كان التاريخ محور الرواية العربية في مهدها خلال القرن التاسع عشر. وبعد فترة من حضور الموضوع المعاصر في روايات القرن العشرين، عادت الرواية التاريخية لتكتسح ما عداها خلال السنوات الأخيرة.
ظاهرة تسيّد الرواية العربية التاريخية لعصرنا على حساب تيارات روائية أخرى.. يناقشها على صفحات القافلة كل من الأستاذ عبده وازن والدكتور أحمد زياد محبك..
1
أفق في الماضي
عبده وازن
لماذا يلجأ الروائيون العرب الروّاد والجدد إلى التاريخ بينما الواقع العربي يتخبّط في الكثير من القضايا الشائكة والهموم والأزمات؟
قد يكون الجواب عن مثل هذا السؤال متاحاً لدى الناقد جورج لوكاش أحد كبار المنظرين للرواية العالمية في الستينات من القرن الفائت. فهو يرى أنّ الروائي يلجأ إلى الماضي عندما يجد واقعه مأزوماً من نواحيَ عديدة: سياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً… وهذا اللجوء إلى الماضي يسمح للروائي بأن يقرأ الواقع الراهن على ضوء المعطيات التاريخية، بحثاً عن منفذ للأزمات المتراكمة.
هكذا لا تبدو الرواية التاريخية محاولة للهروب من الواقع كما يظنُّ بعضهم، بل هي مواجهة للواقع عبر التاريخ. على أنّ الروائي هنا لن يحلّ محلّ المؤرّخ حتى وإن بدا كأنّه يستبعده في أحيان ليؤوّل التاريخ بحسب مقاربته الشخصية ومزاجه وانتمائه. ولكنّ ما لا يمكن تجاهله هو أنّ الروائي قد يستخدم التاريخ لمصلحة الفنّ الروائي، محرّفاً بعض الأحداث والشخصيات (أو الأبطال) ومضفياً من مخيّلته على الحدث أو الفعل التاريخي ما يمنحه بعداً آخر لا يعرفه فنّ التأريخ.
يلجأ الروائيون العرب، على اختلاف أجيالهم إلى التاريخ، لا ليعيدوا كتابته روائياً فقط، بل ليبحثوا عن أفقٍ ممكن وسط معالم الماضي، مقاماتٍ وأنقاضاً. فالتاريخ يضمّ الماضي بعظمته وخرابه، بأفراحه ومآسيه، بويلاته وبطولاته. وإن كان المؤرّخ في الحقب الفائتة يميل غالباً إلى كتابة الصفحات البهية طاوياً الصفحات المأسويّة كما يجمع المفكّرون والنقاد، فإنّ الروائي قادر على أن يجعل من المأساة ملهاةً ومن البطولات مآسي وتراجيديات. وهنا يستحيل السؤال عمّن يكون الأشدّ وفاء لمادته التاريخية: المؤرّخ أم الروائي؟
من الواضح أنّ الرواية التاريخية ازدهرت في الغرب – وفق ما يجمع النقاد الغربيون – في القرن التاسع عشر وكانت وراء ازدهارها الأفكار الكبيرة التي رسّختها الثورة الفرنسية، إذ شعر المواطنون الأوروبيون أنّهم يعيشون داخل التاريخ وليس على هامشه. وترافق نشوء الرواية التاريخية مع صعود “علم” التاريخ الذي رسّخ منهجاً علمياً لكتابة التاريخ وتدوينه.
أما في العالم العربي فبدأت الرواية في مستهلّ القرن العشرين، ولكنّ البداية كانت متعثرة ومرتبكة كما يعبّر الناقد فيصل درّاج في كتابه الجميل “الرواية وتأويل التاريخ”. وكان على الرواية أن تنتظر بضع سنوات لتنهض نهضة حديثة ومعاصرة. ولم يكن مستغرباً أن تبرز حينذاك روايات تاريخية عديدة ذات أفق جديد ومقاربة مختلفة. ويكفي الوقوف على روايات مثل “غابة الحق” لفرنسيس المرّاش و “دعاء الكروان” لطه حسين، و “قنديل أم هاشم” ليحي حقّى و “سارة” لعبّاس محمود العقّاد، انتهاء بروايات نجيب محفوظ التاريخية وهي غير قليلة، وكذلك بعض أعمال الروّاد من أمثال جبران وأمين الريحاني وسواهما من الجيل “الاغترابي” … ويحاول بعض النقاد استبعاد جرجي زيدان عن المعترك الروائي معتبرين أنّ رواياته تهدف إلى تقديم التاريخ في قالب وجداني وعاطفي بعيد من أية قراءة نقدية تهدف إلى إعادة النظر في التاريخ. لكنّ جرجي زيدان يظلّ رائداً في حقل الرواية التاريخية وإن كانت غايته، كما بدت، “تسلية” القارئ.
إلا أن الرواية التاريخية فتنت جيلاً أو أجيالاً بالأحرى، من الروائيين العرب الجدد من أمثال: عبده خال ورجاء عالم في السعودية، سالم بن حميّش في المغرب، ممدوح عزام في سورية، ربيع جابر في لبنان وسواهم وهم كثر. لجأ هذا الجيل الجديد إلى التاريخ ليسائله ناسجاً علاقة أخرى بين الفرد وتاريخه انطلاقاً من الحراك الاجتماعي وصراع الطبقات والفئات. وراح هذا الجيل يبحث في التاريخ عن مواقف درامية وشخصيات فريدة وأفكار باهرة من غير أن ينسى أو يتناسى أن قراءة التاريخ روائياً هي محاولة لإعادة كتابته في طريقة تختلف عن طريقة المؤرّخين.
ولعلّ الأعمال الروائية الجديدة والشابة التي استوحت التاريخ، باتت تشكّل “محطّة” مهمّة في تاريخ الرواية العربية المعاصرة. وهذا ما يؤكّد أن الرواية مهما أوغلت في الحداثة ستظل تلتفت إلى الوراء لتستمد من التاريخ “مادة” زاخرة وطريفة.
2
آفاق غير تاريخية
د. أحمد زياد محبك
حققت الرواية العربية حضوراً متميزاً، كمّاً ونوعاً، وظهر روائيون نذروا أقلامهم للرواية، وحظوا بجمهور واسع من القرّاء، حتى إنهم أحدثوا في الذوق العربي نمواً وتطوراً، إذ رسخوا فيه تذوق الرواية، والإقبال عليها. وصاحب هذا النهوض المتميز للرواية العربية نهوض مماثل لا يقل عنها تقدماً هو نهوض النقد العربي الروائي، وتشكلت مكتبة نقدية عربية تهتم بالرواية.
وتنوعت الاتجاهات الروائية خلال القرن العشرين من رومانتيكية واجتماعية ووطنية وواقعية وأسطورية وتاريخية، ولكن برز في أواخر القرن الماضي اتجاه وحيد لا يزال مستمراً إلى اليوم حتى طغى على التأليف الروائي، هو الاتجاه نحو التاريخ وتحويل الرواية إلى مسلسل تلفزيوني ولا سيما الرواية التاريخية، واهتمام بعض الروائيين بكتابة الرواية بقصد تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني بل انصراف بعضهم إلى الكتابة للتلفزيون مباشرة.
فما سرّ هذا الإقبال على الرواية التاريخية، في التأليف، وفي المسلسل التلفزيوني؟! بداية لا بد من تمييز اتجاهات مختلفة في كتابة الرواية التاريخية وفي المسلسل التلفزيوني التاريخي، ومن الممكن في هذا السياق ذكر الاتجاهات الآتية:
1-
الرواية التاريخية التي تحرص على سرد التاريخ والحفاظ على حقائقه بغية تقديم درس في التاريخ.
2-
الرواية التي تعالج الحاضر وقضاياه من خلال التاريخ، بشكل من أشكال إسقاط الحاضر على الماضي.
3-
الرواية التي تفسر التاريخ تفسيراً جديداً فتعيد بناءه وفق منظور جديد ورؤية جديدة.
4-
الرواية التي تحوّر كثيراً في وقائع التاريخ وتصطنع فيه شخصيات وحوادث وفق رؤى جديدة ولا يكون التاريخ بالنسبة إليها سوى أرضية تعمل فيها.
5-
الرواية التي تصطنع مناخاً تاريخياً لا يستند إلى وثائق أو حقائق أو معطيات تاريخية إنما يوحي بالتاريخ ويشير إليه من بعيد ويثير الإحساس به فقط، وهو ما يسمى مجازاً الفانتازيا التاريخية.
وبإمكان المرء أن يذكر أشكالاً أخرى من التعامل مع التاريخ، ولكن هذه هي أبرزها في الرواية العربية المعاصرة، وفي المسلسل التلفزيوني التاريخي وقد أصبحا صنوين. ومما لا شك فيه أن هذا الاتجاه نحو التاريخ قد لقي إقبالاً شديداً من المؤلفين والمخرجين والمنتجين، ومن جمهور القراء والمتلقين بصورة عامة. فما سرّ هذا الإقبال على التاريخ لدى المبدعين والمتلقين؟ ما الدافع إلى التاريخ؟ وما أسباب العودة إليه؟
من الممكن في هذا السياق ذكر الأسباب الآتية التي تنطبق على المبدعين والمتلقين معاً:
1-
يوفر التاريخ للمبدع مادة جاهزة تسهل عليه عملية التأليف ويستطيع إعادة تشكيلها وتكوينها وفق رؤيته وغرضه، وهذا أقل جهداً من إبداع حوادث وشخصيات وأماكن وأزمان جديدة.
2-
يمنح التاريخ العمل عبقاً خاصاً ويضفي عليه الجلال والأهمية والوقار ويساعد على منحه الأصالة والرسوخ.
3-
يمتلك التاريخ حوادث مفصلية فاعلة ومؤثرة كما يمتلك شخصيات متميزة قوية الحضور والتأثير وقادرة على تحريض المشاعر والأفكار.
4-
يمتلك التاريخ لدى الجمهور رصيداً معرفياً ووجدانياً وعاطفياً يسهل على المبدع خطابه للجمهور ويجعله سريع التأثير فيه والتواصل معه.
5-
يمتلك التاريخ في طبيعته حسّ الصراع بين القوى الفاعلة في التاريخ والمغيرة في مجراه مما يتفق وطبيعة الرواية القائمة على دينامية الفعل الإنساني.
6-
يتيح التاريخ للمؤلف حرية العمل فكرياً، إذ يقدّم له مادة يستطيع من خلالها إثارة قضايا الواقع، من غير حرج ولا خوف، إذ يظل متستراً بالغطاء التاريخي.
7-
يجد الجمهور متعة في استعراض الماضي لما له في النفس من جلال ووقار وعظمة.
8-
يجد الجمهور متعة في إحساسه بأن هناك أشياء يقولها المؤلف تمس الواقع ولكن بصورة غير مباشرة ويدرك أن في هذا قدراً غير قليل من الذكاء.
9-
يساعد التاريخ المؤلف على استخدام العربية الفصيحة في السرد والحوار، وهو يدرك أن استخدامه العربية الفصيحة يجعله أكثر قرباً من القراء، كما يدرك أن في استخدامه العربية الفصيحة ما يمنحه القوة والأصالة، ويحلّ بصورة واضحة ومباشرة مشكلة الحوار.
01-
يمنح التاريخ المؤلفين مادة لا تنضب، فالتاريخ العربي واسع الامتداد، غني بالحوادث، وهو قابل لإعادة التأويل والتفسير، ولإعادة الإنتاج والبناء والتركيب، ولتأليفه ما يشبهه أو يشير إليه.
ولكن يبقى سؤال، لماذا هذا الكم الهائل من الأعمال التاريخية في الرواية والمسلسل التلفزيوني؟ أهو فرار من الحاضر إلى الماضي؟ أم اعتزاز بالماضي وانتماء إليه وارتباط به؟ أهو جفاف في القريحة ونضوب في الخيال؟ أم هو ركون إلى الأسهل والأبسط ولو بصورة مبدئية؟ أهو هرب من الصدام مع الواقع أم هو حرية في التعامل مع الواقع من خلال التاريخ؟
لاشك في أن بعض الروايات تجيب عن هذا السؤال، وبعضها الآخر يجيب عن ذاك، ولا نريد في هذا السياق ذكر الأمثلة، ولكن يبقى ثمة ما هو أهم، وهو: إلى أين تسير الرواية التاريخية؟! ألن يشعر المبدع في يوم ما بأن التعامل مع التاريخ ليس كافياً، أياً كان شكل هذا التعامل؟! ألن يملّ المتلقي في يوم ما من ذلك الكم الهائل من الأعمال التاريخية: مسلسلات وروايات؟ ألم يفكر المبدع في اتجاه آخر؟ ألا يطالب المتلقي بنوع آخر من الرواية؟ لعلنا نسأل أنفسنا في هذا السياق: أين الرواية العاطفية؟ أين الرواية العلمية؟ أين رواية الخيال العلمي؟ أين الرواية المستقبلية؟ أين الرواية الأسطورية؟!
ما من شك في أن هناك روايات متناثرة تنتمي إلى هذا النوع أو ذاك، ولكن التيار السائد الآن هو تيار الرواية التاريخية. فإلى متى سيستمر هذا التيار؟ أهو محض تقليد واتباع من كاتب إلى كاتب؟ أم هو تيار حقيقي فعلاً؟ أهو استجابة لرغبة القارئ والمتلقي أم هو رغبة المبدع نفسه؟
ومن المرجو بعد ذلك ألا يظن أننا نقلل من شأن الرواية التاريخية، أو نحط من قيمتها الفكرية والفنية، أو أننا ندعو إلى إلغائها ، إن هذا كله ليس بالمقصود، إنما المقصود هو لفت النظر إلى هذه الظاهرة، والتنبيه عليها.
ولذلك يبقى السؤال: ما التيار الآخر الذي يمكن أن يأتي بعد الرواية التاريخية؟ متى سيتجاوز الإبداع الروائي العربي مرحلة الرواية التاريخية؟ ومتى سيتنبه المتلقي العربي قارئاً ومتفرجاً على المسلسلات، إلى أن هناك آفاقاً أخرى وأنواعاً أخرى غير الرواية التاريخية؟!