عندما يدور الحديث عن الفن الإسلامي بشكل عام، فغالباً ما تتجه الأنظار إلى منجزاته الكبيرة في مجالات مثل العمارة والخط والمنمنمات وما شابه. ونادراً ما يدور الحديث عن مجالات أخرى قد تكون بقيت في الظل مقارنة بغيرها، لا لشيء، إلا لأنها أصغر حجماً، أو لأن اكتشاف عبقريتها الفنية يتطلب بعض الجهد. ومن أبرز هذه المجالات عالم الأدوات العلمية وصناعتها.
الدكتور رباح مسعود ووليد العجمي يسلطان الضوء هنا على عالم هذه الأدوات الصغيرة والمكانة التي يحتلها الفن في صناعتها، سواء أكان ذلك على مستوى زخرفتها، أم على مستوى تصميمها ككل، بحيث باتت الأداة الواحدة تستأهل اليوم مكانها في المتاحف العلمية أو الفنية على حد سواء.
في طريق ضيِّق متفرع من سوق الحميدية الشهير في دمشق، يقوم مبنى حجري، ذو باب تعلوه المقرنصات. إنه «البيمارستان النوري» أو المستشفى الذي بناه نور الدين زنكي في القرن الثاني عشر الميلادي، وتحوَّل اليوم إلى متحف لتاريخ الطب والعلوم عند العرب.
ومن يجول في قاعات هذا المتحف المتوسط الحجم، يشعر وكأنه يتأرجح ما بين تاريخ العلوم وتاريخ الفنون. فالنصوص التي تشرح ما هية المعروضات تتحدث عن وظيفتها الطبية أو العلمية، ولكن ما تراه العين يتجاوز ذلك. فالأدوات النحاسية غالباً ما تكون مزدانة بزخارف لا علاقة لها بوظيفتها، والأشكال العامة لبعض القطع تبدو مصاغة وفق إحساس بالتناسق يتجاوز الوظيفة المطلوبة من هذه القطعة أن تؤدي (مثل أجران سحق الأعشاب والأدوية). وقد يبلغ المزاج الفني ذروة رضاه عما تراه العين في رسوم المخطوطات الطبية والعلمية، بحيث لا يعود الذهن مكترثاً بـ «المعلومات» الواردة فيها، بقدر ما ينصبّ الاهتمام على جماليات الرسوم وألوانها وأناقتها.
سقنا هذه المقدمة للإشارة إلى الطابع الفني والجمالي الذي أسبغه العلماء والحرفيون المسلمون على أدوات علمية وعملية كان يمكنها أن تكتفي بأقل من ذلك.
إشكالية العلاقة بين الوظيفة والشكل
لكي نفهم عبقرية تزاوج الفن والعلم في الأدوات العلمية الإسلامية يمكننا أن ننطلق من واقع الأدوات العلمية في العصر الحديث، وهو، شئنا أم أبينا، مصاغ وفق «فلسفة» الصانع الغربي عموماً.
تفرِّق «الفلسفة» أو «الرؤية» الغربية ما بين «الفن» و«الصناعة» و«الحرفة»، وتقسم الفن إلى مراتب منها «الفنون الكبرى» مثل العمارة والرسم والنحت، و«الفنون التطبيقية» التي تسمى أحياناً «الفنون الصغرى» مثل حفر الميداليات وزخرفة الأطباق والأدوات التزيينية وما شابه ذلك. ومنذ بداية الثورة الصناعية، وبداية الإنتاج بالجملة للبيع إلى الجمهور العريض، حصل ما يشبه التوفيق ما بين وظيفة الشيء وشكله الخارجي، الذي كلما كان جميلاً كلما ازدادت جاذبيته وراج أكثر من المنتج القادر على تأدية الوظيفة نفسها إن كان أقل جمالاً. وهكذا ظهر «فن التصميم».
في الحضارة الإسلامية تختلف هذه الفلسفة تماماً. إذ لم يصنف المسلمون الفنون إلى كبرى وصغرى، ولم يرسموا أي حدود ما بينها. وأكثر من ذلك، فإلى جانب «العلم» الذي يعني المعرفة والدراية بحقيقة الأمور، فإن ما نسميه اليوم فناً كان العرب قديماً يسمونه «الصناعة» أو «الصنعة»، وممارسه هو «الصانع»، أما التقنية والمهارة في استخدامها، فهي ما سماه العرب «الفن». وهذه الرؤية المميزة والخاصة جداً هي التي سمحت للعرب والمسلمين بردم الهوة القائمة ما بين الجمال ووظيفة الشيء، لا بل مكنتهم من إيجاد تناغم وتكامل ما بينهما، وبشكل أعمق وأوضح حتى مما وصل إليه فن التصميم الصناعي الحديث الذي يبقى مقتصراً على السلع الاستهلاكية الموجهة إلى الجمهور، في حين أن تصميم الأداة العلمية الإسلامية كان غاية بحد ذاته لا يسعى إلى إرضاء أي جمهور غير صاحب القطعة ومستعملها، الذي غالباً ما يكون صانعها في الوقت نفسه.
الرياضيات في خدمة الفن
كان علم الرياضيات، وتحديداً الهندسة الأوقليدية، من أول العلوم التي شغف بها العرب. فترجموا المؤلفات اليونانية فيها، ولكنهم، وبسرعة، تجاوزوا في الاستفادة من هذا العلم ما كان قد توصل إليه اليونانيون. وكانوا السباقين إلى تسخير الرياضيات في مجال الفنون. فالأشكال الهندسية البسيطة كانت منطلقاً إلى تصميم أشكال أكثر تعقيداً استخدمت لاحقاً في فن الزخرفة الهندسية. أما الحسابات الرياضية المعقدة فقد سمحت لهم ببناء القباب والأقواس والمقرنصات.
واستطراداً، نشير إلى أن الفن الهندسي أو الأرابيسك، الذي يبدأ تأليفه من شكل هندسي بسيط يتكرر ليشكل متاهة هائلة من الخطوط والأشكال الهندسية المتداخلة، يبقى بصرياً وحدة واحدة، فمجموعة كبيرة من المثلثات مثلاً تبقى تؤلف مثلثاً واحداً.. فقد رأى الفنان المسلم في هذا الفن تعبيراً رمزياً للتوحيد بكل أبعاده. وانتشار الزخرف الهندسي بهذا الشكل في العمارة الإسلامية يدل على استيعاب العامة لهذا المعنى. ولذا كان من الطبيعي أن يُسقَط هذا الفن على مجالات أخرى غير العمارة، ليصبح أقرب إلى توقيع الفنان – الحرفي المسلم، أياً كان مجال عمله وإنتاجه. وفي المكتبة الوطنية في فرنسا، توجد مخطوطة لمؤلف مسلم مجهول، بعنوان «مدخل إلى الأشكال المتشابهة والمتناغمة» ومن مقدمة الكتاب نفهم أن مؤلفه يتوجه به إلى الحرفيين.
العصر المفصلي للمعادن والمخطوطات
يعد القرنان العاشر والحادي عشر الميلاديين، فترة مفصلية في مجال تزاوج الفن بالعلوم عند العرب.
ففي العام 973م، ولد العالِم العربي الكبير أبو الريحان البيروني، الذي انتهى في العام 1035م، من تأليف كتابه الشهير «الجماهر في معرفة الجواهر» الذي يصنف فيه عدداً كبيراً من المعادن الثمينة، وسبق العالم الفرنسي لافوازييه بثمانية قرون إلى دراسة الثقل النوعي للعناصر. وإضافة إلى التصنيف، يتضمن كتاب البيروني وصفاً للمعادن الصالحة للاستخدام في الفن والصناعة.
أعطى كتاب البيروني دفعاً كبيراً طوَّر كل تقنيات الصناعات القائمة على المعادن الطبيعية بدءاً بصهر الفضة والذهب وانتهاءً بصناعة الخزف والطلاء بالميناء.
ويرجح المؤرخون أن صهر المعادن واستنباط معادن مركبة كان قد أصبح فناً قائماً بحد ذاته في تلك الفترة وخاصة في بلاد فارس وشرقيها. ولكن الغزو المغولي في القرن الثاني عشر، دفع بالحرفيين المهرة باتجاه الشام ومصر، حاملين معهم مهاراتهم في صنع الفولاذ وتكفيته بالفضة والذهب. وفي تلك الفترة، وربما في دمشق، ظهو الفولاذ ذي الكثافة العالية من الكربون، والصلب جداً، لصناعة السيوف، وسمي هذا الفولاذ بالجوهر. ونظراً لصلابته، وأيضاً لتكلفة إنتاجه المرتفعة نسبياً، صار لاحقاً (بعد انتهاء الحروب الصليبية) المعدن المعتمد لصناعة المقصات ومباضع الجراحين وأدوات الكتابه وما شابه ذلك.
ومن الصدف العشوائية التي تعزز مكانة القرن الحادي عشر كمفصل تاريخي، هو أن أول مخطوط عربي مصور وصل إلينا هو مخطوط علمي في علم الفلك لعبدالرحمن الصوفي، أنجزه ابنه عام 1009م. وتم نسخه مئات المرات خلال القرون التالية، وصولاً إلى النسخة المحفوظة في المكتبة الوطنية في فرنسا والتي كتبت ورسمت في سمرقند حوالي العام 1430م.
ولم يقتصر رسم الأجرام السماوية ومواضعها بالنسبة إلى بعضها على المخططات، بل امتد ليطال أطباق السيراميك والنحاس. وقد شكلت مجموعة مما وصلنا من هذه الأعمال مادة معرض خاص أقيم في متحف اللوفر في فرنسا.
وفي العام 2005م، أقام معهد العالم العربي في باريس معرضاً بعنوان «العصر الذهبي للعلوم العربية»، وفي الكتاب المرافق للمعرض، كتب الباحث إيف بورتر فصلاً بعنوان «الفنون والعلوم» يقول فيه: «إن العلوم، وبشكل خاص في مجال الفلك، تعطي الفن الإسلامي قيمة توثيقية مهمة. إن المخطوطات العلمية المصورة تُعد بالمئات، وإذا كنا نتطلع إلى قيمة رسوماتها على أنها أمثلة توضيحية، فلا يجب التنكر لكون هذه الرسوم من إنتاج فنانين حقيقيين».
الرسوم «ما فوق الوثائقية»
ما يقوله بورتر عن مخطوطات علم الفلك ينطبق بشكل أوضح على المخطوطات الطبية. فقد اعتنى الأطباء العرب بشرح ما توصلوا إليه في العلوم من خلال إضافة رسومات توضيحية إلى مخطوطاتهم. وعلى الرغم من أن القيمة الأساسية لبعض هذه الرسومات عندما تكون متعلقة بجسم الإنسان هي في الدرجة الأولى علمية، فإن المتأمل فيها لبعض الوقت يلاحظ مدى العناية التي أولاها الطبيب للخط واللون وتوزع عناصر الرسم على الصفحة. ولكن إذا كان اكتشاف هذه النزعة الفنية يتطلب حساسية معينة عند المشاهد، فإن رسوم الأعشاب والنباتات والزهور الطبية تكاد تتباهى بقيمتها الفنية على حساب قيمتها العلمية.
إن رسوم النباتات والأعشاب الطبية التي أبرزها الفنانون-الأطباء لمخطوطاتهم، تعد اليوم أقدم ما وصلنا من فن «الرسم التوثيقي»، رغم أن أقدمها يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي.
ويهدف هذا الفن الذي لم يزدهر في أوروبا إلا بعد عصر الرحلات والاكتشافات الكبرى في القرن السابع عشر، إلى رسم النبات أو الحيوان بدقة كبيرة بحيث تبدو صورته مشابهة حتى أقصى حد ممكن لما هو عليه حقيقة. ومن يقارن اليوم رسوم الأعشاب والزهور والحيوانات في المخطوطات الطبية العربية، بالرسوم التوثيقية التي أنجزها الأوروبيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يلاحظ فوراً فرقاً كبيراً يتمثل في حضور المزاج الشخصي للفنان المسلم، وانعكاسه على الرسم، بخلاف ما هو واقع الحال في الرسوم الأوروبية. بحيث لا يعود من المبالغة القول إن الرسوم الإسلامية في هذا المجال هي «ما فوق التوثيقي». إنها أعمال فنية متكاملة، ذات قيمة تتجاوز إلى حد كبير قيمة المعلومات التي تحملها، ولا تزال قادرة على مخاطبة الوجدان بخطاب حي، حتى بعد قرون من فقدانها لبريق الاكتشاف العلمي أو حداثة المعلومة التي تحملها.
مبدأ النافع الجميل
إن معظم منجزات المسلمين في ميادين العلم والصناعة كانت تخضع لمعيار «النافع الجميل» الذي كان دائماً بالنسبة إليهم أعلى مرتبة من النافع القبيح. ففي مجال العمارة الإسلامية التي يعرفها الجميع مثلاً، فإن العبقرية تتجسد في مواءمة حسن الشكل مع أداء المبنى لوظيفته على أفضل وجه. وإذا كان يسهل اكتشاف ذلك في التحف المعمارية الكبرى مثل المساجد التاريخية الشهيرة والقصور، فهذا لا يعني أن هذا المفهوم كان غائباً عن المنجزات العمرانية الأقل شأناً وشهرة، وصولاً إلى بيوت العامة، وإن كان التعبير عن الإحساس الجمالي في هذه الأخيرة هو أقل أبهة وأكثر تواضعاً نظراً لتواضع الإمكانات المادية. ففي هذا المجال يقول الدكتور عفيف البهنسي إن الهندسة الإسلامية ليست مجرد حيز لاستيعاب وظيفة سكنية أو اجتماعية معينة وحسب، بل هي صيغة جمالية مجسدة لمفهوم فلسفي وروحي هو مفهوم الإسلام.
ولو انتقلنا من العمارة إلى ميادين علمية عديدة، لوجدنا أن مبدأ «النافع الجميل» يبقى مجسداً حتى الحدود القصوى التي تسمح بها وظيفة الشيء، وصولاً إلى الآلات والأجهزة التقنية والأدوات الحرفية التي صنعها المخترع والحرفي المسلم، سواء أكان ذلك جهازاً علمياً مثل جهاز الأسطرلاب الشهير، أم مبضعاً لطبيب جراح أو كشتبان لإصبع الخياط.
إن الأسطرلاب مثلاً، مجرد جهاز يستعمل في الحسابات الفلكية لتحديد مواضع النجوم والكواكب، كما أن لبعض طرزه بعض التطبيقات الجغرافية الأرضية. ولكن نماذج عديدة من الأسطرلاب العربي ارتقت من حيث صناعتها إلى مستوى التحف الفنية بسبب زخرفتها، وتزاوج الزخرف الهندسي فيها مع الخط الكوفي وغير ذلك من العناصر التزيينية. فوظيفة الفن كما يجسدها الأسطرلاب، هذه الأداة العلمية الجافة، هي في الإتقان، بحيث يصبح الجمال جزءاً أساسياً من كمال الصنعة. وحين يبتعد الفن عن أداء هذه الوظيفة، فإنه يفقد نفعيته، وربما أهميته. ولذا، فإن المتاحف والهواة المتخصصين في جمع أجهزة الأسطرلاب أو دراستها، غالباً ما يتوقفون أمام كل واحد منها حول ما إذا كان العالِم الذي صنعه زخرفه بنفسه أم أوكل هذه المهمة إلى فنان آخر.
وفي علم الميكانيكا أيضاً
يمتد هذا المفهوم للفن حتى أكثر المجالات العلمية برودة وأبعدها عن الخضوع للمزاج الفني، مثل علم الميكانيكا أو علم الآلات، الذي سماه العرب قديماً «علم الحيل». ولنا في أعمال المهندس الجزري خير دليل على ذلك.
فقد عاش هذا المهندس في ديار بكر بجنوب شرق تركيا، وكان رائد الميكانيكا في العصور الوسطى، وحظي بشهرة كبيرة بفضل صناعته للساعات المائية، أو المتحركة بفتائل القناديل، وآلات القياس، والنافورات، والآلات الموسيقية، ومضخات رفع المياه من الآبار، وذلك على مدى خمسة وعشرين عاماً. وقد كان لأحد سلاطين بني أرتق بديار بكر، وهو السلطان ناصر الدين محمود، الفضل في توجيه الجزري إلى جمع هذه التصاميم في مخطوط حتى يستفاد منها لاحقاً. وهكذا وصلت إلينا تصاميم هذه الأجهزة في مخطوطه الشهير «الجامع في صناعة الحيل».
ففي الساعة الفيل، تظهر شخصية الجزري على أنه مهندس بارع وفنان ماهر. إذ إن هذه الساعة تجسد نموذجاً فريداً من التكنولوجيا الإغريقية والإسلامية، مكسوة بحيلة فنية بديعة تتألف من مجسم لفيل ضخم يحمل الساعة، ويحوي في بطنه على القسم الميكانيكي العامل وفق قانون أرخميدس، وأمام الفيل يوجد الحادي الذي يقوده، وخلفه مباشرة يوجد الناسخ الذي يحمل قلماً نحاسياً يرسم خطوطاً على دائرة نحاسية، وحركة يد الناسخ الدائرية مرتبطة بالنظام الميكانيكي داخل الفيل، وإضافة إلى ذلك، استخدم الجزري أفعيان صينيان للدلالة على القوة والمنعة، وظيفتهما نقل الكرات الفولاذية من صقران يعلوهما، إلى مزهريتين نحاسيتين، مما يؤدي إلى تحريك مطرقة الفيل التي تضرب الصفيحة النحاسية معلنة عن اكتمال الساعة.
لقد استخدم الفنانون المسلمون الصقر في العديد من المناسبات والمواضع للدلالة على القوة والصرامة. أما الأفعى، فقد استخدمت، خاصة في عصر الأيوبيين للدلالة على المهابة، كما هو موجود فوق المدخل الرئيسي لقلعة حلب. أما إطار الساعة المحمولة على ظهر الفيل، فهو مزركش بالزخرف الهندسي الفائق الدقة والجمال. أما في أعلى الساعة، فقد ختم الجزري تحفته بمجسم يرمز إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي محرر القدس وطارد الصليبيين، وكأنه يحتفل بهذا الإنجاز العظيم، الذي كان الجزري قد عاصره عام 1187م.
وظف الجزري هذه الدقة المتناهية في الخصائص الميكانيكية والجمالية في أعماله الأخرى، ومنها على سبيل المثال ساعة الحصن، التي هي أيضاً ساعة ضخمة، تحوي مجسمات لصقور، وزخرفاً هندسياً ونصاً بالخط الكوفي.
إن مثل هذا الحس الفني المرهف، ميَّز معظم منجزات العلماء والمخترعين المسلمين. فلو عدنا إلى المخطوطات مثلاً، لوجدنا أن العناية بإنجازها فرضت الاعتماد على العمل وفق مراحل. تبدأ بأن يقوم صاحب الكتاب باختيار الورق، ثم يبدأ النسخ، وإن كان لا يتقن ذلك، كان يكلف ناسخاً يتقن الخط، وبعد اكتمال النسخ، يحمل المؤلف مخطوطه إلى المزخرف والمذهب ليزخرفه ويجمله. وفي مرحلة ثالثة يأخذه إلى المجلد، حيث يعتمد شكل الغلاف وزخرفته بناءً على توافق ما بين المؤلف والمجلد. فالمسلمون هم أول من ابتكر فن تجليد الكتب وزخرفتها، وسبقوا الأوروبيين إلى ذلك بقرون. ففن الغلاف الذي نراه اليوم تحصيل حاصل في أي كتاب، كان ابتكاراً مترفاً في العصور الوسطى، وفناً قائماً بحد ذاته عند المسلمين، عندما لم يكن كذلك عند غيرهم.
الذروة في دولة المماليك
يرى كثير من المؤرخين أن ذروة الإبداع الفني في الأدوات العلمية كانت في عصر دولة المماليك. وهذا الرأي له ما يبرره، أو يمكننا أن نتفهمه، نظراً لكثرة ما وصلنا من تلك الحقبة من أدوات علمية معدنية أوخشبية أو حتى مخطوطات، تحمل طابعاً فنياً يطغى في كثير من الأحيان على وظيفتها. ولكن أن نكون قد فقدنا الكثير من منجزات العرب والمسلمين السابقة لتلك الفترة، بفعل الحروب والغزوات التي تعرضت لها البلاد العربية، مثل الغزو المغولي والغزو الفرنجي في الحروب الصليبية، فإن ذلك لا يعني أن حال العلوم والفنون كانت أقل شأناً في الفترات السابقة.
فالفن الإسلامي لم يكن في أية مرحلة مقتصراً على فئة دون أخرى، أو منتشراً في طبقة دون غيرها، كحالة الفن الأوروبي في العصور الوسطى الذي كان حكراً على طبقة النبلاء، بل كان شائعاً ومنتشراً في كل مكان، ووسط مختلف شرائح المجتمع من دون تمايز أو تفاضل. وتدل على ذلك الأدوات المستخدمة في الحياة اليومية من أطباق، وقناديل ومشكاوات ومباخر وسكاكين ومقصات وأوعية حفظ الطعام، وأدوات الحرفيين من مطارق وأزاميل.. فالكل كان يتذوق الفن والجمال، حتى قيل أن جواز ابن خلدون في القرن الرابع عشر، الذي أهداه إياه محمد الخامس ملك غرناطة، كُتب شعراً.