سعد الجميع في العالم العربي بإحياء المملكة لسوق عكاظ، أشهر أسواق العرب قبل الإسلام. السوق الذي كان من أهم المناسبات التجارية والثقافية والسياسية في ذلك العصر. السوق الذي ألقيت فيه أجمل قصائد العرب وأجزلها وأبلغ خطبهم وأحكمها. كما سعدنا بالقفزات النوعية للسوق منذ إحيائه قبل سنوات، والتي تدل على اهتمام القائمين على السوق من مختلف القطاعات ورغبتهم في إعادة تلك السوق التاريخية، بهوية سعودية عربية إسلامية، إلى محور اهتمام العصر، وربطها بتأريخنا العريق.
ولن نستغرب إذا استمرت قفزات السوق في السنوات القادمة في ظل الرعاية الكريمة التي تلقاها المشاريع الثقافية والعلمية في المملكة. والشواهد على ذلك كثيرة تثبت أن بلادنا تعيش حراكاً ثقافياً يقوده خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله ابن عبد العزيز، حفظه الله. فقد ارتبط اسمه بمنجزات ثقافية كبرى، من أبرزها المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذي يقام سنوياً بالجنادرية بمدينة الرياض.
فلقد أصبح هذا المهرجان بمضمونه المميَّز من أهم المهرجانات العربية في مجال التراث و الثقافة. ولعل من أهم ما يحويه المهرجان القرية التراثية التي تتألف من أجنحة تمثِّل التراث المعماري والثقافي لكل مناطق المملكة، مما جعلها ذاكرةً للأجيال ومصدراً من مصادر التاريخ.
والدعم الكبير الذي يقف خلف الحراك الثقاقي في المملكة لايقتصر على المهرجانات والفعاليات الثقافية فحسب بل امتدت آثاره إلى حقول مهمة أخرى. فقبل فترة وجيزة كنا في المملكة نشكو من ركود أكاديمي، ومن انعدام ميزانيات البحوث والمشاريع الأكاديمية في الجامعات، حتى طالعتنا قبل سنوات قليلة وسائل الإعلام باستبيانات عن التصنيف الأكاديمي للجامعات في العالم والتي لم تحظ فيها جامعاتنا بمواقع مشرِّفة. ولكن الدعم الذي حظيت به جامعاتنا في السنوات الأخيرة واهتمام المسؤولين في تلك الجامعات ببرامجها البحثية والتعليمية، رفع من مستوى التعليم الجامعي في المملكة وقفز بعدد من الجامعات السعودية في التصنيفات الأكاديمية العالمية.
ومن جانب آخر فقد تضاعف عدد الجامعات الحكومية أو زاد على ذلك. كما انتشرت في المملكة الجامعات الخاصة المتميِّزة، وزاد عدد الطلاب المبتعثين إلى الخارج، خاصة في برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي، الذي دخل عامه الخامس، واستفاد منه عشرات الألوف من الطالبات والطلاب.
كما زاد الاهتمام بالموهبة والإبداع في بلادنا. ونذكر هنا على وجه الخصوص، مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة) التي تنتقي المميَّزين من طلابنا وطالباتنا من كل المراحل الدراسية وتسجِّلهم في برامج لرعاية المبدعين في الداخل والخارج. كما تُسهّل مشاركاتهم في الكثير من المؤتمرات واللقاءات التي تعنى بالموهبة والإبداع.
وانتشرت في المملكة الجوائز الفكرية والعلمية والتعليمية. وقد برز على المستوى العالمي عددٌ من تلك الجوائز، مثل جائزة الملك فيصل العالمية، التي حصل عليها في فروعها المختلفة عدد من العلماء المرموقين من مختلف أنحاء العالم، كما أن بعض من حصلوا عليها حصلوا بعد ذلك على جائزة نوبل، مما يدل على جودة معايير جائزة الملك فيصل العالمية. كما حصل عدد من العلماء العرب والسعوديين على تلك الجائزة، ومن بينهم الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع (انظر صفحة 64-65 في هذا العدد).
ولاشك أن من أهم مبادرات خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، ذات الجانب الثقافي، إنشاءه لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، الذي أمر، حفظه الله، بإنشائه لنشر ثقافة الحوار وقبول الاختلاف واحترام الآراء المخالفة ومناقشتها بموضوعية وهدوء. فقد أسهم هذا المركز منذ افتتاحه في تأصيل ثقافة الحوار بين شرائح المجتمع المختلفة، وبدأت تظهر نتائجه الإيجابية التي نأمل أن تستمر في التصاعد محققة طموحات قيادتنا الرشيدة.
إن الحديث عن الحراك الثقافي الحالي في المملكة العربية السعودية طويل ومتشعِّب ولا يمكن تغطيته في مقال واحد. ولكن ما يميِّز هذا الحراك أنه ذو جذور راسخة تجعل منه عملا مستداما ينطلق ويتطور ولا يتوقف. ومهما ضاق الحيز فإن هذا الموضوع لا يمكن أن يختتم دون الحديث عن مشروع علمي ثقافي مميَّز يوشك أن يُفتتح في بلادنا، وهو جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، التي سيفتتحها الملك عبد الله ابن عبد العزيز في بلدة ثول على ساحل البحر الأحمر بحضور عالمي مميَّز في اليوم الوطني السعودي المقبل (23 سبتمبر 2009م، الموافق 4 شوال 1430هـ). هذه الجامعة كانت حلما يراود خادم الحرمين الشريفين منذ أكثر من 20 سنة، ويتلخص في رغبته في إنشاء جامعة عالمية متخصصة في الدراسات العليا والبحث العلمي تكون مصدراً للإشعاع العلمي الذي يسهم في حل مشكلات مجتمعنا المعاصر، ويخلق جيلا من العلماء الذين سيقودون الحراك الأكاديمي والبحثي في المستقبل.