الثقافة والأدب

بدائية وقسوة وخريجون كبار
مدارس أيام زمان

  • 71e
  • 72a
  • 72b
  • 72c
  • 74a
  • 69a
  • 71a
  • 71b
  • 71c
  • 71d

اتصفت المدارس العربية في أوائل القرن العشرين بسمات مشتركة لافتة في مذكرات عدد كبير من المثقفين الذين وصفوا بدقة وبشكل طريف حيناً ومؤثراً أحياناً ما كانت عليه التربية والمدارس التي ارتادوها في مطلع حياتهم.

مهى قمر الدين، ومحمد الفوز جالا في مذكرات عدد من الأدباء العرب، وجمعا بعض الصفات العامة التي شكلت القواسم المشتركة لكل تلك المدارس، ورسما من خلالها صورة التعليم في تلك الحقبة من الزمن.

البدائية هي الصفة الأولى التي يمكن أن ننطلق منها للحديث عن مدارس أيام زمان. فمعظم الأدباء العرب تحدثوا عن مدارسهم الابتدائية بوصفها غاية في البساطة والفقر وعدم التجهيز، وكأن أي مكان يصلح لأن يكون مدرسة.

يذكر الأديب اللبناني توفيق يوسف عواد في كتابه حصاد العمر مدرسته الأولى التي ارتادها في مطلع القرن العشرين فيقول إنها كانت عبارة عن قبو أحد المنازل. وكان يتوسط القبو في الشتاء صندوق من الحديد الصديء يقال له بلهجة زمانهم البابور ويستعمل لإيقاد الحطب فيه للتدفئة. وكان على التلاميذ أن يعدوا الوقود اللازم من عندهم ويتعهدوا ناره. ومن أتى منهم إلى المدرسة من دون قطعة الحطب، فلا يدخل الصف، بل يبقى في الخارج تحت المطر والزمهرير. وكان لهذا الموقد مدخنة أسطوانية طويلة تخترق الحائط لطرد الدخان إلى الخارج. ولكن الرياح كانت تتغلب عليه فتعيد الدخان إليهم، فتصطبغ الوجوه بالأسود، ويعبق جو القبو ويختلط أزيز النار بعطاسهم، بصياح المعلم، بالرعد القاصف، بشهيق التلميذ الراكع في الزاوية قصاصاً له .

أما مدرسة مارون عبّود فكانت في العراء.. تحت شجرة سنديان يجتمع في ظلها الأستاذ وتلامذته، وقد يكون بذلك أوفر حظاً من توفيق يوسف عوّاد.

ومن مصر وصلنا وصف الكتاتيب في مذكرات الكثيرين، منهم أحمد أمين وطه حسين، اللذان وصفا كيف كانا يجلسان على الأرض أو على حصير بالٍ انسلّت منه بعض عيدانه. ويسترسل أحمد أمين في وصف أثاث الكتّاب الذي ذهب إليه، فيقول: كان هناك برميل فيه ماء يكاد يصبح أسود من الأوساخ، عليه غطاء من الخشب، وقد ثُبّت في الغطاء حبل طويل ربط فيه كوز ليستقي منه الناس. وكان يستخدمه النظيف والقذر والمريض والصحيح .

ويتذكر طه حسين في الأيام نفسه جالساً على الأرض في الكتّاب بين يدي سيدنا ، ومن حوله مجموعة كبيرة من النعال كان يعبث ببعضها. وهو يذكر ما ألصق بها من رقع. وكان سيدنا يجلس على دكة صغيرة (تطلق الدكة في مصر على سرير من الخشب معد للجلوس، له على جوانبه، ما عدا المقدمة، سياج صغير). وكان سيدنا قد تعود متى دخل الكتّاب أن يخلع عباءته، أو بعبارة أدق دفيته ، ويلفها لفاً يجعلها على شكل وسادة ويضعها عن يمينه، ثم يخلع نعليه، ويتربّع على دكته ويشعل سيجارة ويبدأ في نداء الأسماء.

ومن أبلغ ما وردنا حول الإمكانيات والتجهيزات في المدارس القديمة، هو ما جاء بقلم الأديب السعودي عبدالكريم الجهيمان الذي كتب في سيرته الذاتية يقول: … لم يكن للأطفال كتب ولا شيء من الأوراق والدفاتر، بل كنا نعتمد على بيئتنا وما فيها من مواد خام. فالأقلام من الشجر، والحبر نصنعه بأيدينا من الصمغ والسواد الذي يعلق بالآلات النحاسية التي توضع على النار. أما الورق فنستعيض عنه بألواح الخشب، نطليها بمادة بيضاء تسمى الصالوخ، نأخذها من الجبال المحيطة بنا. فإذا كتبنا آيات من القرآن الكريم في هذه الألواح، ثم حفظناها، محوناها بالماء، ثم طلينا الألواح ثانية بذلك الطلاء الذي يعطيها لوناً أبيض ناصعاً. وهكذا نستمر نكتب ما نحتاجه من المصحف في تلك الألواح، ثم نمحوه لنكتب غير ما حفظنا. وبهذه الطريقة لا نحتاج إلى ورق ولا دفاتر، ولا نفقات .

من أبناء ذلك الجيل كان ميخائيل نعيمة من المحظوظين القلائل جداً الذين ارتادوا مكاناً ينطبق عليه اسم مدرسة بالمعنى الحديث. فهو الوحيد الذي تحدث عن بناء ضخم مسقوف بالقرميد، تتسع أمامه ساحة للعب الأطفال. ولكننا هنا أمام مدرسة روسية أجنبية، لم يكن لها أية علاقة بالمدارس العربية التي تحدث عنها أدباؤنا الآخرون.

قسوة ينفطر لها القلب
الموضوع الثاني الذي بقي خالداً في ذاكرة الأدباء العرب من مدارسهم الابتدائية هو العقاب والقسوة في تنفيذه على أبدانهم الصغيرة. حتى أن الأديب أحمد السباعي أهدى سيرته الذاتية إلى من جهل أثر التربية العالية في إعداد الجيل… إلى من ظن النجاح في أساليبها القاسية . وحين يتذكر السباعي طرق التدريس والتربية آنذاك يبدو مؤرقاً من بدائية العلم وأساليبه فيقول: كان سيدي الفقيه حازماً بكل معاني الحزم الذي يفسره أبي؛ لأن الحزم الذي يعني التبصر في الأمور كان لغة لا يرقى إليها إلا الندرة من آباء عهدنا ومعلميه.. وأما القاعدة التي كانت شائعة لدى الشيوخ المدرسين في الحجاز ونجد والأحساء فتقول حسبما يورد السباعي: ربِّ ولدك وأحسن أدبه، ما يموت حتى يفرغ من أجله.. أي أن القسوة كانت تصل إلى حدود تستوعب الطمأنة إلى أن التلميذ لن يموت نتيجة العقاب..!

وعندما نتصفح سيرة علاّمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في سوانح وذكريات التي نشرها تباعاً في المجلة العربية ، نراه يرسم صورة المعلم التي كانت تثير الرعب في نفسه. ورغم أنه تحدث عنها باحترام، فهو لا يتجاهل أخطاءها، ونفور أجيال متعاقبة من التعليم نتيجة للخوف من المعلم وسطوته وعقابه الذي يدوي في الجسد.

ويشبه توفيق يوسف عوّاد العصا التي يمسك بها الأستاذ بعصا الموسيقار بيتهوفن. ولكن صاحب هذه العصا كان على استعداد دائم لأن يترك الفن، ويعود عند أول بادرة إلى وظيفته الأساسية وهي الضرب .!

ويتذكر الأديب اللبناني أنيس فريحة عندما انتقل إلى صف المعلم نجيب ، أن هذا الأخير كان يحب الإعراب، وطلب إليه أن يعرب جملة فيها كلمة وتظهر في آخرها علامة الإعراب للتعذر. فكان المعلم يصحح لفريحة قائلاً: … لم تظهر للتعذر، منع ظهورها للتعذر ! فلم يفهم فريحة وكرر خطأه الأصلي. وأخيراً، أنزل الأستاذ نظارته إلى أرنبة أنفه، ولوّح بقضيب الرمان وصاح: للتعذر يا حمار! وتحت وطأة الرعب من القضيب كرر فريحة: للتعذر ياحمار! للتعذر يا حمار! فضج الأولاد بالضحك. وبعدها بثوانٍ كان قضيب الرمان يلهب جسده ضرباً.

وفي مكان آخر، يصف فريحة كيف امتنع عن الذهاب إلى المدرسة ذات يوم مخافة أن يُعاقب بعد أن جاء المفتش إلى المدرسة، وفشل هو أمام المفتش في أن يحل مسألة حسابية واحدة بطريقة صحيحة، تحت أنظار المعلم نجيب المهدد والمتوعد ولا يجرؤ على ضربه أمام المفتش. فهرب في اليوم التالي إلى البساتين بدلاً من الذهاب إلى المدرسة وهو يشتم الحساب الذي فيه كسور من نوع الزلطة والنصف والربع.. .

وفي حالات الجرائم الكبرى
وتعبير الجرائم الكبرى هو لمارون عبود الذي يقول إن عقابها كان الفلق . والفلق في مصر وبلاد الشام واحد. ويصفه أحمد أمين في كتابه حياتي بأنه عصا غليظة معلقة بمسمار كبير على حائط الكتّاب، يزيد طولها قليلاً عن المتر، وفيها ثقبان ثبت فيهما حبل. وهكذا إذا أراد السيد معاقبة ولد من الأولاد، أدخلت رجلاه في هذا الحبل ولويت عليهما الخشبة. فلا تستطيع القدمان الحركة، وينزل هو عليهما بالضرب.

ويضيف أحمد أمين أنه في الكتّاب الثاني الذي ذهب إليه، كان هناك سيد غريب الأطوار، يعقل حيناً ويجن حيناً، ويشتد ويلين، ويضحك ويبكي. ولا يذكر أمين ما الذي فعله عندما نادى السيد ولدين قويين أدخلا رجليه في الفلقة، وأمسك بعصا من جريد النخيل، وأخذ يهوي بها على قدميه بكل قوته، حتى شق قدماه شقاً طويلاً، وتفجر منهما الدم. وبعدها سلمه إلى هذين الولدين يحملانه إلى بيته. وكان هذا آخر عهد له بهذا الكتّاب.

الحكاية نفسها تتكرر في ذكريات سهيل إدريس الذي روى كيف أنه وأخاه امتنعا عن الذهاب إلى المدرسة نهائياً بعد حفلة الفلق التي تعرض لها أخوه في الكتّاب الذي كانا يرتادانه.

وفي الجزيرة العربية لم يكن الوضع مختلفاً في شيء عمّا هو في مصر وبلاد الشام. فالأديب السعودي محمد بن سعد بن حسين يروي في مستهل سيرته من حياتي ما كان يجري له على يد عمه الذي يدرّسه القرآن. فحين اكتشف العم أن تلميذه الذي لم يكن قد تجاوز التاسعة من عمره، قد نسي بعض الآيات القرآنية التي سبق له أن حفظها، غضب غضباً شديداً وضربه ضرباً لم يُمح أثره. وقد بلغت القسوة في العم الأستاذ وحرصه على تحفيظ القرآن لابن أخيه حد المغالاة. فكان ينام هو في حجرة المسجد ويترك تلميذه في البرد الشديد في الخارج ليقرأ بصوت عالٍ. وإذا خفت صوت التلميذ أو توقف عن القراءة، ضربه.

كثير من المشاعر وقليل من الرحمة
ولا تكتمل صورة رحلات الشقاء في مدارس أيام زمان، إلا بالإشارة إلى أن القسوة في معاملة الأساتذة لتلاميذهم لم تكن تقتصر على التحفيظ بالقوة، ولا على العقوبات البدنية، بل شملت أيضاً تغييباً لكل ما يدخل ضمن الاحتياجات النفسية والإنسانية للتلاميذ.

فقد عاش مارون عبود في مدرسة داخلية كان يدخلها في منتصف أكتوبر ولا يخرج منها إلا في منتصف يوليو من العام التالي، حيث لا فرص ولا إجازة ولا من يحزنون . فلم يكن هناك من يأخذ بعين الاعتبار إحساس الأولاد بالشوق إلى ذويهم، ولا شعورهم بالخوف من عصا المعلم والفلق، ولا من يهتم إذا كانوا يحبون مدرستهم أم لا. وما من أحد كان يشعر بالأرواح الميتة والنفوس الكسيرة التي تحدث عنها أحمد أمين في حياتي .

ويستعيد مارون عبود في ذكرياته أول مدرسة داخلية ذهب إليها، فيقول إنه عندما ذهب مع رفاقه للعب في إحدى الساحات القريبة، أتت والدته لتراه وهي تحمل صينية عليها الفول الأخضر واللوز الفريك، والتبولة مع ورق العنب . وطلبت الوالدة من حضرته ، أي الأستاذ، أن يسمح لابنها بربع ساعة ليرى إخوته الصغار. فرفض، وقال للوالدة إن القانون مقدس، وإن العلم لا يتسع لشيء آخر معه، وإن رؤية الأخوة سوف تشغل بال تلميذه أسبوعاً. وطلب منها أن تترك الصبي يتعلم . وبعد ذلك قال لها إن تموز (يوليو) قريب. وما بقي له سوى ثلاثة أشهر ونصف الشهر.

ويضيف مارون أنه عندما نظر إلى والدته وهي ذاهبة، زجره الأستاذ كما يزجر المعّاز عنزة خرجت عن الصف، ويقول إنه شتم الأستاذ، ولكن في قلبه.

وهذا أنيس فريحة يقول إنه ورفاقه كانوا يكرهون المدرسة؛ لأنه لم يكن في المدرسة ما يحببها إلى نفوسهم. ولم يكن في البيت ما يحبب الذهاب إلى المدرسة. فكانت شيئاً ثقيلاً ومكروهاً، وكانت سجناً يقيّد في الأطفال كل خيال، وزريبة تقتل في الأطفال كل ذوق . ويرى أن المعلم يحمل بيده قضيب رمان ليقتل به كل رغبة في الدرس. ولعل فريحة كان أكثر الأدباء قسوة في الحديث عن مدارس أيام زمان، وفي رسم أكثر الصور سوداوية لها فهي: سجن، زريبة، قضيب رمان، غرفة عتمة، دخنة ذات رائحة كريهة، ويستغرب كيف أنه تعلم وحفظ واستوعب.

المضحك المبكي في الحفظ والاستيعاب
كان أسلوب تلقين التلاميذ دروساً يحفظونها غيباً، ومن غير فهم لها في معظم الأحيان، هو الأسلوب المعتمد في معظم المدارس.

وينقل إلينا ميخائيل نعيمة صورة واضحة عن سبل التلقين في ذلك العصر، فيقول: إن جاءت ساعة الدرس، هزّ المعلم عصاه وضرب بها الطاولة أمامه، ثم قطّب حاجبيه وصاح: اسكتوا! فيسكت التلاميذ. ومن ثم يصرخ ثانية ليأمرهم بأن يفتحوا الكرّاس على الصفحة الأولى، وأن ينغّموا مع الأستاذ بملء صوتهم:
ألف – با – تا – ثا – جين – حا – خا
ومن ثم يعيدونها حتى يحفظونها عن ظهر قلب. فمن أخطأ تناولته العصا. ومن أجاد، كافأه بقوله: عافاك، اقعد .

ويؤكد ذلك مارون عبود بالقول إنهم كانوا في ذلك الزمان يعتمدون على الذاكرة يحشون من خلالها عقل الطالب بمحفوظات لا أول لها ولا آخر، شعراً ونثراً من كل عصر، والويل لمن يلحن أو يخرم حرفاً أو يخطئ في حركة .. فتقلع عينه وتصلب وتصلم أذنه .

وكان المتقدمون من الطلاب يتعلمون النحو عن ألفية ابن مالك. شعرٌ منظوم يحفظه التلميذ كالماء الجاري. أما شرح المعلم للألفية فيصفه عبود على الشكل الآتي:

يقول المعلم أولاً بيت ابن مالك بكامله:

كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقمْ
واسمٌ وفعلٌ ثم حرفٌ الكَلِم

ثم يشرح الأستاذ قائلاً: يعني كلامنا لفظ مفيد مثل استقم . وينتقل إلى الشطر الثاني فيقول: معنى هذا الشطر الكلم اسم وفعل وحرف. فهمتم يا أولادي؟ فنجيب بصوت واحد: نعم يا معلمي!
– طيّب، عافاكم، عافاكم.
وينتقل إلى درس آخر.
وتمضي السنة على ذلك المنوال، حيث يستمر الأستاذ في إلقاء ألفاظ على مسامع التلاميذ يضل في واديها الشنفرى ويتيه امرؤ القيس .

ومن الحكايات الطريفة التي يرويها عبود في هذا المجال واحدة تقول إنه عندما حلّ مطلع العام، فرض عليهم الأستاذ أن يكتبوا رسالة إلى آبائهم للمناسبة. فراح التلاميذ يحكّون رؤوسهم فلا يخرج منها شيء، فهرعوا إلى الكتب المخصصة للمراسلات، حتى إذا وقعوا على الرسالة المطلوبة نقلوها بكل أمانة وبعثوا بها إلى أهلهم. وهنا واحدة من هذه الرسائل الطريفة التي نقلها رفيق لعبود عن تلك الكتب ووجهها إلى والده:

والدي العزيز، بعد لثم يديكم وطلب رضاكم الأبوي على الدوام، أحاول أن أكتب إليكم فيفت في عضدي لأن باعي قصير. ولكن شوقي إلى محياكم يجري قلمي في هذا المضمار… إلى أن يقول -طبعاً نقلاً عن كتاب المراسلات- نحن متوجهون نهار الخميس القادم إلى طرابلس الفيحاء . ثم نقل خاتمة الرسالة بشحمها ولحمها ، وبعث برسالته هذه إلى والده، فوصلته مساء الأربعاء. عندما قرأ الوالد الرسالة اضطرب، وشغلت باله عبارة فُتَّ في عضدي وباعي قصير . فخشي أن يكون ولده قد أصيب بمكروه فتَّ عضده وقصّر باعه! وازداد الرجل اضطراباً حين علم بأن ولده متوجه إلى طرابلس. وهكذا توجه الرجل إلى طرابلس على ظهر البغلة، حتى كان عند فجر اليوم التالي على مشارف المدينة. وأخذ يفتش عن ابنه المحروس في الشوارع والأزقة. وعندما تعب قصد المدرسة، فوجد ولده بخير، فحمد الله وسأل ابنه متى رجعت من طرابلس؟ فهزّ الفتى كتفيه وقال: أية طرابلس؟ وقال التلميذ النجيب هذا مكتوب في الكتاب . وكانت دقيقة صمت جزم الوالد فيها أن تعبه غير ضائع، وأن المحروس سيكون من النوابغ إن عاش.

وترك لنا الأديب السعودي حسين سرحان شهادة حول طريقة تدريس الخط العربي الذي كان مادة أساسية في ذلك الزمان. وكتب في الجزء من سيرته الذي خصصه بـ أيام التلمذة يقول: ..كان أستاذ الخط حينذاك الشيخ سليمان غزاوي، وعلى أنه قد أوهنه الكبر وأصبحت يداه ترتعشان عند الكتابة، إلا أن خطه كان فاتن الجمال… كانت (الريش) بكسر الراء المشددة وفتح الياء، محرمة علينا، وكنا لا نكتب إلا بأقلام البوص بعد أن نبريها أو تُبرى لنا، وكانت الطريقة السائدة في الخط أيامها أن نشتري كراريس نجيب هواويني، خطاط القصر الملكي بمصر، ونحاول تقليد الأمشاك على مختلف الخطوط من رقعة، وفارسي، ونسخ، وكانت الأمشاك تحتوي على حكم تقليدية سائدة وأمثال مشهورة على ألاَّ تتجاوز مسافة السطر الواحد.

ويضيف سرحان: والذي لا يجيد تقليد المشك يفرض عليه أن يعيده مئات المرات. لا يتجاوزه إلى غيره حتى يتقنه أو يكاد، فنجد أحدنا إذا أنزلت به هذه العقوبة منعزلاً عن بقية التلاميذ، وأمامه أكداس من فروخ الورق وأقلامه، يبريها ويقطعها مرة بعد مرة، ثم يغمسها في دواة الحبر الأسود، وقد نسيت العناصر التي يتكون منها ذلك الحبر وكيف كان يُصنع؟ سامح الله الشيخ الغزاوي. فقد أذاقني حلاوتها عشرات المرات ولا أحتاج أن أشير إلى بلادة الطبع المتأصلة فيّ مع غير قليل من الشراسة .

أما أحمد أمين فيتذكر أنه ختم في الكتّاب ألف باء على طريقة عقيمة جداً، فأول درس كان ألف ألف لام فاء ، وهو درس حفظه ولم يفهمه إلا وهو في سن العشرين، إذ كان معنى ذلك أن كلمة الألف مركبة من ألف ولام وفاء، ومن أجل ذلك كره الكتّاب والتعليم و السيد . ويقول إنه تنقل في أربعة كتاتيب من هذا القبيل كلها على هذه الصورة، لا تختلف إلا في أن الحجرة واسعة أو ضيقة، وأن السيد ليّن أو شديد، وأنه أعمى العينين أو مفتوح العينين، أما أسلوب التعليم فواحد في الجميع.

ولمحمد بن سعد الذي كان ضريراً تجربة فريدة ومؤثرة مع حفظ النصوص غيباً مع زملائه في الدراسة فيقول: كنّا نقتسم المتون التي نحضر فيها على العلماء، والمتون الأخرى التي نصطفيها تزوداً، فأحدنا يتكفل بحفظ ألفية ابن مالك في النحو، وآخر يحفظ نظم الرحيبة في الفرائض وثالث يحفظ نظم مفردات الإمام أحمد بن حنبل ورابع يحفظ متن ملحمة الإعراب في النحو. ثم يبحث كل واحد منا عن أحد المبصرين ليحفظه خمسة أبيات من الفن الذي تكفل بحفظه. وهكذا، حتى إذا جاء المساء، اجتمعنا ليحفّظ بعضنا بعضاً، وهكذا حتى نحفظ كل هذه المتون .

هكذا كانوا يعلّمون ويتعلمون في ذلك الزمان. ولكن، كما يقول مارون عبود من عقم هذا التعليم أنبتت البلاد رجالاً كان لهم شأن مذكور في تاريخنا. استفادوا وأفادوا لأنهم أرادوا. والإرادة أُمّ الإبداع .

اقرأ للثقافة
السيرة الذاتية
في الأدب السعودي
السيرة الذاتية في الأدب السعودي هي أول دراسة من نوعها تركز اشتغالها على هذا الموضوع في الأدب السعودي. وقد صدرت في كتاب تجاوزت صفحاته 750 صفحة، عن دار المعراج الدولية عام 1998م. وفيه قدم الدكتور عبدالله الحيدري قراءة لما كتبه الأدباء السعوديون لقرائهم من سير ذاتية، جامعاً شتات ما تفرق في المؤلفات الخاصة أو المقالات الصحافية المتناثرة. وقد اهتمّ المؤلف بمفهوم السيرة الذاتية وتطوره باحثاً في التباسات المصطلح، وعلاقته بما يسمّى الترجمة الذاتية وأشكالها المتنوعة. كما درس هويّات كتّاب السير، وسماتهم الشخصية، والأوضاع الزمنية التي عاشوها، وتأثرهم ببيئاتهم الاجتماعية ومكوّناتها التي أسهمت في بناء ثقافتهم وانعكاسها على نتاجهم الإبداعي.

الجانب القصصي واحدٌ من القضايا المهمّة التي طرحها الحيدري، فهو يطغى على السير الذاتية ، وهذا ما يُعدّ تداخلاً يبرّر ما يراه بعض النقاد من تدخل جنس القصة الطويلة أو الرواية السيرية التي تقدم حكاية كاملة متجانسة بأبعادها وظروفها الزمانية والمكانية، الأمر الذي حقق مفهوماً لمعنى الرواية المفتوح الذي يناقشه كثير من المعنيين بالرواية في الوقت الراهن، بحسب ما تطرحه بعض أفكار النقد الأدبي الحديث.

وقد توسّع المؤلف في تناوله بعض الشخصيات الأدبية السعودية، إذ أفرد جزءاً كبيراً للأديب أحمد السباعي الذي كتب سيرته الذاتية في شكل قصة مطوّلة سماها (أيامي) كما أعطى مساحة عريضة لما كتبه الشيخ حمد الجاسر عن سيرته في حلقات نشرها في المجلة العربية تحت عنوان (سوانح الذكريات).

وفي المقابل لم يصل التوسع مداه عند شخصيات أخرى، وربما كان ذلك راجعاً إلى عدم رواج السير الذاتية لدى الأدباء السعوديين بما يكفي. إلا أن المُجمل، في هذا العمل الأدبي المهم، هو أنه فرض نفسه مرجعاً للباحثين بكونه خامة أولية لدراسات أكثر جدية وتعمّقاً، وبكونه، أيضاً، قدم عملاً أصيلاً ورصيناً في تقييم السير الذاتية لأدباء المملكة، خاصة أن العناية قليلة بهذا الجنس من الدراسات، على الأقل في السعودية.

وما يزيد من قيمة الكتاب البحثية، أنه ليس مؤلفاً تاريخياً بالمعنى الذي ينحصر في تقصي مراحل حياة الأدباء بهدف تأريخ تفصيلات حياتهم ولادة ودراسة ونشأة وتكويناً، كما تهتمّ كتب السير والتراجم. بل يدرس الكتاب السير الذاتية التي أعدها الأدباء عن أنفسهم، بما انطوت عليه من ذكريات شخصية وثقافية، وعلى نحو خاص ذكريات الدراسة الأولى.

أضف تعليق

التعليقات