يمثل سوء استخدام الدواء والاستهتار به، القضية الأخطر من جملة القضايا التي يثيرها الدواء على كافة الصعد، بدءاً من صناعته وترويجه التجاري وصولاً إلى آثاره الجانبية بعد الانتهاء من استخدامه. سليم العبداللهيتوقف هنا أمام النتائج المخيفة للاستهتار في استخدام الأدوية، والتي ما كانت لتظهر لو أن النصائح البسيطة حتى السذاجة الواردة على تلك الورقة المرفقة بكل دواء داخل علبته وجدت أذناً صاغية من المستهلك.
الذين دخلوا صالة السينما في بريطانيا بعد شهر مارس من العام الجاري، لا بد وأن يكونوا قد شاهدوا إعلاناً يبعث على الصدمة محذراً من شراء الأدوية من خلال المواقع غير القانونية على الإنترنت.
ويظهر في الإعلان رجل يسعل فوق فأر ميت. وسبب السعال وموت الفأر هو استهلاك الرجل لدواء يباع عبر الإنترنت ويتضمن سماً للفئران.. وكم سم اكتشف وجوده فعلاً في أدوية مباعة بواسطة الشبكة. ففي بريطانيا وحدها، تشير تقديرات المسؤولين الحكوميين عن شؤون الصحة، إلى أن نحو 330,000 شخصاً يشترون سنوياً أدوية عبر الإنترنت. والمخيف في الأمر أن المصادر نفسها تقول إن ما بين 50 و90 بالمئة من هذه الأدوية هو إما مزيف أو مقلَّد. وبذلك، تكون التجارة الإلكترونية قد أضافت إلى القضايا العديدة التي يثيرها الدواء قضية جديدة تندرج تحت عنوان القضية الأم «الاستهتار بالدواء».
الاستهتار يتزايد.. لماذا؟
تؤكد الأرقام (سنأتي على ذكر بعضها لاحقاً) أن الاستهتار باستخدام الدواء في تزايد مستمر. ومن العوامل التي تدفع في هذا الاتجاه يمكننا أن نذكر ما يأتي:
أولاً: انتشار «الوعي» (نعم، وياللمفارقة)، لأهمية استشارة الطبيب عند الإحساس بعوارض أية مشكلة صحية، وازدياد إمكانات دفع بدل الاستشارة الطبية في الدول النامية. بحيث بات في معظم البيوت، إن لم نقل كلها «صيدلية خاصة» تتضمن بعض الأدوية المستعملة، وما تبقى من أدوية استخدمت سابقاً، لعل الحاجة إليها قد تظهر مجدداً.
ثانياً: الترويج الإعلامي لمنجزات الصيدلة، والقدرات العلاجية لهذا الدواء أو ذاك، الأمر الذي يعطي صورة مشرقة للدواء تطغى على ما قد يحمله من عوارض جانبية، والحذر المتوجب في استخدامه.
ثالثاً: الألفة المتزايدة ما بين الإنسان والدواء، والتي تحمل الإنسان إلى الاطمئنان أكثر فأكثر إلى الدواء، خاصة إذا كان قد تناوله سابقاً من دون مواجهة أية مشكلات.
أدى كل ذلك إلى تعزيز الصورة «السلمية» للدواء على حساب حقيقة مكوناته التي هي أولاً وأخيراً مجموعة مواد كيميائية غريبة عن الجسم، يفترض فيها أن تؤدي وظيفة محددة بدقة وحذر.. والاطمئنان المفرط إلى هذه الصورة المشرقة للدواء، هو ما يجعل الكثيرين يتعاملون مع الإرشادات المرافقة وكأنها كليشيهات مكررة، موجهة إلى البسطاء الذين يشترون دواءً للمرة الأولى، مثل التحذير من عدم تجاوز الجرعة التي وصفها الطبيب، أو عدم ترك الدواء في متناول الأطفال.
الإرشادات ليست للبسطاء
عندما يدور الحديث عن سوء استخدام الدواء، فغالباً ما تتجه الأنظار إلى العالم الثالث حيث تنتشر الأمية، ويُفتقد الوعي. ولمثل هذا الاتجاه ما يبرره. فبحسب رئيس «الجمعية الصيدلانية في غانا» الدكتور ألكس دودو مؤلف كتاب «الدواء واستخدامه الآمن»، فإن عشرة في المئة من الذين يتناولون الدواء الصحيح ولكن بجرعات غير ملائمة، أو في وقت غير ملائم، يموتون.
ولكن، ما يقال عن غانا الإفريقية ينطبق أيضاً على الولايات المتحدة الأمريكية. ولنا في قصة موت الممثل الشهير كيث ليدجر قبل بضعة أشهر مثلاً شهيراً على ذلك. فقد توفي الممثل الشاب نتيجة جرعة زائدة من دواء موصوف له من قبل الطبيب..!؟
وفي أمريكا أيضاً، تشير أرقام «الوكالة الفدرالية للأدوية» أن نحو تسعة آلاف ولد وطفل يُنقلون سنوياً إلى أقسام الطوارئ في المستشفيات لأنهم تناولوا جرعات زائدة من الدواء المسكن للسعال فقط، بعدما ترك ذووهم هذا الدواء على مقربة من أسرَّتهم. وترتفع الأرقام بشكل فلكي فيما يتعلق بالأدوية المسكنة للآلام، لتصل إلى مئات الآلاف ممن يعانون سنوياً من اضطرابات صحية متفاوتة الخطورة بسبب إفراطهم في تناول هذه المسكنات، وتحديد جرعاتها بأنفسهم.. فهل تبدو النصيحة على ورقة الإرشادات «بعدم ترك الدواء في متناول الأطفال» أو «لاتتجاوز الجرعة التي يصفها الطبيب» ساذجة أو موجهة إلى الساذجين أم تحذيراً من خطر حقيقي؟
من أين يبدأ الاستهتار؟
قد يكون من التجني حصر الاتهام بالاستهتار باستخدام الدواء في فئة المرضى والمستهلكين. ففي تقرير نشرته وكالة «رويترز» خلال شهر مايو الماضي، جاء أن سيدة إندونيسية حملت ابنتها البالغة من العمر سنوات سبع إلى طبيب في جاكرتا لمعاينة ارتفاع حرارتها والألم في حلقها. فكان أن وصف الطبيب للطفلة سبعة أدوية مختلفة، تتضمن مضادات حيوية، ومضادات للنوبات التشنجية!!؟ وقد أوردت الوكالة هذه الحالة في مقدمة تقريرها حول الأطباء الذين يفرطون في وصف الأدوية لمرضاهم، بدافع جني أرباح مالية من الشركات المصنعة والصيادلة. وجاء في التقرير أن هذه الممارسة اللا أخلاقية شائعة في شرق آسيا من إندونيسيا إلى هونغ كونغ بحيث بات الخبراء يحذرون من عواقبها الكارثية التي قد تطال أكثر من بيئتها المحلية.
وأين يمكن أن ينتهي الاستهتار؟
يضرب الخبراء الذين تحدثوا إلى رويترز مثلاً العقار «أوزيلتاميفير»، الذي صُنع سابقاً لمكافحة أنفلونزا الطيور، وأثبت الباحثون في أمريكا أنه غير فعال بنسبة 98 بالمئة في مكافحة الأنفلونزا المتفشية حالياً (H1N1) المعروفة شعبياً باسم أنفلونزا الخنازير. ومع ذلك، فثمة إفراط في وصفه واستخدامه حالياً وخاصة في شرق آسيا لمكافحة الأنفلونزا الجديدة. فإضافة إلى آثاره الجانبية، تكمن العاقبة الكبيرة في أن هذا الإفراط سيؤدي في وقت ليس ببعيد إلى تقوية مناعة فيروسات إنفلونزا الطيور وعودتها إلى الانتشار كوباء عالمي.
الوعي الجزئي أخطر من الجهل
من جهة أخرى (من الجهات العديدة)، أدى التحذير من مخاطر الأدوية على الصحة إلى انتشار وعي جزئي، أو غير مكتمل لهذه القضية في صفوف الملايين أينما كان في العالم. ولكن مرة أخرى، اتكل هؤلاء على «ثقافتهم» الذاتية لإيجاد الحل. فتوجهوا صوب طب الأعشاب، اعتقاداً منهم أن الأعشاب الطبيعية لا تحمل مخاطر الأدوية المصنعة في المختبرات. ولكن فات هؤلاء أن 90 بالمئة من مركبات الأدوية الصناعية مستخرجة من النباتات والأعشاب، حسبما تؤكد كل مصادر الشركات العالمية الجديرة بالثقة. كما فات هؤلاء أن الأعشاب الطبية قد تكون خطرة وسامة، إذا ما أسيء استخدامها. فنبات الجنسنغ مثلاً يحتوي على مواد يؤدي استهلاكها لبعض الوقت إلى التسبب بارتفاع دائم في ضغط الدم.. وإلى ذلك، وما هو أخطر من سمية بعض النباتات الطبية، هو أن الإقبال الكبير عليها، نشط عمل العصابات في صناعتها. ففي بعض بلدان شرق آسيا مثلاً، وصل بعض صناع «الأدوية الطبيعية» إلى حد تجفيف أي نوع من الأعشاب وسحقه وخلطه ببعض الدواء الصناعي المسحوق، بحيث تختفي معالمه ضمن الخلطة. وعند تناول المريض لهذا «الدواء» يتوهم أن النبات الطبيعي هو سبب شفائه (هذا إذا شفي).
أما الثمن.. فرفع عدد ضحايا سوء استخدام الدواء إلى مستويات لم يصلها من قبل. ففي الصين، وإضافة إلى سوء استخدام الأدوية الحديثة، يؤدي اعتماد سكان الأرياف بشكل خاص على الأدوية التقليدية، ووقوعهم في قبضة الأدوية المزيفة، إلى رفع العدد الإجمالي لضحايا الدواء سنوياً إلى نحو 200,000 قتيل سنوياً استناداً إلى تقرير وكالة رويترز في شهر مايو الماضي. وهو رقم يفوق عدد الضحايا السنوي لقتلى كل الحروب الدائرة في العالم.