قصة مبتكر
قصة ابتكار
جون هاريسون
عود الثقاب
هو مصمم ساعات إنجليزي ابتكر أول ساعة بحرية في العالم تسمح للسفن المبحرة في المحيطات من تحديد مواقعها بدقة من خطوط الطول. الأمر الذي شكّل تعزيزاً لا مثيل له لسيادة بريطانيا على البحار. ولد جون هاريسون في مارس من العام 1693م، لأب يعمل في صناعة المفروشات. واضطر جون الصغير إلى تعلّم الحرفة نفسها عن والده غير أن ولعه بصناعة الساعات جعله ينصرف إلى العمل في تصليحها في أوقات الفراغ، ومن ثم كمصمم ومبتكر لطرازات مختلفة. في ذلك العصر، كانت السفن تفتقد القدرة على تحديد مواقعها بدقة في المحيطات، وتعتمد في ذلك على تقديرات الربابنة. وقد فشل كل من غاليليو ونيوتن في ابتكار وسيلة لتحديد المواقع من خطوط الطول؛ لأن اهتمامهم تركز على الاستدلال بالقمر ومواقع النجوم. في العام 1728م، أعلنت جمعية علماء الفلك في بريطانيا عن جائزة خطوط الطول وقيمتها 20,000 جنيه لمن يستطيع وضع نظام أو جهاز يسمح للسفن بتحديد مواقعها خلال الإبحار. وعلى الفور بدأ هاريسون العمل. وضع أولاً رسوم مشروعه وحملها إلى جورج غراهام أشهر صانعي الساعات في بريطانيا طلباً لدعمه، فحظي ببعض التمويل. وبعد سبع سنوات، وضع جهازه الأول المسمى هاريسون رقم 1 أو H1 . لم يكن الجهاز دقيقاً تماماً، ولكنه شجع القائمين على الجائزة على منح المبتكر 500 جنيه لتطويره. وبعد ثلاث سنوات، أكمل هاريسون بناء H2 ، ولكن الحرب البريطانية الإسبانية اضطرته إلى إبطاء مشروعه لأن الابتكار كان على قدر من الأهمية لا يسمح بوقوعه في أيدي الإسبان، فاستغل هاريسون هذا الوقت لوضع الصيغة الثالثة من الجهاز H3 ، التي لم تعجبه لعدم دقتها. فانصرف إلى وضع الصيغة الرابعة H4 . استغرقت صناعة الجهاز H4 نحو 13 سنة إضافية. وأصبح هاريسون في الثامنة والستين من العمر. وجُرِّب هذا الجهاز عام 1761م في رحلة إلى بربادوس وكان مقدار الخطأ ميلين فقط. واعتبر نجاحه ضربة حظ. ورفضت لجنة الجائزة دفع القيمة الكاملة، وعرضت تسوية تقضي بدفع ربع الجائزة فقط، فرفض هاريسون، وأعاد تجربة الجهاز في رحلة أخرى إلى بريدجتاون، فنجحت. ولكن اللجنة عرضت هذه المرة دفع نصف الجائزة فقط؛ لأن التلاعب السياسي بجهود هذا المبتكر كان أقوى منه. انصرف هاريسون إلى تصميم الصيغة الخامسة من الجهاز، ولكنه بعد سنوات ثلاث من العمل، تعب وانهار. فنقل شكواه إلى الملك جورج الثالث الذي جرّب الجهاز H4 في قصره، وبعد عشرة أيام، تأكد الملك من دقته، فضغط على البرلمان لكي يوفي المبتكر حقه، ويدفع له قيمة الجائزة كاملة. الأمر الذي حصل عام 1773م أي قبل سنوات ثلاث من وفاة هذا المبتكر. وظل الجهاز نفسه الذي لا يزيد حجمه على حجم ساعة جيب كبيرة قيد الاستعمال من قبل كل بحّارة العالم حتى القرن العشرين.
صغير في حجمه ومتواضع في اللهب الناجم عن اشتعاله، إلا أن ابتكار عود الثقاب كلّف الكثير من الأرواح خلال مراحل تطويره التي استمرت لقرنين ونصف من الزمن، ناهيك عن ضحايا الحرائق الناجمة عن سوء استعماله. بدأ التفكير في إنتاج أعواد مشتعلة بعيد اكتشاف الفوسفور عام 1680م على يد روبرت بويل. ولكن عود الثقاب كما نعرفه لم يظهر في أول أشكاله إلا عام 1827م على يد الصيدلي البريطاني جون ووكر الذي أنتج أعواداً طول الواحد منها نحو 8 سنتمترات، ومغطاة عند طرفها بمادة كبريتيد الإثمد وكلورات البوتاس والصمغ. ويشتعل هذا النوع من الأعواد عند حكه على ورق رملي خشن يشبه ورق الصقل، ليصدر عنه لهب وشرارات تتناثر أينما كان من حوله. بعد ذلك بسنوات قليلة نجح الفرنسي شارل ساوريا، وهو طالب كيمياء، في إنتاج أول عود ثقاب يشتعل بمجرد احتكاكه بأي سطح؛ لأن رأسه مغطى بالفوسفور. وبسرعة وصل هذا الابتكار إلى أمريكا حيث سجله الترو دي فيليبس عام 1836م، وراح ينتج أعواد الثقاب يدوياً ويبيعها من خلال تجواله على المنازل والأسواق. وهنا وقعت الكارثة. لم يعلم المستهلكون الأوائل ولا فيليبس نفسه بأن الأبخرة الناتجة عن احتراق الفوسفور بالغة الخطورة؛ إذ تؤدي إلى مرض النخر (أي تحلل عظام الفك، ومن ثم الموت). توفي الكثيرون، وغالبيتهم من العمال نتيجة تعرضهم للغازات الفوسفورية.. واستمرت الأزمة حتى العام 1910م عندما فرضت الحكومة الأمريكية ضرائب باهظة على أعواد الثقاب الفوسفورية، مما كاد يودي بهذه الصناعة إلى التوقف والانقراض. ولكن بموازاة هذا العود السام، كان هناك اختراع وتطوير لأعواد ثقاب الأمان التي اكتشفها السويدي غوستاف إي باش عام 1844م. وفي هذا النوع يتشكل رأس العود من كلورات البوتاس التي تشتعل عند احتكاكها بسطح ذي طبيعة محددة يوضع عادة على جانب صندوق الأعواد، ويحتوي هذا السطح على مركبات الفوسفور والرمل. وطوّر المحامي الأمريكي جوسيا بيوزي هذا الابتكار بصناعة العود نفسه من الورق المقوّى بالشمع بدلاً من الخشب عام 1892م. ولكن الأعواد الورقية لم تلق رواجاً حتى الحرب العالمية الأولى. تركزت صناعة عود الثقاب في السويد لسنوات عديدة، بعدما أسس إيفر كريجر شركة أعواد الثقاب السويدية التي نمت حتى أنشأت مصانع لها في نحو 40 دولة. ولكن الأزمة الاقتصادية عام 1929م، دفعت بكريجر إلى الانتحار. واحتاجت الشركة إلى بضع سنوات لتقوم من كبوتها، وتعيد سيطرتها على صناعة اللهب الصغير في العالم. صناعة عانت منافسة خطرة من ولاّعة الغاز بدءاً من منتصف القرن العشرين، ولكنها ما زالت قائمة ونشطة بما يكفي.