حياتنا اليوم

كارلوس غصن
الإداري الذي أصبح بطلاً شعبياً

  • Nissan Motor CEO Ghosn speaks to reporters at an unveiling of the new Lafesta in Tokyo

لمع اسم كارلوس غصن في السنوات الأخيرة كواحد من أنجح الإداريين في العالم، بعدما حقق من الإنجازات ما جعله يتبوأ مراكز كان مجرد الحلم بها ضرباً من الخيال، ومنها ترؤسه في وقت واحد لاثنتين من كبريات شركات صناعة السيارات: نيسان في اليابان، و رينو في فرنسا. الزميل أمين نجيب يحدثنا عن أبرز الملامح في صورة هذه الشخصية الفذّة، وبعض الأسس التي يتبعها في عمله الإداري.
إنه أول شخص غير ياباني يرأس واحدة من أكبر الشركات اليابانية لصناعة السيارات. وبعدما تولى إدارة شركة رينو الفرنسية قبل شهرين، أصبح اللبناني الأصل كارلوس غصن أول رجل في العالم يدير شركتين لصناعة السيارات: واحدة في اليابان، وأخرى في أوروبا. وصار يقسّم دوامه الأسبوعي إلى قسمين: ثلاثة أيام في اليابان، وثلاثة أيام في باريس.. والسابع للطائرة.

نشأته.. مدرسة بحد ذاتها
الترحال الدائم ما بين عواصم العالم ليس جديداً على كارلوس غصن. فهو من مواليد البرازيل عام 1954م، حيث عاش صباه، ومن ثم عاد إلى موطنه الأصلي لمتابعة دراسته الثانوية في مدرسة الجمهور في الضاحية الشرقية من بيروت، وسافر لاحقاً إلى فرنسا للتحصيل الجامعي.

يقول عارفوه إنه اكتسب الكثير من الأمور التي أغنت شخصيته ودفعته إلى هذا النجاح الأسطوري في عالم الأعمال، من كل مكان عاش فيه لبعض الوقت. فمن البرازيل اكتسب الشخصية الشعبية التي تبادر إلى مصافحة عامل التنظيفات بالحرارة نفسها التي يصافح بها مديراً من مديري شركته. ومن لبنان اكتسب الشخصية العابرة للثقافات والمنفتحة على كل ما هو جديد وعالمي، بما في ذلك اللغات الأجنبية التي يتكلم منها أربعاً بطلاقة إضافة إلى العربية.

وفي مدرسة البوليتكنيك في باريس، لم يكتسب غصن فقط شهادة في الهندسة الكيميائية سنة 1974م، بل أيضاً التداخل والترابط ما بين كافة العلوم والاختصاصات. وأدرك بذكائه ما هية روح العصر الفكرية، التي تبقى باريس السبّاقة إليها من بين كل عواصم العالم. فعرف أن الفلسفة والهندسة وعلم النفس والأدب والفن والاقتصاد كلها من العلوم التي باتت ضرورية للعقل الإداري العصري، وأن الفصل ما بين الاختصاصات الذي ساد في عصر الحداثة قد انتهى.

وبعد متابعة تخصصه في إيكول دي مِن التي تخرج فيها عام 1978م، بدأ العمل في شركة ميشلان لصناعة الإطارات في فرنسا، ومن ثم راح يترقى على السلم الوظيفي في الشركة نفسها التي أوفدته أولاً إلى مصانعها في البرازيل، ومن ثم إلى الولايات المتحدة عام 1989م حيث أصبح مديراً لعملياتها، ومن ثم مديراً عاماً ورئيساً لمجلس الإدارة في ميشلان-أمريكا الشمالية . وهناك، يقول غصن إنه عرف ما هي العولمة وبيئتها. إنه عالم جديد مختلف. فالإنتاج في هذا العصر صار مختلفاً عمّا كان عليه في عصر فورد. إنه اتصالاتي وشبكي بالدرجة الأولى.

قصته مع اليابان
في يونيو من العام 1999م، انتقل هذا المهاجر على الدوام إلى اليابان لإنقاذ شركة نيسان التي كانت ترزح تحت دَيْن يبلغ 22 بليون دولار، وباتت على شفير الإفلاس والانهيار.

كان غصن قد اكتسب خبرة في صناعة السيارات من شركة رينو الفرنسية التي انضم إليها في أكتوبر عام 1996م، وأصبح خلال شهرين فقط نائب الرئيس التنفيذي للأبحاث والتصنيع والمشتريات.

استمهل غصن شركة نيسان ثلاثة أشهر لدراسة المشكلات التي تعاني منها ووضع خطة للإنقاذ. وفي أكتوبر من السنة نفسها كان جاهزاً لإعلان خطته، واعداً بأنه إذا لم يتمكن خلال عام واحد من إنقاذ الشركة ووضعها على سكة الربح فإنه سوف يستقيل.

كانت المهمة شاقة وخطيرة. فهذه الشركة كانت تعتبر من مراكز القوة في الاقتصاد الياباني، ووزارة الصناعة والتجارة الدولية تصنفها كنقطة ارتكاز للسياسة الصناعية ما بعد الحرب العالمية الثانية. والأدهى من ذلك أن خطة غصن تضمنت هدماً للتقاليد والمفاهيم السائدة في الشركة. وهذا ما يعتبر في اليابان من المحرمات، ورآه الكثير من الناس جنوناً صرفاً.

إبداع إدارة جديدة
ركزت خطة غصن على ثلاثة جوانب رئيسة:

أولاً: هيكلية الشركة، وشدد فيها غصن على جملة معطيات أبرزها الشفافية، عليك أن تجعل الناس يتأكدون من أن ما تفكر فيه وما تنفذه هو شيء واحد ، وأن السرعة في التنفيذ يجب أن تتماشى مع إعطاء صلاحيات واسعة للموظفين. فإذا أردت أن تسيء إلى شركة، عليك بتقوية مركزيتها .. وأيضاً لا يستطيع أي من أنظمة المعلوماتية والإدارية أن يحل محل الإنسان .

وأيد غصن قيام بنية إدارية أقل تراتبية وأكثر انفتاحاً. وألغى نظام الوظيفة مدى الحياة المعمول به في اليابان، كما ألغى نظام الترقية حسب الأقدمية، وجعلها حسب الإنتاجية، وصرف الكثير من الموظفين من دون أن يستقدم جدداً.

ثانياً: الإنتاج، حيث رأى أن على الشركة أن تتجه إلى المستهلك مباشرة، من دون أن تكبل نفسها بالتنافس مع الشركات الأخرى مثل تويوتا و هوندا ، كما كان الحال آنذاك. وبما أن المستهلك متنوع ومتجدد على الدوام، فعلى السيارات أن تكون كذلك. وقد دفع منذ السنة الأولى بطرازات جديدة لم تعهدها الشركة من قبل. وكان نجاحها مؤكداً.

ثالثاً: الإدارة المالية، إذ كانت نيسان مثل باقي الشركات اليابانية تتبع نظام الكريريتسو (Keiretsu)، وهو عبارة عن شبكة من العلاقات المالية وأحياناً الإدارية بين كافة الشركات والبنوك اليابانية، تشتري بموجبه كل شركة أسهماً متقاطعة، بهدف الحؤول دون اكتتاب الأجانب بكميات كبيرة من الأسهم تؤثر على الاقتصاد الوطني ككل، فقد وجد غصن في هذا النظام عائقاً كبيراً، فما كان يصلح قبل العولمة لم يعد كذلك بعدها. وعندما طرح هدم هذا النظام رأى الكثير من الخبراء أن الأمر جنون مطبق. لكنه مضى في تنفيذ خطته، وألغى 1400 شراكة مرتبطة بهذا النظام، وأبقى على 4 فقط. وأكثر من ذلك، صرف من الخدمة كل من كان مديراً في تلك الشركات. كما صرف أيضاً كل مدير يرتبط بصداقة مع مديرين كانوا يعملون في الشركة، وفتح الإدارة المالية على السوق الحرة وفق الطريقة الأمريكية واعتبر ذلك ثورة كبيرة على تقاليد لم تكن تُمس حتى ذلك الوقت.

وخلال أقل من سنة كان غصن قد أوفى بوعده، وتحققت الأهداف التي وضعها نصب عينيه أمام ذهول أوساط الأعمال في العالم بأسره.

الإداري بطل شعبي
لقي أسلوب كارلوس غصن في الإدارة مديحاً على أعلى المنابر الاقتصادية في العالم، ومنها مجلة هارفرد بزنيس وصحيفة الوول ستريت جورنال الشهيرة واختارته مجلة الأوتوموبيل الفرنسية رجل العام على صعيد العالم.

أما في اليابان فقد تحول بنجاحه وشخصيته الفريدة نجماً شعبياً، حتى أنه أصبح بطل سلسلة من الكتب المصوّرة، يباع من الواحد منها نصف مليون نسخة!!

أما شركة رينو الفرنسية التي عادت وتلقفته لتشارك نيسان اليابانية في الاستفادة من عبقريته، فقد أجرت استطلاعاً سألت خلاله ألفاً من مديري الشركات في العالم عن أفضل الإداريين من وجهة نظرهم، فكان كارلوس غصن واحداً من بين أهم ثلاثة في العالم.

أضف تعليق

التعليقات