــلء جـــــــنـــــــــــــبيَّ انتفـــاض الإبـــــاء
أمشــي ويمشـي في ركابــــي الرجــــــاء

وقال في قصيدة «هذه أمتي» بعد خروجه من السجن:
شاعر لو شــكا الحيــاة لكــانت
ســروات الملوك من ندمـــانه
أقسم المجد أن يمر على الأرض
ونجـــوى الإباء خلف لسانه
عاد للــروح عندليبك يا شـــعر
ومات النعـــيب في غربانه
وقال في قصيدة «عرس المجد»:
يا عروس المجد حسبي عزة
أن أرى المجد انثنى يعتز بي
رب لحنٍ سال عن قيثــــارتي
هز أعطاف الجهــاد الأشيب

أضف تعليق

التعليقات