الرحلة معا

الصيف والأبناء والمعرفة

ما إن تغلق المدارس والجامعات أبوابها، ويبدأ الصيف بلهبه وغباره وأسئلته يخيم على الأهالي في مدنهم أو قراهم حتى يبدأ الجميع في قرع طبول الأزمة.

أزمة الوقت الطويل والفقير من أية فوائد أو فاعلية، وأزمة انقلاب النهار إلى ليل والليل إلى نهار، وما يترتب عليها من فوضى وارتباكات تمس الإيقاع الطبيعي لنظام حياة الآباء والأمهات.

كلنا بالطبع نعتقد أن الطريقة المثالية التي نريد من خلالها تسيير وقت أبنائنا وبناتنا، خلال الصيف، هي أن ينتظموا في دورات تدريبية وورش عمل متخصصة أو أن يلتحقوا بوظائف موسمية يجنون بعض الخبرة والمال منها، لكننا لو استقصينا ردود الأبناء حول الطريقة المفضلة لقضاء أشهر الصيف فإنهم سيتحدثون عن الكثير من الراحة والنوم والترفيه والسفر، واستبدال إيقاع الحياة اليومية كله بنظام جديد ..!

وهذا يعني باختصار، أن هناك اختلافاً واضحاً بين رؤيتي الآباء والأبناء تجاه قضاء فترة الصيف، والأغلب أن تنجح خطط الأبناء على خطط الآباء، في مجتمع لم تستشعر مؤسساته التربوية والثقافية بعد حجم الوقت المهدور لمئات الآلاف من الطلاب والطالبات كل صيف.

الحقيقة البديهية هي أن الطلاب والطالبات، وبعد أن قضوا سنة دراسية كاملة بكل واجباتها ونظامها اليومي وامتحاناتها، وما يلحقها من هواجس وظلال قلق وخوف، هم بحاجة إلى هروب كامل من كل ذلك، وإلى عيش حياة تختفي فيها تلك المؤثرات، ويطلقون فيها العنان لكل تلك الشحنات المدفونة التي لم يلتفت إليها أحد. واستطراداً فإنهم يشعرون أن مدارسهم لا تصغي إلى رغباتهم ولا تستوعبها فكل وظيفتها تنحصر لديهم في الدراسة وأداء الواجبات والضبط ومن ثم الامتحانات، وهكذا يصبح الصيف فرصتهم الذهبية لإطلاق كل تلك المكبوتات.

ومن هنا يتوجب في نظري، أن نؤسس لعلاقة جديدة تربط وظيفة المدرسة كمرتكز مؤثر وراسخ في بناء حياة أجيالنا بوظيفة الإجازات والعطل وما يمكن أن تبنيه في حياتهم بحيث تصبح أياماً منتجة لا موسماً سنوياً للراحة من الهموم الدراسية وضغوطها.

وبما أن المدرسة هي «صندوق مغلق» كما تعبِّر الكاتبة د. فوزية البكر على غلاف كتابها، فإن علينا أن نقرأ معها كيف تخللت هذه المؤسسة التربوية حياتنا، وكيف أثرت في رؤيتنا لما حولنا، وكيف أصبحنا مجرد منتجات ثقافية تقولبها الثقافة المجتمعية التي تستخدم المدرسة كوسيط أساسي لنقل ملامحها.

وهكذا، فإن نمط المدرسة كمؤسسة تربوية هو ما يحدد نكهة الإجازات وجدواها ومعنى التخطيط لها، فالمدارس المؤهلة تنظيماً ورؤية وممارسة تكون قادرة على استثمار أوقات الفراغ والإجازات لدى الأبناء والبنات على نحو خلاَّق، أما المدارس التي تؤدي واجباتها الروتينية فقط، فإنها لا تحفز إلا على نسيانها لبرهة من الزمن كلما لاحت إجازة أو عطلة.

الآباء والأمهات طبعاً حريصون على أن ينتظم الأبناء، خلال فترات الصيف، في دورات علمية وتدريبية، أو في ورش فنية وبرامج لتنمية المهارات والقدرات العلمية أو المهنية، أو لتطوير مواهبهم، لكن الأبناء سرعان ما ينفرون، إلا من رحم ربك، من فكرة التعلم نفسها لأنها تذكرهم بمناخ المدرسة وما ينطوي عليه من مهمات ثقيلة في عقله ووجدانه، فتكون ردة فعله هي الرفض المباشر لأية مبادرة للتعلم خلال وقته الحر في أشهر الصيف.

أزمة العلاقة المتوترة بالمدرسة، في نظري، تمتد لتصبح سبباً لقلق التعلم في الإجازات، لكن كل هذا لا يلغي أن مائدة الصيف حافلة، فهي تعج بمئات الدورات والورش والبرامج التي تهدف إلى تنمية وتعلم المهارات واكتساب اللغات، بعضها في الداخل وبعضها في الخارج، ورغم تباين مستوياتها، فإن العائلة الجادة يمكنها أن تستخلص جدولاً مفيداً لأفرادها، وخاصة إذا ما وضعت خطة عملية وممكنة التطبيق من قبل الأبناء والبنات، بالدرجة الأولى.

وبين أهم نظريات التعلم هو أن نخلط الترفيه بالتعلم، فالترفيه حاجة نفسية وجسدية من خلالها يتخلص الأبناء من الإرهاق الدراسي والذهني، ومن ضغوط الحياة اليومية، ويعيدون شحن طاقاتهم، وفي الوقت نفسه يتعلمون مهارات أو علوم أو لغات جديدة أو يطورون مواهبهم وقدراتهم.

ويأتي برنامج أرامكو السعودية الصيفي الثقافي، في هذا السياق، كأحد البرامج التي أثبتت أنها تحصد نجاحاً متنامياً بين عام وآخر. فهذا البرنامج هو خلطة ثقافية وفنية وترفيهية، يمكن أن يهضمها ويتفاعل معها الجميع بكل فئاتهم العمرية، بل إن بعض الندوات الفكرية والاجتماعية التي تستهوي النخب عادة، قد استمالت جمهوراً متنوعاً وكثيفاً. وهذا البرنامج الثري لا يطمح أن يبقى وحيداً في ساحة الصيف، بل أراد أن يكون نموذجاً افتتاحياً لما يمكن للشركات والمؤسسات عامة وخاصة أن تبني عليه، بحيث تضيف برامجها وأنشطتها الخاصة.

هناك عشرات الأفكار التي يمكن لأي قطاع أن يتخصص فيها، أفكار تربوبة أو تقنية أو اجتماعية، وأفكار تتصل بتعليم اللغات أو تطوير المواهب في الفنون أو العلوم أو المهن، أو الرياضات، لكن برمجة هذه الأفكار لكي تؤتي أُكلها تحتاج إلى إتقان وإدارة وإشراف فاعل. يذكر هنا أن رئيس الوزراء الماليزي قد أمر بإقامة دورات مجانية للشباب والشابات عن أهمية الزواج والأضرار التي يسببها الطلاق للزوجين والأبناء والمجتمع، وبعد سنوات ثلاث فقط انخفض معدل الطلاق في ماليزيا بنسبة %75.

وإجمالاً، فإذا ما تمكنت أية عائلة من صناعة سلة من البرامج والدورات التعليمية والترفيهية والرياضية في الأوقات المناسبة لكل فرد من العائلة، دون ضغوط أو تهديدات فإنهم سيحصدون أجمل ثمار الصيف.

أضف تعليق

التعليقات