بعد سنوات من البحث والتنظير في فكرة القيادة والتغيير، يكشف الأستاذ في كلية هارفارد الأمريكية للأعمال جون كوتر في كتابه الجديد «إحساس بالطوارئ» عن الحل لمشكلة الأداء المتواضع للشركات. الحل في نظره، هو الإحساس العام والعارم بحالة من الطوارئ. إسعاد عثمان تعرّف الطوارئ المقصودة، وتشرح دورها على أداء المؤسسات والأفراد، بالإضافة إلى استراتيجيات تفعيلها إدارياً.
إذا شئت، يمكنك أن تشبه ما ينصح به البروفيسور الوقور جون كوتر الشركات بنسخ الطريقة التي تعمل بها غرفة عمليات الجيوش في الحرب أو أكثر أقسام الطوارئ ازدحاماً في مستشفيات المدن الكبرى. كوتر يقول في كتابه الصادر مؤخراً «إحساس بالطوارئ» إن التغيير الديناميكي في أداء الشركات لا يتأتي إلا بإضاءة النور الأحمر وإعلان حالة من الطوارئ.
وهذه الدعوة ليست جديدة على كوتر، فقد قدَّمها عام 1996م في كتابه الذي يُعد اليوم من الكتب الكلاسيكية في عالم الأعمال «قيادة التغيير». في هذا الكتاب الرائد حلل كوتر جهود التغيير التي بذلتها مجموعة من الشركات لتقديم أنظمة جديدة مختلفة إلى هيكلها الوظيفي، مثل تطبيق أنظمة إلكترونية حديثة واستراتيجيات نمو مبتكرة وإعادة التنظيم لتقليل تكاليف الإنتاج. وكانت نتيجة التحليل أن %70 من هذه الجهود تمت، لكن بميزانية تفوق المطلوب بمراحل، وبتأخر كبير عن الجدول الزمني الذي وضعت ضمنه خطة التغيير، وبروح معنوية محبطة ومرّة لدى الموظفين، أو لم يتم إطلاقها بشكل كامل أو فشلت تماماً. أما %10 من الحالات ضمن الثلاثين بالمئة الباقية فقد وجد الباحث أن أداء الموظفين قد وصل إلى ذروة لم يتوقعها أكثر المديرين تفاؤلاً.
ما التفت إليه كوتر هو أن شركات شريحة العشرة بالمئة الناجحة اتبعت، ودونما اتفاق، معادلة إدارية واحدة تكررت رغم الاختلاف الكلي في طبيعة أعمال الشركات وبرامج التغيير المقدَّمة داخلها. أثارت المعادلة اهتمام كوتر، وحللها ليخلص إلى وضع برنامج من 8 خطوات ينصح بها أية شركة تنوي تغيير أي من سياساتها. تبدأ الخطوات بالترتيب بإنشاء حالة من الطوارئ، تليها صياغة مرشدة وفعّالة، ثم خلق رؤية محددة ومن ثم إيصالها إلى الجمهور المعني بالتغيير. وتتضمن الخطوة الخامسة تمكين الآخرين من العمل باتجاه تنفيذ مبادئ هذه الرؤية. أما السادسة فتتضمن التخطيط لخلق مكاسب على المدى القصير، ثم تجميع الجهود المبذولة وإنتاج المزيد من التغيير، وأخيراً خلق ثقافة جديدة لدى عامة الموظفين تتبنى منهج التغيير الذي بدأ كرؤية.
وعندما صادف كوتر التحليل نفسه في دراسته اللاحقة المعنونة بـ «قلب التغيير»، وصل إلى قناعة مفادها أن الخطوة الأولى: إنشاء حالة من الطوارئ، هي الخطوة الأساسية والضرورية ليتخذ الناس هذه القفزة الهائلة من المعتاد والمريح، إلى الجديد المجهول. وللتحقق من هذه القناعة، أعاد كوتر النظر في منهج بحثه واعتبرها فرضية أساسية يسعى لتأكيد صحتها من عدمها، وبدأ في توجيه مجموعة من الأسئلة إلى المديرين وصنّاع القرار في الشركات الكبرى لبحث فرضيته بعمق، ولم تزده الإجابات إلا اقتناعاً بأهمية دور حالة الطوارئ في صناعة التغيير.
لنعرّف الطوارئ أولاً..
إذن، ما هي الطوارئ التي يتحدث عنها جون كوتر في كتابه تحديداً؟ يقول كوتر إن حالة الطوارئ في الشركات لا تعود إلى شعور بالواجب أو الرغبة العقلانية في النجاح وزيادة عائدات المؤسسة المالية، بل هو إحساس غريزي يدفع البعض منا إلى خطف الفرص، مع تحاشي أخطارها بدقة مدروسة لا تفسدها آنية الحدث. هي أيضاً قرارٌ حي وحيوي بتحقيق ما هو مهم الآن-اليوم، وليس الشهر القادم، أو الأسبوع القادم، أو حتى الغد. هي إدارة نشطة، دائماً ما تنحي النشاطات غير المنتجة، وتركز على اتخاذ القرارات المصيرية وإن صغرت، بسرعة وذكاء لتحقيق إنجاز ما في نهاية اليوم، وهي سلسلة من الأفكار والمشاعر والتصرفات التي لا ترتبط بأي حال من الأحوال بقائمة لا تنتهي من النشاط المرهق، بل هي انشغال مركز وفعّال بشأن المسائل الحيوية المصيرية لنجاح الشركة في مستقبلها القريب والبعيد على حد سواء، وهي تقييم مستمر للأولويات بحيث يتم العمل والتركيز على حل الأمور ذات القيمة الحقيقية، ويقودها شعور حاسم عارم بالرغبة في الفوز وليس القلق من الخسارة، ومع مثل هذا الشعور، ينجز الفرد مهمةً ذات ثقل كل يوم، ويشعر بالتالي بالنجاح كل يوم.
أما الجانب المتطرف المعادي لرفع حالة الإحساس بالطوارئ فهو حالة الطوارئ المغلوطة غير المرشدة، والتي يقودها الإحساس بالغضب والإحباط والتوتر، وتظهر عبر الركض من اجتماع لآخر، وإنتاج مجلدات من الورق تسجل توصيات هذه الاجتماعات، وتلخص خططاً تنموية متتالية لا يطبقها أحد، والدوران في حلقة مفرغة مع الإعاقات المصاحبة لهذا النوع من الدوران: قلق وتوتر وإحباط وإخفاق، والنتيجة واحدة، إغفال الفرص الحقيقية للنمو والبناء والتطوير، وضياع التركيز على النجاح.
استراتيجيات وتطبيقات
دراسات الأعمال المجردة تخاطب العقل، ويشير كوتر إلى أنه لزيادة رفع مستوى الوعي بإلحاح التغيير على خطط التغيير مخاطبة القلب أيضاً. المسألة ليست إدراكاً منطقياً بضرورة التحرك، بل هو هاجس انفعالي شبه قهري بضرورة التحرك والفوز.. الآن.
يذكر الكاتب أن أهم التكتيكات المستخدمة لرفع مستوى الإحساس بحالة الطوارئ هي أربعة، أولها هو تقديم واقع المؤسسة الحالي بشكل دراماتيكي كما يراه المشاهد المحايد من الخارج إلى جموع الموظفين المستغرقين في أداء المؤسسة ومشكلاتها الداخلية. وهذا لا يكون عبر تقديم مجموعة من البيانات وإلقائها عرضاً، أو حتى كتابتها وتنظيمها في أهداف وعرضها على برنامج «الباوربوينت». بدلاً من ذلك، تقديم هذا الواقع عبر خلق تجربة متكاملة تخاطب عواطف المتلقي وتشمل شهادات من أشخاص، معلومات، دراسات.. إلى آخره. ثانيها هو اعتناق المسؤولين في أعلى هرم المؤسسة الوظيفي للإحساس بحالة الطوارئ، والتصرف على أساسها كل ساعة وكل يوم، وهذا لا يتم عبر إلقاء الخطب والعبارات المؤثرة بل هو عبر الأداء الواضح الذي يمكن مشاهدته وتقييمه بحيث يمثل قدوة حسنة لبقية الموظفين. ثالثها حرص سياسة الشركة على التطلع إلى «الفائدة» التي تأتي من رحم الأزمة، بعناية فائقة ومن دون إيجابية حسنة النية.
الأزمات في هذه الاستراتيجية ليست خطراً يهدد المؤسسة فحسب، بل هي أيضاً في نفس الوقت فرصةً تنتظر من يكتشفها لتحرِّك الماء الساكن في البركة الراكدة لأداء الشركة، هذا بالطبع إن استغلت جيداً، أما إن لم تستغل، فنتيجتها الطبيعية حالة من الطوارئ المغلوطة التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من الفشل والإخفاق.
أخيراً، التكتيك الرابع هو مواجهة مشكلة المنهزمين ضمن موظفي الشركة، ويقصد الكاتب بهؤلاء الذين يواجهون كل فكرة جديدة بالرفض والسلبية التي تضعف إيمان البقية بالقدرة على الإنجاز، ويجب أن تتم مواجهة هؤلاء بحزم وبصرامة، من دون قبول ما تسلم به بعض الشركات الأخرى من أن وجود هذه الشريحة أمر حتمي.
الاستراتيجيات الأربع، كما يشير الكتاب، تؤثر على المواقف والأفكار والمشاعر والآمال والأحلام والتصرفات، وتحوّل الرضا الساذج بما عليه الحال إلى عزيمة لا تلين للحركة والتغيير الإيجابي الآن.
أهمية الكتاب تأتي من أن التغيير اليوم انتقل من كونه عارض مرحلي ومؤقت تواجهه الشركات بين عقد وآخر إلى حالة دائمة ومستمرة، فلم يعد الأمر يتعلق فقط باتخاذ قرار دمج بين شركتين على سبيل المثال، بل يتعلق أيضاً بتطبيق استراتيجيات وأنظمة حاسوبية مختلفة وفيضان لا يتوقف من المشاريع والأمور المستجدة، وأهمية الكتاب تكمن أيضاً في الملاحظة أن الشعور بحالة الطوارئ انتقل من عنصر مهم ضمن خطة برنامج للتغيير إلى عنصر ضروري لأية إدارة بالمطلق.