بيئة وعلوم

الكيمياء الخضراء
لإصلاح ما أفسدته الكيمياء السوداء

  • 36a

الكيمياء الخضراء مفهوم جديد بدأ يرخي بظله على علم الكيمياء ومنتجاته ككل بهدف حماية البيئة والإنسان من الأضرار المحتملة لهذه المنتجات، خاصة أن الاكتشافات الحديثة تزيد من لائحة هذه المخاطر والأضرار التي لم يكن يحسب لها حساب قبل سنوات قليلة.
الزميل ماجد نعمة يحدثنا عن الأسباب التي أدت إلى ظهور الكيمياء الخضراء والآفاق المفتوحة أمامها، بعدما أصبحت علماً قائماً بحد ذاته.
يعتبر العالم الفرنسي الشهير لافوازيه، الذي أعدمه الثوار الفرنسيون بالمقصلة عام 1794م، مؤسس الكيمياء الحديثة. وقد اشتهر بشكل خاص من خلال معادلته التي أصبحت مضرب المثل: لا شيء يضيع، كل شيء يتحول .

ولكن لو قدر لهذا العالم أن يعيش في زمننا الصناعي الراهن، لكان على الأرجح راجع نظريته ولكان أقل ثقة بما كان يؤكده منذ أكثر من قرنين. وهذا يصح بالدرجة الأولى بالنسبة إلى البيئة التي بدأت تضيّع الكثير من عناصر توازنها من جراء التحولات الكثيفة الناجمة عن الثورة الكيميائية الصناعية، التي لم تعد تترك مجالاً من مجالات الحياة اليومية إلا ودخلته، بدءاً من الماء وانتهاءً بالهواء ومروراً بالطاقة والطعام والدواء والنقل والزراعة واللباس!

وقد بدأ العلماء والصناعيون وأصحاب المسؤولية السياسية يشعرون فعلاً بخطورة بعض أنماط التنمية والاستهلاك على البيئة والموارد الطبيعية وعلى الصحة العامة، وبضرورة إيقاف الهبوط نحو الهاوية. وهذا تطور أساس في العقليات، خاصة بين النخب السياسية والصناعية والاقتصادية التي بات الهم البيئوي يقلقها تماماً كما هو الشغل الشاغل لحركات الدفاع عن البيئة وأنصار الطبيعة.

صورة التقدم ليست وردية فقط
في الماضي غير البعيد، كان الاقتناع السائد هو أن للتقدم الصناعي والتكنولوجي والعلمي ثمناً لا بد للمستهلك من أن يدفعه إذا كان يريد أن يستمتع بلا حدود بثمرات مجتمع الرفاهية والتخمة. وكان الرأي العام في المجتمعات الصناعية حتى عقدين من الزمن يقبل بدفع هذا الثمن طالما أن القسط الأكبر من هذه الفواتير ستدفعه الأجيال المقبلة. فما هي العوامل التي أسست مثل هذا الوعي البيئوي وجعلت المواطن أكثر تقبلاً لكل ما من شأنه أن يخفف من الآثار المدمرة للثورة الصناعية على البيئة؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التعريف بهذه الآثار الناتجة عن هذه الثورة.

هناك على سبيل المثال التلوث بالرصاص نتيجة إضافة هذه المادة إلى العديد من التطبيقات الصناعية والمحروقات. ومثل هذا التلوث قديم قدم اكتشاف واستعمال هذه المادة. ولكن نسبته تضاعفت مئة مرة في القرن العشرين مقارنة بالحالة التي كانت سائدة في العصور اليونانية والرومانية… الفارق هو أن ضرر الرصاص على الصحة والطبيعة لم يعرف بشكل علمي إلا منذ عقود قليلة وكان لا بد من انتظار السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لكي تتخذ الحكومات والشركات الصناعية في الغرب الإجراءات المناسبة للحد من استعماله سواء في الوقود أو في التطبيقات اليومية والمنزلية. وحتى هذه السنوات الأخيرة كانت بعض دول العالم الثالث تغض النظر -لأسباب اقتصادية قصيرة النظر- عن إضافة هذه المادة إلى وقود السيارات.

وخطر الرصاص على الصحة العامة كبير جداً إذ إن استنشاقه قد يؤدي إلى إضعاف الخصوبة، لا بل القضاء عليها، وإلى التسبب بإجهاضات مبكرة أو مفاجئة، وإلى التأثير في النظام العصبي وفي الوظائف الرئيسة للدماغ… ويمكن للجسم أن يتعرض لتأثيرات الرصاص عن طريق الماء الموزع عبر أقنية معدنية غير مصانة بشكل منتظم ودائم. ومن الآثار السلبية للصناعة الكيميائية في البيئة وبالتالي في الصحة العامة ما نراه بالنسبة إلى تكوّن طبقة الأوزون نتيجة الاستعمال المكثف لمواد الكلور والفليور والكربون المعروفة علميا بـ
(Les chlorofluorocarbones CFC).

فعندما اكتشفت هذه المواد عام 1928م وصفت وقتئذ بأنها اختراع كيميائي عجيب لكونها، كما وصفت، ثابتة، لا لون لها، غير سامة، قابلة للالتهاب وقليلة التكلفة . وقد استعملت على نطاق واسع كغازات مبردة وكمواد عازلة وفي الدهانات والأصباغ المركبة. وأجمع الصناعيون، ومن بعدهم الصحافة المتخصصة والشعبية، على اعتبارها مواد غير مضرة بالبيئة وبالصحة البشرية. ولكن مع مرور الزمن وبعد دراسات علمية معمقة بعيداً عن مصالح أصحاب المصانع الموزعة لهذه المواد تبين من دون لبس أن من شأن الاستعمال الصناعي المكثف لها أن يؤدي إلى تعديل تركز طبقة الأوزون وتوزعها في الطبقات الجوية العليا عامة وبشكل خاص إلى زيادة نسبة اختراق الأشعة فوق البنفسجية للطبقات الجوية المتوسطة والدنيا. ذلك أن مادة الكلور التي تتكون منها هذه المركبات CFC تعمل كمفاعل يحوّل الأوزون إلى أكسجين، ومعروف أن الأوزون يصبح ساماً عندما يتواجد فوق سطح الأرض في حين أن وجوده حيوي في الطبقات الجوية العليا لأنه يقي من الإشعاعات الشمسية.

ومن المضاعفات الوخيمة على الصحة والبيئة من جرّاء استعمال بعض المواد الكيميائية زيادة نسبة التلوث وارتفاع حرارة المناخ وما يؤدي ذلك إلى كوارث وفيضانات وانقراض بعض الأنواع الطبيعية والحيوانية والنباتية الضرورية لتوازن البيئة.

اسم جديد لمواجهة جديدة
إزاء هذه الأخطار الداهمة، كان لا بد للأسرة العلمية من أن تتحرك للبحث عن المضادات الواقية من هذه الأخطار. من هنا ولد مفهوم الكيمياء الخضراء وهي تعني مجموعة المبادئ والتقنيات الهادفة إلى القضاء على (أو التقليل من) استعمال أو تكوّن المواد الخطرة والسامة في ابتكار المنتجات والسلع الكيميائية وإنتاجها واستعمالها .

ومن أجل وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ، لم تكتف الدول الصناعية باتخاذ ترسانة متنوعة وزجرية من الإجراءات والقوانين للحيلولة دون استفحال التلوث الصناعي وحماية البيئة، بل عمدت أيضاً إلى توجيه الجامعات ومركز البحث نحو إنشاء مختبرات جديدة متخصصة في هذا المجال وتكوين خبراء وعلماء في حقل الكيمياء الخضراء.

وينكب الباحثون في هذه المراكز على دراسة أفضل الطرق العلمية لاستنباط منتجات استهلاكية وتجهيزية رؤوفة بالبيئة. وتخضع جميع المنتجات المتداولة حالياً في المجتمعات الاستهلاكية لإعادة نظر ودراسة إلى حد التوقف نهائياً عن استعمال بعضها. وتبدأ هذه المنتجات بمواد التنظيف المنزلي وتنتهي بمستحضرات التجميل، مروراً بأنواع المحروقات والأغذية والأسمدة والدهانات والملونات… والقاعدة الأساس في إعادة المسح الشاملة هذه هي التفتيش عن كل المركبات الملوّثة والضارة تمهيداً للقضاء عليها، وإذا ما تعذر ذلك، تخفيف نتائجها.

وفي هذا الإطار، أجرى مرصد نوعية الهواء في فرنسا، وهو من المؤسسات التي أنشئت لمتابعة هذه الاستراتيجية الخضراء، دراسة معمقة للهواء المستنشق في عينة مؤلفة من ثمانين منزلاً وتسع مدارس فعثر على ثلاث مواد سامة: البنزين، وهي مادة سامة مسببة للسرطان، والتتراكلوروإتيلين والتريكلوروإيتيلين وهما أيضاً مادتان ضارتان بالصحة. وتبين للمرصد أن نسبة وجود هذه المواد المسممة داخل هذه المنازل والمدارس كانت أعلى بكثير من نسبة تواجدها في الهواء الطلق في الخارج. أما المسؤول عن ذلك فهو بعض مواد التنظيف المنزلية والديكور. فكيف التخلص من ذلك؟

لحسن الحظ، تمكنت مختبرات الكيمياء الخضراء من إيجاد الحلول العلمية والتكنولوجية الملائمة. ولكن العائق الرئيس أمام تصنيع المواد البديلة على صعيد واسع هو كلفتها العالية، على الأقل في المرحلة الحالية. ورغم ممانعة الصناعيين وترددهم في الانخراط في هذا الطريق الصعب والمكلف، فمن المؤكد أن لا خيار لهم غير ذلك خاصة وأن المستهلكين، بعد أن أدركوا حقهم المكتسب في بيئة نظيفة -على الأقل كما يضمنه لهم الدستور الأوروبي الجديد- باتوا لا يترددون في ملاحقة الصناعيين أمام المحاكم وإجبارهم على دفع تعويضات خيالية ثمن الأضرار التي ألحقوها ببيئتهم وبصحتهم. كذلك فإن الحكومات باتت هي الأخرى ميالة إلى التشدد في حماية البيئة والصحة العامة مهما ارتفع الثمن. وهذه عوامل أساسية ستدفع الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات إلى التخلي تدريجاً عن سياستها السابقة القائمة أولاً وأخيراً على الربح السريع.

تعدد الخيارات يدعم الوعد
الخيارات المتاحة أمام الكيمياء الخضراء كبيرة ومتنوعة. وبعكس الأفكار المسبقة التي روجت لها بعض الشركات الكيميائية الصناعية الكبرى، فإن أحد الحلول النظيفة هو في استعمال مركبات مشتقة من النفط أثبتت البحوث العلمية أنها أقل ضرراً بالطبيعة. وهناك أيضاً بشكل خاص الحلول النباتية.

وحول هذا الموضوع بالذات يقول جويل بارو، مدير مختبر الكيمياء العضوية في المركز القومي للبحوث العلمية في فرنسا: سواء أتم اختيار النفط أو النباتات، فإن العناصر المستخلصة ستكون هي ذاتها والفارق الوحيد بينهما هو أن المنتجات المستخرجة من الزيوت النباتية هي أسرع ذوباناً وتلاشياً في الطبيعة . وهكذا فإن المختبرات بدأت تستعمل الزيوت النباتية المستخرجة من دوار الشمس والكولزا لإنتاج الكثير من المواد الكيماوية الأساسية مثل الأحماض والغليسيرول والأملاح والكحول الدسمة أو أملاح الأمونيوم… ومن المنتجات الاستهلاكية اليومية التي باتت تعتمد على هذه المشتقات الكيميائية النباتية معجون الأسنان ومساحيق التجميل والشامبو المخصص للأطفال. ومن التطبيقات المهمة للكيمياء الخضراء ما بات يعرف بالطاقة المستخرجة من النباتات. ولا تزال أوروبا والولايات المتحدة متخلفة نسبياً في إنتاج هذا النوع من الوقود الأخضر المستخرج من الكولزا ودوار الشمس. فعلى سبيل المثال فإن دولة زراعية كبرى مثل فرنسا لا تنتج سنوياً أكثر من 300,000 طن من هذا الوقود، أي ما يمثل 1 في المئة فقط من الغازويل المستهلك. ولكن الاتحاد الأوروبي أصدرمؤخراً توجيهاً برفع هذه النسبة تدريجاً لتشكل 5.75 في المئة مع حلول العام 2010م.

طبعاً لا يتسع المجال هنا لسبر اتجاهات هذا الفرع الواعد من الكيمياء ولا كل تطبيقاته العملية. إلا أنه من المؤكد أن العالم قد دخل منذ سنوات في ثورة علمية هادئة تهدف إلى إعادة تصحيح العلاقة بين الإنسان والطبيعة. ولعل أهم ما تركز عليه الكيمياء الخضراء هو دراسة التفاعلات الكيميائية التي من شأنها تنظيف البيئة من كل نفاياتها وملوثاتها من خلال ثلاثة محاور رئيسة: تطهير المياه الملوثة، منع التلوث الناتج عن احتراق الوقود في السيارات والمصانع، وأخيراً القضاء على كل أنواع الغازات السامة التي ترمي سمومها في الهواء والأجواء من دون وازع.

فالحفاظ على البيئة لم يعد مجرد حلم يخالج أنفس بعض المثاليين الذين فضلوا الفطرة على التقدم والتكنولوجيا. لقد أصبح قضية حياة أو موت بالنسبة للإنسانية جمعاء. بدليل أن هذه المسألة خرجت من مخيلة الشعراء لتدخل المختبرات والمصانع ومراكز صنع القرار الاقتصادي والسياسي. وإذا كان حلم الكيميائيين القدامى هو كيفية تحويل التراب إلى ذهب فإن هاجس الكيميائيين الخضر هو كيفية تحويل الذهب إلى تراب. أليست المليارات التي تضخ سنوياً ومن دون حساب في هذه المختبرات الخضراء المستقبلية الرامية لإعادة الطبيعة إلى طبيعتها هي الدليل على أن غريزة البقاء والاستمرار تظل، في النهاية، أقوى من كل غرائز التدمير الذاتي؟

أضف تعليق

التعليقات

lama saud

الكيمياء الخضراء مهمة جدا ويجب الاهتمام بها واستخدامها بديل عن الكيمياء السوداء فالأرض لن تتحمل الكوارث التي تنتج عن الكيمياء السوداء فيجب استخدام الكيمياء الخضراء و تجنب المواد الكيميائية المضرة