بوتان مملكة منسية على جغرافية المكان، تمارس عزلتها في هدوء وقناعة، على جبال الهملايا بين الهند والصين.. وشعب بوتان واحد من أسعد شعوب العالم وأكثرها طمأنينة وتحرّراً من استعمار القلق الذي زرعته التكنولوجيا في رؤوس الأفراد ونفسية المجتمعات، لا لأن شعب بوتان يمتلك الثروة الطبيعية والمادية، ولا لأنه شعب أخذ بأسباب التطور وثوراته المعرفية والمعلوماتية، بل لأنه شعب يستثمر في ميراث قيمه وأخلاقه، ويُحوِّله إلى طاقة يومية خلاَّقة، تحفِّزُه على التعلق بالحياة والإقبال عليها بحب واستمتاع، وتوطِّد الصلة بين أفراده وتعزِّز علائق التواصل بينهم. ولا عجب أن يكون الناتج القومي للسعادة مصطلحاً رسمياً شائعاً في بوتان ، لأنه ركيزة أساسية يقوم عليها اقتصاد المملكة.
إن تجربة بوتان تحويل ميراث القيم إلى ناتج للسعادة يتدعَّم به الاقتصاد ويتفاعل به المجتمع، تجربة جديرة بالدرس والتعمق، لا سيما أن تجارب الإنسانية عبر قرون الزمن أكدت المقولة الشائعة في مختلف ثقافات الأمم: إن المال لا يصنع السعادة ، ثم إن الحياة العصرية ارتقت بعقل البشر إلى أعلى مراتب التفكير العلمي والموضوعي، واستطاعت أن تُعلمن العقل. لكنها فشلت في عقلنة الوعي وفي إخصاب الشعور الإنساني. فبقدر ما وفَّرت من أسباب مادية يسَّرت سبل العيش، أوجدت في المقابل أنواعاً من استلاب الضمير الإنساني، وأحدثت أمراضاً نفسية واجتماعية يتجلى أثرها المفجع في انكماش منظومات القيم والأخلاق السامية وتراجعها. وشئنا أم أبينا، استطاعت الحياة العصرية أن ترهن حركة الأفراد والمجتمعات اليومية، بعناصر التكنولوجيا التي حولت الإنسان إلى مجرد كتلة آدمية لا تملك وقتاً للإحساس بقيمتها الإنسانية، حتى إننا لم نعد قادرين على تصور قضاء أيام بلا كهرباء. فالأمر صار كابوساً فعلاً يشل كل أشكال الحركة في مختلف عُصُب الحياة. فيحدث أن نحتجّ بتعطل السيارة أو شلل محطة الوقود، لنسوّغ تقصيرنا في زيارة أحد أقاربنا، وكثيراً ما نسوّغ بالنسيان ومشاغل العمل وضيق الوقت، لنعلِّل تقصيرنا عما توجبه صلة الرحِم مثلاً.
لقد تغلغلت التقنية في أدق تفاصيل حياتنا اليومية، وكادت أن تحجر، بإفرازاتها السالبة، على كثير من موروثنا الاجتماعي والتاريخي، والخشية كل الخشية على أجيالنا الصاعدة، لأن مساحة الاختيار اليوم شاسعة، لكنها ستضيق غداً، وكذلك درجة الحصانة والمناعة حيال ما تختزنه التقنية من عناصر طاعنة في خصوصياتنا. فخيارات اليوم قد لا تكون متاحة غداً.
إن أجيالنا الصاعدة من الناشئة وتلاميذ المدارس، تطل على العالم وتتفاعل معه من خلال الإنترنت والقنوات الفضائية، أكثر مما تطل وتتفاعل مع واقعنا، وهي تستهلك الساعات الطوال كل يوم في ذلك، فصارت، أو تكاد، أن تنتمي جسمانياً إلى جغرافيتنا، ولكنها ترتبط فكراً وتصوراً بعوالم أخرى، وقد تكون أولى نتائج هذا الارتباط، بروز ظواهر ومظاهر سلوكية واجتماعية، مستهجنة وغريبة عن خصوصيتنا الثقافية والتاريخية، قد لا نستشعر خطرها الآن، ونعدها ظواهر طارئة أو نسلِّم بأنها ضريبة لازبة للعصرنة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة. لكن يجب الانتباه إلى أن أجيالنا قد تتحوَّل كلما أوغلنا في الزمن، إلى أوعية قابلة للاستفراغ من مكوناتها الأصلية وإعادة تشبعها بما تطرحه فضاءات الإنترنت والفضائيات وغيرهما.
إننا سائرون في طريق أتمتة الإنسان وتحويله إلى كائن يُبرمَج كما تُبرمَج الحواسيب، وسوف يكون التنازل اللاإرادي واللاشعوري عن كثير من عناصر الموروث القيمي والأخلاقي الثمن الذي سندفعه نظير ارتهاننا التكنولوجي واستسلامنا للحياة العصرية، هو طريق بلا نهاية، غير أن ما نجنيه خلاله من مشكلات سوف يضع أجيالنا المقبلة أمام قضايا الهوية والانتماء، ولا عجب، فنحن مستهلكون للتكنولوجيا ومنتجات حياة العصر، ولسنا منتجين لها وفق خصوصيتنا وأبعادنا الحضارية والتاريخية.
وإذن الحاجة ملحة الآن، لا بعد حين، إلى أن نستثمر موروث قيمنا وأخلاقنا لنصنع منه ناتجاً لسعادتنا وسعادة أجيالنا. فيجب أن نستثمر موروثنا الكامن في أعماقنا ونستحضره في مشاريعنا وخططنا وأعمالنا اليومية وننشئ مساحة تفاعل للتواصل فيما بيننا. إننا نعاني أزمة سعادة على مستوى الأفراد والمجتمعات، لم نستطع أن نضمنها بثرواتنا وبما بين أيدينا من تكنولوجيا. فلماذا لا نستوقف الزمن قليلاً وندخل مع تجربة بوتان في مختبرات البحث والدراسة؟ أليس جميلاً أن نوجد استثماراً من نوع جديد يضمن السعادة لأفرادنا ومجتمعاتنا؟