مع بدء الموسم الدراسي ينصب اهتمام الأهل على متابعة مستويات التحصيل عند أولادهم، ويطرح الطلاب الضعاف أمام ذويهم تحديات يسعى هؤلاء إلى رفعها لإلحاق أبنائهم بالمتقدمين عليهم. فما هي أسباب تقصير بعض الطلاب في مدارسهم؟ وهل المدرّس الخصوصي هو الحل؟
ثلاثة مختصين يطرحون هنا جوانب مختلفة من القضية. فالمدرس المتقاعد محمد ياسر الفتوى يعرض مجموعة كبيرة من الأسباب المختلفة التي قد تضعف التلميذ وتؤخره في تحصيله العلمي. والمدرس المجاز في التربية خالد أحمد الشنتوت يبحث في الدور الذي يمكن أن يؤديه المدرس الخصوصي بإيجابياته وسلبياته، مستنداً في ذلك إلى خبرة زادت على الأربعين سنة في التدريس. كما يتناول الباحث عمر قمر الدين قضية “القُرَاء” التي رصدها العلم أخيراً، لفرادتها وخروجها عن إطار المتاعب التقليدية التي يعانيها الطلاب الضعاف.
1
تقصير أم قصور..؟
محمد ياسر الفتوى
تختلف أسباب التقصير الدراسي بين مرحلة تعليمية وأخرى. ولا عجب في ذلك، طالما أن المؤثرات النفسية والاجتماعية المسببة لضعف الطلاب في التحصيل العلمي تختلف حسب الأعمار والاهتمامات والتحديات التي يواجهونها. ونبدأ جولتنا على أهم هذه الأسباب انطلاقاً من المرحلة الابتدائية.
1 – الافتقار إلى المرحلة التمهيدية: فالأطفال الذين لم يمروا بمرحلة تمهيدية ولم يذهبوا إلى رياض الأطفال قبل تسجيلهم في المدارس قد يعانون ضعفاً في المتابعة والتحصيل بسبب عدم تهيئتهم سابقاً، ذهنياً ومسلكياً، لتقبل نظام المدرسة، ويتأخر بعضهم (وليس بالضرورة كلهم) عن اللحاق بتلاميذ هم بسنهم نفسها، لكنهم بمرورهم برياض الأطفال كانوا قد تعودوا على النظام المدرسي وأُعدوا إعداداً لائقاً للتأقلم مع نظام المدرسة.
إلى ذلك تلعب مسألة السن المناسبة دوراً مهماً في مستوى التحصيل الدراسي، إذ يحصل أحياناً أن يلمس الأهل تفوقاً نسبياً لدى ابنهم في رياض الأطفال، فيسعون جاهدين إلى أن يقفزوا به فوق سنة دراسية كاملة، فيسجلونه في صف أعلى من الذي يفترض أن يكون فيه. وإذا ما فعلوا ذلك، فإنهم يقحمون صغيرهم في معاناة ربما لا يطيقها، وتنعكس لاحقاً على مستقبله ضعفاً وتلكؤاً.. وأما إذا كان الطفل قد تأخر لسبب قاهر عن دخول المدرسة ووجد نفسه بين رفاق أصغر منه، فيجب إيلاء وضعه أهمية بالغة لما قد يتشكل عنده من تأزم نفسي قد يصعب حله، ويكون سبباً مباشراً في الضعف واللامبالاة.
2 – بطء التعلم والفهم: ليس البطء في الاستيعاب حالة مَرَضية، ولا هو بالضرورة ناجم عن مشكلة معينة. فهناك تلامذة صغار تتقلص عندهم جذوة النشاط فيتأخرون عن مجاراة رفاق الصف في الاستيعاب والحفظ. وهذه من المشاكل التي يمكن للمدرس الكفء أن يعالجها من خلال معرفة ما يثير اهتمام كل تلميذ من هؤلاء على حدة، فيعمل على استفزازه لتحريكه من ركوده شرط أن يكون ذلك مصحوباً بالتشجيع للتلميذ.
3 – المشكلات البيتية: وهي كثيرة ومتشعبة، لكن أهمها يتمثل في عدم اهتمام الوالدين بتعليم صغيرهم أو إظهار هذا الاهتمام أمامه. فيعتقد الولد أن ما يبذله من جهود في المدرسة ليس مثيراً للاهتمام، فيفقد هو بدوره اهتمامه بالدراسة. أما أصعب المشكلات البيتية وقعاً على التلامذة الصغار فيكمن في الشجار العائلي. إذ غالباً ما يظن الأهل أن خلافاتهم وشجارهم لا يعني أطفالهم، أو أن هؤلاء لا يفهمون ما يجري حولهم.
4 – النشاط الزائد: ويتمثل هذا السبب في أن بعض الأولاد يملكون طاقات حركية قوية جداً، تدفعهم إلى الانشغال عن متابعة الدروس وتشتت تركيزهم. والحل هو في أن يلجأ المعلم إلى إطفاء الفائض من هذه الطاقة، إما بتدريبات حركية، أو تركه يمارس ما يهوى من ألعاب تتطلب مجهوداً كبيراً.
5 – سوء التغذية: يعتبر سوء التغذية، سواء أكان ناجماً عن الفقر أو عن عادات غذائية سيئة، عاملاً قوياً في ضعف بعض التلامذة، لأنه ينعكس قصوراً فيزيولوجياً وذهنياً، يظهر على شاكلة خمول وهزال. أما الفقر فقد لا يكون مصدر خطر كبير على التحصيل المدرسي. لأننا نرى كثيراً من الفقراء يدفعهم وضعهم إلى أن يعوضوا شعورهم بالنقص بانكبابهم الهائل على العلم وإثبات وجودهم والعمل على تحقيق طموحاتهم.
إضافة إلى ما تقدم، هناك الوضع الصحي للتلميذ جسدياً ونفسياً. فمن البديهي أن يعمل الأهل على تطبيب أولادهم مهما كانت العلة التي يشكون منها صغيرة. ولكن الأهم هو أن لا يقوموا بتقويم أوضاع أولادهم في الدراسة قبل التأكد من أنهم بصحة جيدة. لأن نتائج التقويم ستكون على الأرجح مخيبة لآمالهم، كما أنه لن تكون منصفة لأولادهم.
الضعف في المرحلة المتوسطة
وهي أشد خطراً وأصعب حلاً، لأنها مرحلة تبلور شخصية الطالب مدرسياً واجتماعياً. خاصة أنه يعيش تحولات كبرى على الصعيد الفيزيولوجي كما على صعيد الاهتمامات والإحساس بالمسؤولية. ومن أبرز أسباب ضعف التلميذ في هذه المرحلة يمكننا أن نذكر:
1 – الاعتداد الفائق بالذات، وشعور التلميذ بأنه أصبح رجلاً يعرف مصلحته، ويستطيع القيام بما يريد.
2 – رهافة الحس: نتيجة لنمو الوعي وبدء الإحساس بالكرامة كرجل، فيرى في توجيهات المربين أوامر قد تنتقص من استقلاله الشخصي.
3 – متاعب المراهقة وأخطرها رفاق السوء: فالصداقات التي ينشئها في هذه الفترة تختلف تماماً عمّا كانت عليه أيام الطفولة، إذ إن جزءاً منها يخرج عن رقابة الأهل ومتابعتهم لها. ولعل المعلم في وضع أفضل من الأهل لمعرفة حقيقة الصداقات التي ينسجها التلميذ مع غيره. وعلى عاتق هذا المعلم تقع المسؤولية في جذب التلميذ بعيداً عن رفاق السوء.
وفي المرحلة الثانوية
يبدأ النضوج الفكري عند الطالب، وتتميز بتطلعه إلى الأماني الكبرى التي “اقترب موعد تحقيقها”، إذ بات قاب قوسين من التخصص الجامعي أو دخول معترك العمل. وعلى الرغم من ذلك قد نجده في بعض الأحيان يضعف ويتعثر لأسباب كثيرة أهمها:
1 – تراكم الضعف القديم الذي لم يعالج في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة فحمله الطالب معه إلى حدود تثبيط العزيمة، فيبدأ بالتعامل مع دراسته الثانوية “كآخر عبء عليه أن يتحمله” فيفر من واقعه إلى اللهو والعبث.
2 – زعزعة الثقة في المستقبل: وقد برز هذا العامل في واقع حياتنا خلال السنوات الأخيرة، إذ لم يعد للشهادات العلمية مردودها المادي الكبير، حتى أن بعضها خسر مكانته في السلم الوظيفي، مما يجعل بعض الطلاب يتطلعون إلى التخصص العلمي وكأنه لا جدوى له، فيعتبرونه هامشياً.
3 – التراخي في النظام: ويتراوح ما بين مدرسة وأخرى، فإذا كان من الطبيعي أن لا تعامل المدرسة الطالب الثانوي وكأنه طفل في المرحلة الابتدائية، فمن الممكن أن يتيح “التراخي” للطالب أن يتصرف على هواه ويتمادى في إهمال واجباته.
كل ما تقدم يؤكد أن هناك أكثر من سبب للتقصير الدراسي. والمعالجة السليمة لهذه المشكلة التي تؤرق بال الأهالي وترهق التلميذ ومعلميه تكمن في تشخيص السبب المحدد ومعالجته. وما من سبيل للوصول إلى هذا التشخيص والتأكد من سلامته إلا بالمتابعة عن كثب والحوار ما بين الأهالي والمعلمين، والحوار ما بين الطالب ومدرّسه.. ولعل أبرز دليل على كفاءة هذا المدرس أو ذاك، تكمن في وعيه لأهمية هذا الحوار وقدرته على أخذ المبادرة والبدء به.
2
المدرس الخصوصي
ما له وما عليه
خالد أحمد الشنتوت
مما لا شك فيه أن هناك فروقات فردية بين طلاب الصف الدراسي الواحد. وعلى المدرّس أن يراعي وجودها في تعامله مع الطلاب. ولكن عندما يكون عدد الطلاب في الفصل الواحد مرتفعاً فإن من الصعب على المدرس أن يولي كل طالب الاهتمام الذي يستحقه على حدة، فهو مكلف قبل كل شيء بتنفيذ المنهج المقرر، وعليه أن يقوم بذلك بسرعة متوسطة تلائم الطالب العادي. وقد يستطيع إعادة الشرح مرتين أو ثلاثاً خلال الحصة الواحدة، لكن يبقى الأمر غير كافٍ لجميع الطلاب.
ولو أخذنا فصلاً دراسياً من 40 طالباً، على سبيل المثال، لوجدنا أن هناك ما معدله 7 طلاب لم يستوعبوا المنهج كاملاً عن المدرس، ويحتاجون إلى مدرس آخر. إنه المدرس الخصوصي الذي يذهب إلى منزل الطالب (أو يذهب الطالب إلى منزله) لكي يعلمه وحده بعيداً عن زملائه التلاميذ الآخرين.
ومما يزيد في الطلب على المدرس الخصوصي نذكر ما يأتي:
1 –
اشتراط معدلات مرتفعة لقبول الطلاب في المرحلة الثانوية العامة، حيث لا يقبل الطالب من المرحلة المتوسطة إلى الثانوية العامة إلا إذا زاد معدل علاماته على 60 في المئة. لذلك يلجأ كثير من الآباء إلى دعم أبنائهم بدروس خصوصية في العام الثالث من المرحلة المتوسطة بشكل خاص، لكي يحصّل هؤلاء المعدلات اللازمة لدخول المرحلة الثانوية.
2 –
الأمر نفسه يصبح أشد إلحاحاً بالنسبة إلى دخول الجامعات والكليات المرغوب بها أكثر من غيرها، حيث يتطلب الأمر معدلات مرتفعة، يعجز كثير من الطلاب – الآن – عن الحصول عليها من دون دروس خصوصية.
3 –
وهناك حالات خاصة وقليلة يضطر فيها الطالب إلى الاستعانة بمدرس خصوصي بعد مرض أصابه وقطعه عن المدرسة شهراً أو أكثر أو ما شابه ذلك.
إساءة استعمالها
يسعى معظم المدرسين إلى إعطاء الدروس الخصوصية في المنازل على حساب أوقات راحتهم بسبب دخلهم المحدود. وكأن الدروس الخصوصية شر لا بد منه. وإن كان جميع المدرسين قد بدأوا عملهم الإضافي هذا بسبب الحاجة الماسة، فلا بد من الاعتراف بأن الأمر تطور عند بعضهم إلى مهنة مربحة، درّت عليهم أموالاً لا بأس بها.
ولكن هذه الدروس الخصوصية التي يجب أن تكون مساعدة محدودة للتلميذ، تهدف إلى إلحاقه بمستوى رفاقه الناجحين، تتعرض إلى إساءة استعمال وتطبيق على أيدي الأهالي والمدرسين الخصوصيين على حد سواء.
فمن أسباب اللجوء إلى الدروس الخصوصية هناك العناية الزائدة عند الأسرة بأطفالها. إذ تعتمد بعض الأسر المدرس الخاص في البيت منذ السنة الأولى في المرحلة الابتدائية، لمجرد امتلاكها الإمكانات المادية اللازمة لذلك، ولاعتقادها أن الأمر سيؤمن النجاح والتفوق لابنها. ولكن النتيجة غالباً ما تكون اتكال التلميذ على المدرس، فلا يعود يلمس كتاباً من دون وجوده بجانبه، ويذهب بعضهم في الاتكال على هذا المدرس إلى حد ترتيب الحقيبة يومياً.. وبالوصول إلى السنة الابتدائية الثالثة يكون وجود المدرس الخصوصي قد أصبح ضرورياً جداً لهذا التلميذ، بعدما تعوده، ولن يتمكن بعد ذلك من القيام بأي واجب مدرسي بمفرده، وسيرسب حتماً من دونه.
وقد لاحظت خلال عملي في التدريس لمدة أربعين عاماً وجود طالب أو اثنين في كل فصل لا يمكنني أن أدفعهم إلى المشاركة في الحصة مهما أوتيت من خبرة. وكنت أعترف كل سنة بعجزي عن دمج طالب أو أكثر في الحصة. وأسميت هذه الظاهرة “الطالب السلبي في الفصل”، لأنه تعود أن يدرس بطريقة فردية: يجلس المدرس الخصوصي إلى جانبه، ويكلمه وحده بصوت ولهجة ومصطلحات اعتادها. وهذا الطالب الذي يعجز عن إعادة السؤال الذي طرحه المدرس قبل لحظة، يأتي في الغد وقد حلّ الواجب على أحسن ما يرام.. كما اكتشفت أن بعض الطلاب يكتب خلال الحصة بخط رديء جداً، وخطه في دفتر الواجب أفضل بكثير. ومن خلال الممارسة، تأكد لي أن بعض المدرسين الخصوصيين يكتب بنفسه للطالب في السنوات الثلاث الأولى، مما يجعل خط هذا الطالب سيئاً مدى العمر.
وبوصول هذا الطالب إلى المرحلة الثانوية، تُفتح خزانة والده (الثري) على مصراعيها لدفع بدل أتعاب منظومة كاملة من المدرسين الخصوصيين، غير أقساط المدرسة الأهلية.
والواقع أن إساءة التعامل مع مهمة الدروس الخصوصية يمكنها أن تصل إلى مستويات بالغة الخطورة من قبل بعض المدرسين ذوي النفوس الضعيفة. إذ إن بعضهم على سبيل المثال يكتفي بالشرح قليلاً أثناء الحصة في المدرسة، ويترك الشرح الوافي للبيت، حيث يبيعه بثمن مرتفع. كما أن بعضهم لا يتورع عن إساءة الأمانة المهنية فيسرب أسئلة الامتحانات إلى تلميذه الخصوصي ولو بإشارة غامضة كقوله “إن هذا الموضوع مهم” مؤكداً عليه وجوب الامتناع عن نشر ذلك بين الطلاب، فيفهم التلميذ أن هذا هو موضوع الامتحان المقبل.. ولكن أية نتيجة سيحصد هذا التلميذ بوصوله إلى امتحان الوزارة في نهاية السنة الثانوية الثالثة.. هل سيكون المدرس الخصوصي هناك للإيحاء له بنوعية الأسئلة التي سيواجهها؟ الجواب هو حتماً: لا. وهكذا تكون الأسرة التي بدأت في الاتكال على المدرس الخصوصي من باب العناية الزائدة والمباهاة، قد وصلت إلى القضاء على ولدها تماماً.
إيجابيات وسلبيات..!
بشكل عام، يمكننا أن نلخص هذه الظاهرة غير التربوية المستفحلة بأنها ذات إيجابيات وسلبيات عديدة.
فمن إيجابياتها توفير سنة دراسية على الطالب عندما تتركز الدروس الخصوصية على مادة أو اثنتين رسب فيهما في الدور الأول من الامتحانات. ومساعدة الطالب في الثالث المتوسط على الوصول إلى المرحلة الثانوية، من خلال رفع مستواه في المواد الأساسية التي ترفع معدل علاماته العام. وتمكين الطالب الثانوي من دخول الكلية الجامعية التي يرغب بها إذا كان الأمر يحتاج إلى مساعدة يمكن تأمينها بجهد إضافي يبذله التلميذ مع مدرسه الخصوصي.
أما سلبيات المدرس الخصوصي فتكمن في تعويد الطالب الاتكالية، وتجريده من الثقة في الذات حتى إذا كبر أصبح رجلاً عاجزاً عن اتخاذ قراراته من دون مساعدة الآخرين، وعن مواجهة مصاعب الحياة من دون مساعدتهم.
أخيراً وليس آخراً، لا بد من ذكر استنزاف جهد المدرس وطاقته في الدروس الخصوصية خارج الفصل. بحيث لا يبقى عنده لمجموع طلابه في الفصل إلا القليل من القدرة على الاهتمام والعطاء. فهل يجوز ذلك؟
3
القُرَاء..
ما هو ومن يعاني منه؟
عمر قمر الدين
“القُرَاء” أو عمى الكلمات (Dyslexia)، مشكلة مثيرة للجدل في الأوساط التعليمية في العالم أجمع. وليس هنالك من تعريف واحد مقبول لها من قبل جميع المعنيين بالشأن التعليمي، فكثيراً ما يُشار إلى “القُرَاء” لوصف مشكلات القراءة التي يعاني منها بعض الأطفال على الرغم من سلامة حواسهم وتعلمهم الكافي وتطورهم العاطفي الطبيعي.
“القُرَاء” يعني حرفياً عدم القدرة على تعلم القراءة بشكل صحيح ولكنه يترافق دائماً مع عدم القدرة على الكتابة والتهجئة. “فالقُرَاء” هو اضطراب في تعلم القراءة والتهجئة، لكننا لا نطلق هذه التسمية على كل مشكلة في القراءة. هنالك أطفال لا يستطيعون تعلّم القراءة أو الكتابة لأسباب عديدة لا مجال لحصرها.
نقص في الموهبة
“والقُرَاء” ليس مرضاً، إنما هو نقص في موهبة اكتساب اللغة وهو نقص موروث من الأهل على الأرجح. هذا الجانب الوراثي ينعكس فيزيائياً على صورة تأخر في النمو. ولكن ليس لهذا الجانب، حتى الآن، أهمية كبرى في فهم هذه الظاهرة. يجب علينا قبول “القُرَاء” كصفة من صفات الشخص الموروثة مثل لون الشعر الأحمر، أو لون العينين البني، الخ…
ما يميز الطفل الذي يعاني هذه المشكلة هو تطوره اللغوي غير الطبيعي. فهو يجد صعوبة في تذكر اللغة، وهو أمر يظهر في عمر مبكر. كما أنه يتكلم بطريقة غير مفهومة لمدة أطول من المدة الطبيعية. كذلك تكون لديه صعوبة في تذكر أسماء رفاق صفه عند دخوله المدرسة ويجد صعوبة في حفظ كلمات الأغاني والأشعار. وهكذا، فيما ينتظر الجميع من هذا الطفل أن يتعلم القراءة والكتابة من دون مشاكل، فإنه يجد نفسه متأخراً بالمقارنة مع زملائه في هذين المضمارين. وهذا الفشل غير المتوقع هو ما يحدد مشكلة “القُراء”.
تمثل هذه المشكلة عقبة مهمة في المجال التعليمي لأنها تعيق التعليم في جميع المواد الأخرى من حساب وجغرافيا وتاريخ وعلوم، الخ…
علاماته الأولى
واكتشاف هذه المشكلة في أبكر وقت ممكن مهم جداً، لكن هذه الإعاقة تظهر عند بعض الأولاد في أوقات مختلفة. فأحياناً لا يمكننا إثبات أن الطفل يعاني تلك المشكلة إلا عندما يصبح في الصفوف الابتدائية. وهنالك أيضاً بعض الذين لا يكتشفون تلك المشكلة إلا عندما يصبحون في الصفوف الثانوية. فالوقت الذي تُكتشف فيه هذه المشكلة مرتبط بعوامل عديدة لا يمكن التحكم فيها كلها. وهناك مدى جدية المشكلة عند الطفل. وهناك الذكاء.. فالأطفال الأذكياء لديهم وسائل أكثر في تصرفهم من أجل إخفاء هذه الإعاقة لفترة معينة. كما أن المدرسة التي يذهب إليها الطفل تلعب دوراً في إمكانية اكتشاف مشكلة القُراء في وقت مبكر، حيث إنه عندما تكون المتطلبات التعليمية في مجال القراءة والتهجئة أكثر صرامة، فإن الطفل سيقع، خلال وقت أقصر، في المشكلات التي سوف تعترضه في هذه المجالات. وأخيراً هناك الخيارات والتطلعات لدى أهل الطفل التي تلعب دوراً مهماً في موازنة العوامل الأخرى التي تؤثر في الاكتشاف المبكر لتلك المشكلة.
شهادة أب
في شهادة لأحد آباء الأطفال الذين يشكون مشكلة “القُرَاء”، يقول إن ابنه كان يفهم جميع الإرشادات والكلمات كطفل ما دون السنتين. ولكنه لم يتمكن من استخدام اللغة إلا في وقت متأخر من مراحل نموه. إذ إنه، فيما عدا بعض كلمات التوقف القصيرة، لم ينطق بأي شيء ذي معنى حتى بلوغه السنتين والنصف من العمر. ثم جاءت فترة تطورت قدراته اللغوية بشكل ملحوظ، لكنه ظلّ يتكلم كلاماً غير مفهوم لمدة طويلة. وعندما دخل المدرسة بدت عليه صعوبات في تذكر أسماء رفاقه في الصف. في الصفوف الابتدائية لم يتراجع فوراً إلى الوراء. ولكنه وجد طريقة للمثابرة على المسائل التي يحبها وابتعد عن المسائل التي لم يستطع القيام بها بشكل جيد. ثم ظهرت هناك أمور دلت على إمكانية ظهور مشكلات لديه في القراءة والكتابة. فمثلاً لم يكن يستطيع أن يُحلل الكلمة إلى أصوات، ولذا لم يكن يستطيع تهجئة الكلمات التي يسمعها. ولم تكن لديه فكرة أن كل حرف يمثل صوتاً مختلفاً. وهكذا، تفاقمت مشكلته مع القراءة والكتابة، “وعندها نُصحنا من قبل المدرسة أن نتجه إلى البحث عن المساعدة لولدنا”.
هناك سببان يشيران إلى أهمية التدخل للمساعدة في وقت مبكر:
الأول: هو أن التدخل المبكر يساعد على حماية الطفل من الشعور بالإحباط.
والسبب الثاني: هو أنه من الأسهل المساعدة على مواجهة هذه المشكلة إذا تم التنبه إليها في وقت مبكر؛ لأنه غالباً ما يكون من الضروري البدء من نقطة الصفر في تعليم التهجئة بشكل منطقي ومنظم. والأمر أسهل مع ولد في التاسعة من عمره، من ولد في الخامسة عشرة مثلاً.
أما بالنسبة للمعالجة فيجب أن نشير إلى أن مشكلة “القُرَاء” ليست مشكلة متعلقة بتأخر في النمو، حيث يمكن معالجتها بالانتظار أو بإعطاء الطفل وقتاً طويلاً لتعلّم الأشياء أكثر مما نعطي لغيره.
وتتركز المعالجة على مجالات مختلفة أهمها التدريب في مجال اللغة ومتطلباتها، خاصة في المجالات التي نجد فيها ضعفاً ما لدى الطفل، ومساعدة الطفل الذي يشكو من القُراء على تحسين قدراته على التركيز التي غالباً ما تكون ضعيفة. ومن ثم، حفز الطفل وتشجيعه على متابعة نظام المعالجة هذا. من أجل تحقيق هذه الأهداف، من الأفضل اتباع الطريقة الفردية في المعالجة، حيث إن متخصصاً واحداً يعالج الطفل أو الشخص نفسه، لأنه بذلك يمكنه أن يتنبه أكثر إلى نقاط الضعف ونقاط القوة لديه.
يقوم المتخصص بِحثّ الطفل أو الولد على القراءة لفترة يمكنه المتابعة فيها من دون أخطاء. ومن ثم يمكنه أن يعدل الوقت الذي يستهلكه الطفل في القراءة. وهكذا، فمن الطبيعي أن يمضي نحو ثلاثة أسابيع لإنهاء قراءة فقرة واحدة. ومن ثم يمكن القيام بتمارين في الإملاء، حيث يقرأ المعالج جملة وعلى الطفل أن يرددها من بعده ليُظهر أنه قد حفظها. ثم عليه كتابتها، ومن بعدها يقرأ ما كتبه هو بنفسه. وهكذا، تعتمد المسألة على أن يصحح هو بنفسه ما قد أخطأ فيه. وبنتيجة هذا التمرين قد يمكن للفهم والقراءة أن يسيرا معاً بشكل سليم. ولكن هناك أموراً تظهر مع مشكلة “القُرَاء” التي لا يمكن التمرين عليها. فليس هناك ما يمكننا فعله لتحسين الذاكرة القصيرة لدى الطفل أو الولد الذي يشكو من هذه المشكلة بعينها. ما يمكننا فعله هو التحول إلى طريقة أخرى لحل المشكلة.
يصل إلى الجامعة
هنا يجب أن نسأل هل يمكن لطفل يعاني مشكلة “القُرَاء” أن يتابع تحصيله العلمي وصولاً إلى الجامعة؟
والجواب يعتمد بشكل كبير على ذكاء الطفل، حيث أن مشكلة “القُرَاء” تظهر عند أطفال مختلفين في معدلات الذكاء. والطفل الذي يعاني “القُرَاء” ويتمتع في الوقت نفسه بذكاء فائق، يواجه المشكلات المتعلقة بتلك الظاهرة، لكن، عدا عن ذلك، فإن كل شيء يعمل لصالحه. ففي المدرسة الابتدائية يمكنه المتابعة إلى الأمام من دون أن يسمح لمشكلته بأن تعيقه إلى درجة واضحة.
أما في المدرسة الثانوية فإن صعوده وثقته في نفسه قد يأخذانه بعيداً. ولأن باستطاعته أن يتعامل مع مشاكله التعلّمية بطريقة موضوعية، فيمكنه الاستغناء عن المعالجة. كما يمكنه الاستفادة في الجامعة من العادات التعلّمية التي اتبعها في السابق.
بهذا المعنى؛ فإن هذه الإعاقة هي مسألة نسبية. والذين تخطوا المرحلة الحرجة من مواجهة “بحر” المتاعب التي يواجهونها في حياتهم المدرسية، يمكنهم، في المراحل اللاحقة، التغلب على تلك المشكلة وأن “يتنفسوا” بحرية أكبر.
وحتى في مرحلة ما بعد الجامعة، فإن مشكلة “القُرَاء” لا تختفي. فالذي يعانيها سيظل يحمل معه نقاط ضعف محددة. إذ لا يمكن تجنب مشكلة “القُرَاء” بشكل كامل في عالم يعتمد بشكل كبير على كل ما هو مكتوب. ولكن الكثير من الراشدين الذين يعانون تلك المشكلة قد نمّوا لأنفسهم مهارة ما تمكنهم من التقليل من حاجتهم لمواجهة العقبات التي تعترضهم في حقول الكتابة والقراءة. يمكنهم القيام بذلك، أولا، باختيار مهنة لا تعتمد كثيراً على حقلي الكتابة والقراءة، وثانياً، يمكنهم الاستعانة بأجهزة عديدة مثل التلفزيون والهاتف من أجل تجنب “حشد” المشكلات التي يمكن أن يتعرضوا لها في حياتهم اليومية.
باختصار، يمكن للشخص قوي الإرادة الذي يعاني هذه المشكلة، التخلص منها متى أنهى حياته المدرسية، والتأقلم معها في حياته العلمية.
—————————————————————
اقرأ عن التعليم
كتاب للأهل وآخر للمعلمين
يجد المرء في المكتبات مجموعة عملاقة من الكتب حول التربية والتعليم. غير أن معظمها أكاديمي الطابع ويتوجه إلى الاختصاصيين في التربية وعلم النفس، وغالباً ما تحمل هذه الكتب عناوين توجيهية متفائلة وتتحاشى طرح المشكلات على صفحة الغلاف.
من الكتب القليلة المميزة عن غيرها هناك “100 سبب لضعف الطلاب في القراءة” وهو من تأليف الدكتور نوري يوسف الوتار من جامعة الكويت وإصدار مكتبة المنار الإسلامية. ويستمد هذا الكتاب أهميته من أمرين: تركيزه على الضعف في القراءة، وهو من المؤشرات الأولى التي يلحظها الأهل فيما يتعلق بتقصير أولادهم دراسياً، وأسلوبه البسيط والواضح في عرض كل جانب من جوانب المسألة على حدة، الأمر الذي يجعله موجهاً بالفعل إلى الأهل المهتمين بقضايا أولادهم، حتى ولو لم يكونوا على جانب كبير من العلم والاطلاع على المسائل التربوية.
أما الكتاب الثاني فهو “صعوبات التعلم” من تأليف الدكتور إبراهيم بن سعد أبو نيان الأستاذ في قسم التربية الخاصة بجامعة الملك سعود.
يقع هذا الكتاب في 348 صفحة موزعة على ثمانية أبواب، تتناول الثلاثة الأولى منها مسائل عامة مثل مفهوم صعوبات التعلم وطرق التدريس واستراتيجيات التعلم، أما الأبواب الخمسة الأخرى فتتناول بالتفصيل استراتيجية تعليم كل مادة من المواد الأساسية على حدة مثل الرياضيات، القراءة، الإملاء، التحرير التعبيري، الخط..
وفي تقديم هذا الكتاب كتب الدكتور ناصر علي الموسى المشرف العام على التربية الخاصة بوزارة المعارف، أنه “من الكتب التي لا غنى عنها، ليس لمعلمين من ذوي صعوبات التعلم فقط، وإنما أيضاً لأي معلم من معلمي التعليم العام”.
والكتابان المذكوران متوافران في المكتبات التجارية في المملكة.