حياتنا اليوم

العم علي..
سائق الباص رقم 12!!

  • THE-MAN

علي جامديد، معروف أكثر باسم العم علي عند آلاف التلامذة الذين كان يصحبهم يومياً، ولأكثر من ثلاثين سنة. من البيت إلى المدرسة، حتى أصبح جزءاً من الذاكرة الاجتماعية الحية في مدينة الخبر. عمر يوسف الذي يعمل اليوم محاسباً، يرسم صورة الرجل الذي عرفه جيداً، وحكاية النجاح العلمي والأبوي والاجتماعي الذي حققه «سائق الباص رقم 12».

هذه المدينة قدري ..
وهذه المدرسة بيتي ..
وهذه الحافلة رفيقتي ..

والحياة رحلةٌ طويلةٌ في حافلة كثيرة المقاعد .. يجلس كل منا ليؤدي دوره وعندما يصل إلى نهاية مشهده يترجل بكل هدوء , وهذه الحياة لاتقف طويلاً في محطة واحدة فغذاؤها الحركة والترحال.

بسنواته الخمسين، وشعره الأسود القصير وسمرته الحانية يطوف العم علي بيوت الخبر وشوارع الظهران منذ ثلاثين عاماً، ينقل الطلاب من بيوتهم إلى مدارسهم ويعيدهم إليها في نهاية كل يوم دراسي.

حتى في صباحات الشتاء الباردة وأيام الإجازات والعطل الأسبوعية لا يستطيع النوم بعد طلوع الشمس, فقد درج منذ ثلاثة عقود على الاستيقاظ كل صباح قبل أن تفتح المدينة عيونها، ليبدأ رحلة تجميع الأطفال باكراً، حتى يتمكن من الوصول قبل الطابور المدرسي بربع ساعة.

يعرف العم علي سكان المدينة كما يحفظ كل دروبها, في كل تقاطع بالخبر قصة طالب رافقه في رحلة الصباح لعام أو عامين في أقصر الأحوال.

لستة أعوام خلت، كنت أقف بانتظاره كسولاً نصف نائم كل صباح. وفي تمام السادسة والربع أجدني على مقعدي السادس من اليسار بقرب النافذة، وابتسامة العم علي لاتفارق وجهه حتى أستقر تماماً في مكاني. وعندها يغلق الباب بإحكام ثم يطلق صوت القارئ عبدالباسط عبدالصمد ليملأ الزمان والمكان. ولم أكن الأول في رحلة النور تلك. فقد سبقني أخي ماجد الذي يعمل مرشداً مدرسياً منذ خمسة أعوام, وقبله أخونا البكر خالد الذي يعمل اليوم محاسباً. ولأن العم علي إرث عائلي، لم يطمئن قلب أخي خالد على بكره وحفيد والدي الأول يوسف حين سجله في الصف الأول الابتدائي في المدرسة نفسها حتى حجز لصغيره مقعداً في حافلة العم علي..

هكذا يروي المحاسب عمر يوسف قصته العائلية مع الباص رقم 12..

لا وقت متأخر على التعلم
العم علي، واسمه الكامل علي جامديد، ذاكرة شرقية بامتياز. فهو يذكر الخليج العربي عندما كان ينام على سور الخبر القديم. وقلما وجد بيت لايعرف صاحبه أو جاراً لصاحبه. فقد كانت المساجد معدودةً والمدارس معروفة ومحصورةً تلك الأيام. كما يعرف المطاعم القديمة وما زال يذهب كل عيد إلى محلات تجار الخبر القديمة التي بدأت منها رحلة الألف ميل. وهناك وسط الخبر ترتسم الابتسامات على وجوه الباعة، فالناس يعرفونه ويبتسمون له كمن يشاهد مقطعاً قديماً من فلم جميل يذكِّره بشيء من شبابه!

قربه من التعليم والمعلمين غرس حب التعلم في قلب العم علي, فهو يحكي عن نفسه أنه عمل في عدة شركات مختلفة خلال سنوات الطفرة. وحين قادته الأقدار لكي يكون سائق الحافلة رقم 12، اكتشف أن بإمكانه مجاراة الطلاب الذين ينقلهم كل صباح.. وبتوجيه من أصدقائه المعلمين وتحقيقاً لأمنية قديمة بقراءة اللوحات الإرشادية على الطرقات السريعة، انتسب إلى مدرسة عمر 
ابن الخطاب لمحو الأمية وفيها أكمل دراسته الابتدائية, ومن ثم انتقل إلى المدرسة المحمدية بحي البايونية ومنها نال شهادته المتوسطه بتقدير جيد جداً!

انعكس تعليمه المتأخر على حياته فنذر نفسه لتعليم أبنائه الثمانية. وقد احتفل قبل عام بتخرج بكره من كلية الطب، وينتظر تخرج ابنته كفنية مساعدة لطبيب الأسنان هذا الصيف. ويقول عن نفسه إنه سعيد جداً لأن الأحلام التي لم يستطع إكمالها قد أصبحت واقعاً بفضل التعلم والتعليم في المملكة العربية السعودية .

ويحكي المهندس وائل بوشه حكايته الطريفة مع العم علي في مطار الملك فهد الدولي رمضان العام الماضي. فقد كان وائل بصحبة طفليه أسامه وزياد عندما لمح رجلاً بطول العم علي ومشيته السريعة ورأسه المرفوع يمشي بجواره على عجل فلم يتمالك إلا أن يحضنه من الخلف, وحين التفت إليه العم علي ابتسم ابتسامة عميقة وضحك من أعماق قلبه قائلاً: «ماكل هذا ياوائل .. لقد أصبحت عجوزاً مثلي!!».

فلم يكن من وائل إلا أن عاتب العم علي على عدم حضوره عقيقة ابن أخيه الأصغر الذي كان أيضاً من أبناء العم علي وأحد مشاكسي الباص رقم 12..

في الخبر.. كالسمك في بحره
يعتقد العم علي أنه رجل محظوظ.. فهو لم يواجه أية صعوبات في السنوات العشر الأخيرة من عمره عندما كان يحتاج إلى إنهاء أية معاملة له في الدوائر الحكومية أو حتى عندما يكون في زيارة خاطفة لإدارة المرور أو المطار وحتى في البنوك.. فهناك على الدوام طفل أصبح كبيراً، ولم ينس مقعده خلف العم علي في الباص العتيق رقم 12.

إنني أتنفس البحر.. وكل الناس يتنفسونه في هذه المدينة الصغيرة الهادئة النائمة على كتف الخليج. فالخبر في عين العم علي لم تزل بكراً صغيرةً مقارنةً بالرياض العريضة جداً وبالعجوز الغارقة في التاريخ والحضارات المدعوة جدة.

وحول مدينته الخبر، يقول العم علي: «الناس هنا شأنهم شأن سكان كل المدن الساحلية خليط من هذا البلد الكبير المترامي الأطراف. ولأن المدينة حديثة العمر نسبياً فإن هويتها الكاملة لم تتبين بعد ولا توجد تلك العادات التي تصهر أهل المدينة جميعاً ولا تلك اللهجة الواحدة التي تميزهم عن أهل المدن الأخرى. إن إيقاع الحياة هنا سريع جداً فلا يبدأ النهار حتى تجد نفسك عائداً إلى العمل في الصباح الذي يليه. إنها مدينة لكسب العيش والتعايش والانفتاح على الآخرين».

ويكمل: «لقد زرت هذا البلد من شماله إلى جنوبه, ومن شرقه إلى غربه, فقد اصطحبت الأطفال إلى معرض أرامكو السعودية لأكثر من ثلاثين مرة. وكنا في كل رمضان نذهب إلى العمرة مع أوجه النشاط اللامنهجية، ورافقت بعثات الحج حتى زمن قريب, وقد زرنا جبل قارة في الأحساء ومدائن صالح ومزارع القصيم ومهد الذهب، وطفنا الحجاز ونجد».

لقد شكَّل العم علي بكاريزما السائق المربِّي والصديق لأكثر من جيل في العائلة الواحدة، قيمة جمالية لا يمكن لأحد من طلاب مدرسته أن ينساها أو يتناساها. لقد كان حنوناً عليهم وكان معروفاً بأنه السائق الذي لايتحرك من أمام الباب حتى يدخل الابن ويغلق باب بيتهم بالكامل, لذا كان يستأمنه الآباء على أبنائهم جيلاً بعد جيل..

لم تكن تلك صفته الوحيدة، فقد كان حاضراً دائماً في الأفراح والأتراح. وقَلَّ عُرْسٌ لطالب من طلاب الباص رقم 12 لا يتواجد فيه العم علي ناشراً الابتسامة والسرور.

يقضي العم علي إجازته السنوية بين مسجده الذي بناه في قريته، ومدرسة التحفيظ التي يشرف على تخريج أبنائها كل عام. فقد كان قدره أن يولد في هذه القرية البعيدة عن البحر وأن تختطفه مدينة أخرى لتلبسه لبوسها في كل الفصول.

فالحياة كما قال ويقول لأبنائه: «رحلة كبيرة في حافلة كثيرة المقاعد, يجلس كل منا ليؤدي دوره فيها, وعندما يصل إلى نهاية مشهده.. فإن عليه أن يترجل من الحياة بكل هدوء»!!

أضف تعليق

التعليقات