الثقافة والأدب

القنفذ
زكريا تامر يستعيد طفولته

بعد نصف قرن من عطائه في حقل القصة القصيرة، خاصة الموجهة إلى الأطفال، ها هو القاص السوري زكريا تامر الذي ترجمت أعماله إلى أكثر من عشر لغات، يستعيد أجواء طفولته ليكتب ما يشبه السيرة الذاتية في قصة القنفذ ، ولكن عبر عين الفتى الصغير الذي يوليه مهمة السرد، جاعلاً منه راوياً بريئاً جداً في نظرته إلى الحياة والعالم والطبيعة.
الزميل عبده وازن يعرض قراءاته لهذه القصة، ويختار لنا قصتين منها.
في القنفذ وجهة نظر شاءها زكريا تامر نقية وصافية لأنها وجهة نظر طفل يختبئ وراءه الكاتب الذي بلغ من العمر عتياً وكأنه والد هذا الطفل الذي كانه ذات يوم. هذا ما يحصل عادة في السير الذاتية عندما يستعيد الكاتب طفولته وهو على شفا الشيخوخة. لكن القاص السوري الرائد لم يكتب سيرة تقليدية أو كما تفترضها المعايير الأدبية، بل اختلق أو أعاد اختلاق طفولته، مضيفاً إليها ملامح أخرى ومشذباً بعض تفاصيلها ليجعل من الطفل – الراوي شخصية قائمة بذاتها، سواء أمثلته طفلاً أم لم تمثله تماماً.

قصة أم رواية؟
إلا أن اللافت أن المؤلف يسمي كتابه هذا، الذي صدر حديثاً عن دار رياض الريس، بـ القصة فيما هو مجموعة قصص أو لوحات تتوالى من خلال راوٍ وحيد يحضر في كل لوحة أو متوالية سردية. ولا يخفي زكريا تامر في هذه القصة الطويلة مقاربته الفن الروائي ولا سيما في النهاية عندما يعمد في اللوحة الأخيرة، وعنوانها سألت ، إلى كسر البنية السردية من خلال الراوي نفسه وقد أصبح كبيراً ينظر إلى ابنه نظرته إلى الطفل الذي كانه بنفسه. والغريب أن السرد يتولاه الراوي نفسه، أي الطفل الذي أصبح رجلاً. ترى هل يمكن تسمية قصة زكريا تامر بالرواية القصيرة أم بالقصة الطويلة؟ ربما هنا تكمن فرادة هذا الكتاب الذي تشبه مادته القصصية عالم زكريا تامر وتختلف عنه في الحين نفسه.

فهو لا يتخلى عن مفهوم اللحظة السردية التي تميز القصة القصيرة عادة، لكنه يحولها لحظة قائمة أو مستعادة باستمرار، لوحة تلي أخرى، أو متوالية تلي متوالية. وهنا تمكن العودة إلى وصف الروائي الأمريكي وليم فولكنر لمفهوم القصة عندما قال: القصة هي تبلور للحظة اختيرت اعتباطاً، حيث الشخصية في تنازع مع شخصية أخرى أو مع بيئتها أو مع نفسها . هذا الوصف ينطبق تماماً على قصص زكريا تامر عموماً وعلى اللوحات التي تضمنتها قصته الطويلة القنفذ . لكن اللوحة الأخيرة التي كسرت فعل السرد زمنياً ومكانياً استطاعت أن تمنح هذه المتواليات صفة أخرى، تقترب من الصفة الروائية ولكن من غير أن تكون روائية تماماً. وإذا كان مفهوم القصة غامضاً دوماً أو غير واضح، كما يقول الناقد الفرنسي ايتامبل، فهو يفترض الاختصار والتوتر الدرامي والحدث اللامتوقع والشخصيات القليلة . وهذا أيضاً ما ينطبق على قصص تامر ومنها قصته القنفذ المتشظية سردياً. وقد يكون نعت هذه القصة الطويلة بالرواية التجريبية خير جواب عن السؤال الرئيس الذي تطرحه شكلاً وبنية! إنها قصة من قصص بل قصص في قصة واحدة، يربط بينها خيط وحيد هو الراوي الذي سينتقل انتقالاً مفاجئاً من الطفولة إلى الكبر، أي من الماضي المستعاد إلى الحاضر المرتكز إلى ماضيه.

متواليات سردية يختلط فيها الواقع بالمتخيل
تتألف قصة القنفذ من اثنتين وعشرين متوالية سردية يستهلها تامر بنص بديع، طفولي المنبع، يمتزج فيه المتخيل بالواقعي، عنوانه: صديقتي التي لا تُرى . و الصديقة التي يحكي الفتى الصغير عنها ليست سوى جنّية طفلة يتوهم وجودها ويمضي في حوار معها، كأن يقول لها: أنا لا أراكِ، أين أنتِ؟ فتجيبه: أنا قربك ولا تستطيع أن تراني… . وتخبره أنها وعائلتها تقيم في المنزل نفسه قائلة له: بيتكم بيتنا وغرفه غرفنا . لكن الفتى الغارق في الحلم أو الوهم تجده أمه قاعداً على الأرض يحاكي نفسه فتدعو له. وتنتهي هذه اللوحة نهاية بديعة على لسان الطفل: لم أعد أنام في غرفتي في وسط السرير كعادتي، وصرت أنام على قسمه الأيمن، تاركاً القسم الأيسر منه فارغاً حتى يستطيع الراغب في النوم أن ينام براحة .

قد تختصر هذه المتوالية أو اللوحة الجو الذي يزيّن القصة الطويلة المتقطعة، سواء في نزعتها الطفولية التي تخفي الكثير من الرهافة والشفافية والوعي الجمالي أم في طابعها المتخيل الذي تختفي ازاءه الحدود بين الواقع واللا واقع. إلا أن الطفل هذا لن ينحصر وجوده داخل المنزل والأسرة والحديقة، بل سيخرج قليلاً إلى الحياة أو العالم الصغير الذي هو عالم القرية، ليكتشفه ويعيد اكتشافه. ويلجأ في النهاية إلى المنزل والحديقة اللذين يجسدان عالمه المثالي.

ومثلما حاور الفتاة – الجنية سيحاول في لوحة النيام أن ينصت إلى شجرة النارنج المزروعة في باحة البيت مع أشجار أخرى (الليمون الحلو، الليمون الحامض، الكبّاد…). وعندما لا يسمع قلب الشجرة يخفق يقول لنفسه إن الشجرة نائمة وإن قلبها ينام معها. ثم يكتشف أن الماء نائم في الأنابيب وأن القطة نائمة والحيطان والأرض… لكنه يدرك أن الهواء ليس نائماً فيشبّه نفسه بالهواء هو الذي يقول عن نفسه لست نائماً ولا مستيقظاً وكأنه يود أن يقول في منحى آخر إنه في حال من التداعي بين اليقظة والنوم. وفي نص عنوانه: شجرة جديدة في باحة بيتنا يسعى الطفل إلى أن يصبح شجرة فيصف نفسه واقفاً على التراب حافياً بين شجرتي النارنج والليمون راغباً في أن يصير شجرة ومقتنعاً بأن جذوراً ستنبت في باطن قدميه وتتغلغل في التربة، ويرفع إلى أعلى ذراعيه اللتين يظن أنهما ستصيران غصنين ينبتان أغصاناً أخرى. إلاّ أن أمه ستفاجئه قائلة: ألن تبطل التمثيل السخيف الذي يرعبني؟ . وعندما سأله أخوه عما يفعل لم يجبه لأن الأشجار لا تتكلم .

أدب عن الأطفال لا للأطفال
عالم طفولي ساحر، يذكر بجو الأمير الصغير للكاتب الفرنسي انطوان دوسانت أكزيوبري وبعالم أليس في بلاد العجائب ، لكنه طبعاً سيظل أقرب إلى الواقع مهما اتسعت مخيّلة هذا الطفل أو كثرت أوهامه. وقد تقترب نصوص هذا الكتاب من أدب الأطفال الذي أبدع فيه زكريا تامر أعمالاً جميلة من غير أن تنتمي إلى هذا النوع الأدبي.

وربما حاول الكاتب قصداً توظيف خبرته في هذا الحقل ليزيد من التباس هذه القصة الطويلة وليمنحها المزيد من التخييل الطفولي. لكن الطفولة هنا تؤدي دوراً رمزياً وكأنها أقرب إلى التورية ، إذ تخفي وراءها الكثير من الألم والحكمة اللطيفة. وهذان العنصران هما اللذان ينقذان اللوحة القصصية من الوقوع في شرك أدب الأطفال، ناهيك بالوعي البريء الذي يخالج شخصية الراوي – الطفل. فهكذا يضفي الكاتب شيئاً من الحياة على الجماد فيجعل بطله الطفل يتوهم أن الحائط يحكي. بل إن الطفل سيصادق الحائط في المنزل وسيسأله دوماً عن آخر أخبار البيت . ولن يتوانى الجدار عن البوح له ببعض أسرار العائلة. وعندما يقدم مرة على لمس الحائط بيد حانية يقول له الحائط: كف عن لمسي وإلا بكيت، ومن المعيب أن تبكي الحيطان .

وفي لوحة لغة الأسماك يسأل الطفل أمه مراراً عن البحر الذي لم يره مرة فتقول له: البحر كالنهر ولكنه أكبر منه . وعندما يسألها عن الأسماك تقول له: الأسماك تتكلم، لكن لغتها لم يستطع أحد أن يعرفها . حينذاك، فكر الطفل ووعد أمه بأنه عندما يكبر سيكتشف لغة الأسماك ويتقنها. وتنتهي هذه اللوحة بلقطة ساخرة، حين يقول الأب إن الإبن الصغير لن ينجح في اقناع الناس بألا يأكلوا الأسماك. غير أن هذا الفتى – الطفل الراغب في تعلم لغة الأسماك يجيد لغة الهررة، مثلما يخيل إليه، فهو يموء عندما يريد التحدث إلى قطته البيضاء التي يعرف لغتها كما يعرف لغة الحيطان والشجر والطيور. وإن حزن لاصطياد الأسماك وأكلها فهو سيحزن أيضاً لذبح الغزلان وأكل لحمها، هو الذي تعرّف إلى أول غزال مقيد لدى بائع الدجاج في السوق. وراح يحلم بصور الغزلان في الكتب وقد وعده أخوه أنه سيشتري له كتاباً عن الغزلان إذا نجح في امتحانه المدرسي. ومثلما سأل أمه عن البحر سيسأل أباه عن الطائرة مدهوشاً أمام منظرها وهي تشق السماء. يسأل أباه: الطائرة صغيرة فكيف تتسع لسائقها؟ ، فيقول له أبوه: الطائرة كبيرة في حجم البيت، وفيها مقاعد ومراحيض .

إلا أن الطفل لن يظل سجين مخيلته وأسير الطبيعة التي عمد الكاتب إلى الاحتفال بها من خلال عيني هذا البطل الصغير وعبر أحاسيسه المرهفة، وكأنه يسعى إلى استعادتها كملاذ يلجأ اليه هرباً من قسوة العالم وكابوسية الحياة الحديثة والمعاصرة. فها هو الطفل في لوحات أخرى لاحقة يخرج من عزلته العائلية والطبيعية إلى السوق والمقهى وإلى الطبيب، وها هو في لوحة ورد أم بصل؟ يقف أمام المرآة واضعاً سيجارة بين شفتيه. وعندما يعلم والده بالأمر يقول إن هذا الولد القرد ابن أبيه فعلاً، فأنا عندما دخنت أول سيجارة كنت أصغر منه . وسينتهز الطفل هذه المسامحة طالباً من أمه أن تأخذ له صورة وهو يضع بين شفتيه سيجارة، ونظراً إلى أن أمه لا تجيد التصوير يظهر في الصورة جسماً بلا رأس.

وعندما يعده أخوه أيضاً باصطحابه إلى السينما بعد شفائه من وعكة صغيرة، ليشاهدا فيلم طرزان قائلاً له إن الممثل طرزان سيأتي شخصياً إلى السينما، يسأله: هل يمكنه أن يأتي من دون القردة شيتا التي لا تفارقه؟

لا تخلو نصوص القنفذ من بعض السخرية التي تسم عادة قصصاً كثيرة لدى زكريا تامر، لكن السخرية هنا لا تستحيل سوداء ولا عبثية صرفة، بل هي تظل على شيء من الألفة والعفوية. في نص سأشتري بنكاً تلتقي العائلة حول التلفزيون الصغير في البيت بانتظار إعلان نتائج اليانصيب وكان الوالد اشترى ورقة وأحسّ أن قلبه يقول له إنه سيفوز بالجائزة الكبرى. وقبل إعلان النتائج يقول الأب لولديه وزوجته: سأقسم الجائزة إلى ثلاث حصص، واحدة للإبن الكبير، وواحدة للصغير (الراوي) والثالثة له ولزوجته. ويروح كل واحد يحلم بماذا سيشتري بالمال. الطفل قال إنه سيشتري بنكاً من غير أن يدري ما هو البنك، وقال الوالد إنه سيشتري سيارة تريحه من المشي وانتظار الباص، وتلفزيوناً كبير الشاشة وسريراً عريضاً، تعترض عليه الأم لأنها تفضل السرير الضيّق… وعندما أعلنت النتائج كانت الورقة خاسرة، حينذاك لجأت الأم إلى سريرها لتنام باكراً وكأنها أصيبت بخيبة.

البراءة في مواجهة القسوة
غير أن الطفل الذي يعلن ذات مرة أنه يحلم في أن يصبح حرامياً (سارقاً) يتألم أمام بعض المشاهد الإنسانية التي رآها عندما خرج مع والده إلى السوق، وكان كل مرة يغمض عينيه لعدم قدرته على احتمال ما يرى. ومن تلك المشاهد: مشنقة محاطة برجال الشرطة، يتدلى منها رجل مشنوق، ولد صغير واقف على الرصيف يبكي، فتاة صغيرة أغمي عليها ونقلت إلى المستشفى بلا حقيبتها المدرسية، متسوّلة تقعد على الرصيف مع ثلاثة أطفال وسخين ومبتوري الأيدي، رجلان يتضاربان بشدة… وعندما يفرك الطفل عينيه بأصابعه يجدها مبتلّة بالدموع. لعل هذه المشاهد التي رآها الطفل تختصر نواحي عدة من الواقع العربي.

الطفولة قابلة للاستفادة دائماً
يشعر قارئ كتاب القنفذ أنه حيال قصة طويلة أو رواية قصيرة ولكن غير خاضعة لحركة من التنامي في الأحداث والمواقف. إنها رواية أو قصة مركبة من متواليات أو لوحات سردية تجمع بينها شخصية الراوي – الطفل ووحدة المكان الموزّع بين العائلة والبلدة والساحة وكذلك وحدة الزمن الذي هو زمن الحاضر الذي سيصبح في اللوحة الأخيرة زمن الماضي. فالراوي – الطفل الذي يسرد تلك اللوحات المتوالية سيصبح في اللوحة الأخيرة رجلاً تخطى الثلاثين من عمره وهو يبدو كأنه يسترجع ماضيه في لحظة العودة إلى المنزل، بعدما توفي والده ووالدته. واللافت هنا أنه يصطحب معه ابنه الذي هو في العمر الذي كان فيه قبل عقود من الزمن. وفي ختام اللوحة هذه يسأل ابنه الصغير عما يفعل، فيقول له أنه يرسم قرية صغيرة لا يعيش فيها إلا القطط والطيور والشجر. يربّت الأب براحته على رأس ابنه مشجعاً إياه ويقول في نفسه أنه ينوي أن يقلّده وأنه سيرسم مدينة ليس فيها أي حي وشوارعها وبيوتها جبال من رماد. هكذا يستعيد الأب طفولته من خلال طفولة ابنه الذي سيكون صورة عن الطفل الذي كانه ذات يوم. إنها لعبة الزمن الخطرة التي لا ترحم، فاللون الأخضر الذي طالما سكن عينيه ويسكن الآن عيني طفله، صار الآن رماداً.

إنها المرة الأولى يخرج فيها زكريا تامر عن الأسلوب القصصي الذي اختطه ليكتب ما يشبه السيرة الذاتية التي تدمج بين الواقع والمتخيل من خلال لعبة سردية تجمع بين فن القصة القصيرة القائمة على مفهوم اللحظة وفن الرواية ولكن في المعنى التجريبي. وفرادة هذا الكتاب أن من الممكن قراءته كمجموعة قصصية مؤلفة من قصص منفردة ومستقلة، وكقصة طويلة أو كرواية قصيرة مركبة من لوحات ومتواليات مرتبطة بعضها ببعض من خلال أكثر من خيط داخلي. إنها في أي حال قصة بديعة، أياً كانت الصفة التي يمكن إطلاقها عليها.

زكريا تامر
– زكريا تامر، مواليد دمشق عام 1931م.
– يكتب القصة القصيرة والخاطرة الهجائية الساخرة منذ عام 1957م.
– يكتب القصة الموجهة إلى الأطفال منذ عام 1968م.
– 
عمل سابقاً في وزارة الثقافة ووزارة الإعلام في سورية، ورئيساً لتحرير مجلة الموقف الأدبي ، ومجلة أسامة ، ومجلة المعرفة .
– 
ترجمت كتبه القصصية إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والبلغارية والروسية والألمانية والصربية والكاتالونية والمجرية.
– 
صدر له: صهيل الجواد الأبيض، ربيع في الرماد، الرعد، دمشق الحرائق، النمور في اليوم العاشر، نداء نوح، سنضحك، الحصرم، تكسير ركب، هجاء القتيل لقاتله.

الحقيبة
..من القنفذ
الساعة الرابعة، ولم يأتِ أخي من المدرسة.
الساعة الخامسة، ولم يأتِ أخي إلى البيت.
الساعة السادسة، ولم يأتِ أخي.
أتى أبي إلى البيت، ولم يأتِ أخي.
قالت أمي لأبي إن أخي تأخر في العودة إلى البيت من دون سبب تعرفه، فقال لها: ابنك رجل، لا تخافي عليه .
أتت قطتي من جولتها المسائية في الحارة، ولم يأتِ أخي.
قال أبي لأمي: تأخر ابنك .
قالت أمي: اذهب واسأل عنه .
قال أبي: وأين سأسأل عنه؟ في مدرسته؟ مدرسته تقفل أبوابها في الرابعة .
قالت أمي: اسأل عنه في المستشفيات .
قال أبي: أعوذ بالله! .
قالت أمي: اسأل عنه في مخافر الشرطة .
قال أبي: أنا في حياتي كلها لم أدخل مخفر شرطة ولن أدخله .
قالت أمي: إذا لم تذهب، فأنا سأذهب .
قال أبي بغضب وسخرية: ما شاء الله! هذا ما ينقصنا .
فلم تفه أمي بكلمة، وجلست واجمة كأنها تحولت تمثالاً من حجر.

في الساعة التاسعة، فتح باب البيت، ودخل أخي مصفرّ الوجه، يلهث متعباً كأنه كان يركض طول ساعات، فتجهّم وجه أبي، وبادرت أمي تسأل أخي عن سبب تأخره، فقال لها: دعيني أستريح أولاً .
قال أبي لأمي بلهجة ساخرة: أما سمعت ما تفوّه به ابنك البيك؟ هيا احضري له ماءً ساخناً لقدميه وفنجان قهوة وأعطه سيجارة لعله يستريح ويستطيع الكلام بعد ساعات .

قالت أمي لأخي بنزق: احكِ أين كنت .
وحكى أخي عن سبب تأخره.
خرج أخي من مدرسته كالعادة في الساعة الثالثة، ومشى متجهاً إلى البيت، وفي أثناء سيره تنبه لامرأة عمرها أكثر من سبعين سنة تحمل حقيبة سفر يبدو أنها ثقيلة.
وكانت العجوز تحمل الحقيبة وتمشي خطوتين ثم تضع الحقيبة على الأرض وتستريح ثم تحمل الحقيبة وتمشي خطوتين ثم تضع الحقيبة على الأرض وتستريح، فأشفق عليها، وتذكر كل كلام أساتذته في المدرسة عن ضرورة مساعدة الناس المسنين، ودنا أخي من العجوز، وعرض عليها أن يساعدها في حمل الحقيبة، فشكرته وقالت له إنه ابن حلال، وأعطته الحقيبة، فحملها، فوجدها ثقيلة جداً، واستغرب أن تستطيع عجوز حمل مثل هذه الحقيبة، وسألها عن المكان الذي تقصده، فقالت إنها ذاهبة الى بيتها.
سألها أخي عن موقع البيت، فأجابت إنه قريب جداً.

مشى أخي وراء العجوز حاملاً الحقيبة، يدخل في حارة ويخرج من حارة، وكلما سأل العجوز عن بيتها كان جوابها إنه بات قريباً، وسيصلان إليه بعد دقيقة أو دقيقتين على الأكثر.
وغربت الشمس، وحلّت العتمة، وما زال أخي يحمل الحقيبة ويسير وراء العجوز.
وتعب أخي وتباطأت خطواته، وصارت العجوز تحثه على السير، وتوبخه، وأحس أنه سيموت من التعب، ووجد نفسه فجأة يرمي الحقيبة على الأرض، ويركض هارباً تتبعه صيحات العجوز التي تتهمه بأنه ابن حرام.

وعندما ابتعد أخي عن العجوز اكتشف أنه في حارات يجهلها، فصار يمشي ويسأل ويمشي ويسأل حتى وصل إلى شوارع يعرفها، ولم يستطع ركوب أي باص لأنه نسي نقوده في البيت.
وعندما انتهى أخي من كلامه، اكتفى أبي بالقول بصوت آسف: لا حول ولا قوة الا بالله .
وقالت أمي لأخي: العشاء جاهز وسأحضره لك .
فقال أخي إنه تعبان وغير جائع ولا يريد إلا النوم.

وعندما استلقيت على سريري محاولاً النوم، ظلّت عيناي مفتوحتين: المرأة العجوز بعد هروب أخي تنحني وتحمل الحقيبة الثقيلة وتمشي ببطء، وتكتشف أنها أضاعت بيتها، فلا تتوقف عن المشي، فيعترض طريقها ولد في السادسة من عمره، قويّ الجسم، مفتول العضلات، ويحملها هي والحقيبة، ويوصلها إلى بيتها الذي أضاعته، فتحاول أن تشكره، ولكنه يسارع إلى الابتعاد عنها، ويركض عائداً إلى بيته ليستلقي على سريره ويغمض عينيه وينام مبتهجاً.

الملح
..من القنفذ
أوشكت أمي أن تنتهي من طهو الطعام، فتنبهت إلى أن ما لديها من ملح قد نفد، ولامت نفسها بصوت عالٍ حانق، فأبي في المعمل، وأخي في المدرسة، وإذا ذهبت لشراء ما تحتاج إليه من ملح، فقد يحترق الطعام في أثناء غيابها، ولم تجد حلاً لهذه الورطة إلا أن تكلفني بشراء الملح من دكان البقال في سوق الحارة، وأعطتني النقود، وأوصلتني حتى باب البيت وهي توصيني بألا أمشي وسط الطريق، وألا أتشاجر مع أي ولد، وأن أشتري ملحاً لا سكراً.

سرت لصق الحيطان في زقاقنا الطويل سريع الخطى، وانعطفت يساراً في الطريق الموصل إلى سوق الحارة حيث دكاكين بيّاع الخضر واللحام والبقال والحلاق والفوال وبياع الدخان، فلمحت ثلاثة أولاد أكبر مني سناً، اعتادوا السخرية مني كلما رأوني، وتباطأت خطواتي على الرغم مني، وارتبكت وتحيرت، فالعودة إلى البيت بغير ملح ستعرضني لتوبيخ أمي، أما إذا تابعت السير، فوجوه الأولاد الثلاثة تنبئ أنهم لن يكتفوا بالسخرية مني كعادتهم.

مشيت كأني لم أرَ أحداً، وتصايح الأولاد متضاحكين لحظة اقتربت منهم، وتدانت رؤوسهم متهامسين ثم اعترض الثلاثة طريقي مشكلين جداراً، وقال لي أحدهم، وكان ذا وجه أسمر وعينين صغيرتين سوداوين وأذنين كبيرتين: المرور ممنوع .
قلت: أنا ذاهب إلى البقّال .

فلكزني الولد الأسمر بمرفقه لكزة قوية موجعة قائلاً لي بنزق: أف! أنت أطرش؟ ألم تسمع ما قلنا؟ .
والتفت إلى رفيقيه متسائلاً: ماذا قلنا؟ .
فصاح الولدان بصوت واحد: المرور ممنوع والعتب مرفوع .
وقال لي الولد الأسمر: أسمعت؟ من يرغب في المرور، من واجبه أن يرضينا ويدفع الثمن .

فتمسّكت أصابع يدي اليمنى في جيب بنطالي بثمن الملح بينما صاح الولد الأسمر بصوت فرح مخاطباً رفيقيه: انظرا انظرا إلى رقبته. الله ما أعرضها وما ألذها! تصلح مطاراً تهبط عليه الطائرات . وأهوى الولد الأسمر فجأة بكفه على مؤخرة رأسي في صفعة قوية مؤلمة، وقال لي: الآن صار المرور مسموحاً وفقاً لقوانيننا التي لا تسمح لأحد بأن يمر مجاناً .

فانحنيت على الأرض، وتناولت حجراً صلداً أكبر حجماً من قبضتي، وقذفت به نحو الولد الأسمر بيد جنّ جنونها، فاندفع الحجر كقذيفة مدفع ليبلغ مرماه، وينبثق فوراً الدم الأحمر الغزير من رأسه، ويبلل شعره، ويسيل على جبهته وحاجبيه وعينيه، فارتعب الولد الأسمر، وقعد على الأرض وهو يبكي ويولول بصوت كصوت النساء، فسارع رفيقاه إلى الهرب، وركضت عائداً إلى البيت، وما إن رأتني أمي حتى سألتني: أين الملح؟ ولماذا وجهك أحمر وتلهث؟ .

فأخبرتها بشجاري مع الأولاد الثلاثة متوقعاً أن تتباهى بي، ولكنها صاحت بي شاحبة الوجه: الله لا يكبرك، ماذا يقول أبوك حين يسمع الخبر؟ نحن ناس لا نؤذي أحداً ولا أحد يؤذينا .
فقلت لها: لا تزعلي. في المرة الثانية، سأعود إلى البيت مضروباً يسيل مني الدم حتى ترضي .
فقالت لي أمي: ماذا تقول؟ مرة ثانية؟! لم تعد يا مسكين تستطيع أن تمشي وحدك في الحارة لأن الأولاد سيكونون بانتظارك لينتقموا منك .

وما تنبأت به أمي لم يتحقق، فعندما خرجت من البيت وتجولت في الحارة مخبئاً حجراً في جيبي، تبدل الأولاد، واستقبلوني كأني أكبر سناً منهم، وكان الولد المضروب المضمد الرأس أول المتبارين في التحبب إليّ.

أضف تعليق

التعليقات