الرحلة معا

سياحة المغانم

تقول لغة الأرقام إن لدينا ـ نحن السعوديين ـ موقعاً متقدّماً بين الشعوب المصدّرة للسياحة الخارجية. ولا يخلو هذا التعبير، الذي تطرحه وسائل الإعلام، من الظـُّرف. فالتصدير عملية تجارية تبيع الدولةُ من خلالها سلعة لتحصل على قيمتها مالاً. وهو على العكس من الاستيراد الذي تشتري من خلاله السلعة وتدفع المال. ولهذا يعتمد الاقتصاديون على ثنائية الاستيراد والتصدير في تقييم الميزان التجاري للدولة، أية دولة..!

وفي السياحة يختلط حابل الاستيراد بنابل التصدير، إذ تصدر الدولة أموالها إلى الدول الأخرى من دون أن تحصل على سلعة؛ لأن ما يحدث هو أن بعضاً من سكان الدولة يتأبطون أموالهم ليتخلّوا عنها في الدول الأخرى، مقابل زيارتهم تلك الدول، وإقامتهم فيها، والاستمتاع بخدماتها، والتعرف إلى معالمها وثقافتها.. وهذه هي السلعة الطبيعية في اقتصاد السياحة.

وقد تفوّقنا على كثير من الشعوب، بحمل مبالغ طائلة سنوياً إلى ما دون وراء البحار، وإنفاقها من دون العودة بغنيمة ذات قيمة جوهرية. في العام الماضي وحده أنفق السعوديون قرابة سبعة مليارات ريال على السياحة الخارجية، وهو رقم يساوي 53 بالمئة من إجمالي ما أنفقه سيّاح دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعين على السياحة الخارجية..!

ومصدر الغرابة مع مثل هذا الرقم الفلكي لا يكمن في حجمه المادي على الرغم من تخطيه الأسقف المعقولة قياساً بما تعانيه السياحة الداخلية من واقع، بل إن مصدر الغرابة يكمن في تلك الإجابة عن ذلك السؤال البسيط: بمَ يعود السعوديون سنوياً من أسفارهم..؟؟!!

سلبية الإجابة هي التي ترسم مشهداً يتكرر في كل مطاراتنا لأسرة عائدة من بلاد ترتكز إلى حضارة فارهة من دون أن تحمل ذاكرة أي من أفراد الأسرة شيئاً عن متحف تلك البلاد، ناهيك عن آثارها ومعالمها الثقافية.

والإجابة نفسها هي التي تفسر راحة مفتشي الجمارك الذين لا يجدون، بين الملابس والعطورات والساعات والسلع المتوافرة في أسواقنا أصلاً، كتاباً واحداً أو تحفة فلكلورية أو حتى رمزاً من ثقافة تلك البلاد..!

وعلى ذلك تقاس الإجابات الأخرى، وينكشف الواقع الذي يعكس خروج مليارات هائلة وعودة أصحابها مفلسين حتى من معرفة البلاد التي سافروا إليها..!

في بلادنا يثيرنا مشهد الأجانب في أسواقنا القديمة، وبالذات حين يتوقفون عند سلع شعبية. وبعضهم يدفع ضعف الثمن لـ “قُفّهْ”، أو “حصير”، أو بساط من “السدو”، وربما أقلّ من ذلك. على أن هؤلاء ليسو سيّاحاً بالمفهوم التجاري. إنهم وافدون للعمل في الغالب الأعمّ، لكنهم يُدركون أن لكل شعب ثقافته وموروثه وقيمه، ومن خلال السلع التي ربما لا تلقى اهتماماً لدينا نحن، يتعرفون إلى جوانب من ثقافتنا وبيئتنا، ويربطون بعضها ببعض ليعودوا إلى بلادهم وهم على مستوى معقول من فهم ثقافة الشعب الذي عاشوا بين أفراده.

أما حين نسافر نحن، فإننا نعود منهكين متعبين متذمرين، نجرّ حقائبنا جراً، ويتكل بعضنا على بعض حتى في حمل جوازات السفر. وقصارى ما نحمله من ذكريات الرحلة السياحية لا يتجاوز معرفتنا بأسماء الفنادق التي أقمنا فيها، والأسواق، ومواقع الترفيه البريء.. وغير البريء..!

في حين يعود الذين يدركون معنى السياحة مفعمين بالحيوية والنشاط، ممتلئين بالراحة لأنهم صنعوا من تكاليف سياحتهم فعلاً ثقافياً، وحوّلوا تنقلاتهم إلى نوع من التواصل الإنساني مع حضارات مختلفة، وثقافات جديدة، وحياة حافلة بالمعرفة والاكتشاف الذاتي اليومي. وهذه هي مغانم السفر ومكاسب السياحة.

وإذا كانت السياحة العائلية أقلّ سوءاً مما نسميه “سياحة العزاب”؛ فإن كلا النوعين يشتركان في أمر واحد تقريباً؛ هو التركيز على الجانب الترفيهي في الرحلة، وتغليبه على الجانب الثقافي. وكم هو مدهش أن يرافق الرجل منا أسرته، ومعها الخادمة، ثم لا يكون فرق حقيقي بين السفر وعدمه اللهمّ إلا في اختلاف البلاد والعباد..!

مثل هذه النوعية من السياحة تتنقل من مدينة ألعاب إلى أخرى، ومن سوق إلى سوق، ومن فندق إلى آخر، ويتسابق الجميع إلى التكاسل، وتوزيع مهام التثاقل والبلادة، بما في ذلك تناول “الكبسات” المحلية في عقر الديار الأوروبية، الأمر الذي لا يشجع أحدا حتى على التعرف إلى خصوصية طعام تلك البلدان الأجنبية!

ومن الطبيعي، والحال هذه، أن نكون في مقدمة مصدّري السياحة الخارجية التي تقودها ثقافة الاستهلاك المعتادة لدينا. ونتحوّل، بفعل ذلك، إلى مسافرين يبحثون عن فنادق ومواقع ترفيه وأسواق منعزلة عن مجتمعها الذي وُجدت فيه. وفي نهاية الرحلة نعود متأبطين الإفلاس والملل، ومتأففين من دفع فواتير البطاقات الائتمانية وأقساط القروض..!

أما المغانم والمعارف والثقافات، المجانيّ منها والمدفوع، فهي، للأسف، خارج جدول الرحلة المكلفة جدا.!

أضف تعليق

التعليقات