إذا ذُكر الإعلام الرسمي أو الحكومي أو إعلام الدولة أطلت الفضائيات (غير الرسمية) برأسها، ليس من باب التماثل وإنما من باب التقاطع والتنافر إلى حد كبير. فالمعروف أن للإعلام الرسمي تقاليده الراسخة وحدود مسؤولياته المؤطرة التي يفرضها المجتمع ويفرض عدم قابليتها للمساومة، بينما لا تخضع التلفزيونات الخاصة، المشغلة من أفراد أو شركات، لأي مقاييس إلا مقاييسها هي.
وبينما لا يجوز لوزير الإعلام في أية دولة أن يرسل كلاماً أو صورة خارج المألوف قبل أن يحصل على تفويض بذلك من المجتمع نفسه، يجوز لرئيس مجلس إدارة المحطة الخاصة أو مديرها أن يرسل ما يشاء بناءً على قرار يتخذه بالنظر إلى أمور ليس على رأسها تقاليد وأعراف المجتمع، بل على رأسها جذب المشاهد ومن ثم جذب المعلن الذي يبحث عن أكبر عدد من المشاهدين بغض النظر عما يشاهدون.
ولذلك فقد نجحت تقريباً جميع الفضائيات الخاصة، الخارجة عن السياق، في الاستمرار بالرغم من التوقعات التي أعطت بعضها عمراً لا يتجاوز السنة أو السنتين لتفاجئ الجميع أنها بلغت أكثر من ذلك وتجاوز عمر بعضها الآن السنوات العشر، بل إن بعضها أصبح حظه في البقاء أكبر من حظ بعض التلفزيونات الرسمية. ونحن عشنا تجربة بعض المحطات الحكومية التي أغلقت للتحسينات بينما نبت على أطرافها العديد من محطات التلفزة الفضائية القائمة على عنصر الإبهار المستند إلى نظرية كسب عين المشاهد بتعريضه لما لا يتوقع.
وإذا كانت بعض المحطات الحكومية قد عادت بعد الإغلاق بحال أفضل مما كانت عليه، إلاَّ أنها بقيت، من حيث إقبال المشاهد عليها، بعيدة بمسافات طويلة عن أقل الفضائيات إمكانية من حيث رأس المال المشغل للمحطة. والسبب هو أن المحطة التلفزيونية الرسمية بقيت مشدودة إلى بيروقراطية الإدارة التي جذبتها في السابق إلى الوراء ولم تطلقها في الحاضر التلفزيوني إلى درجة المنافسة مع التلفزيونات المستقلة، فما حدث في التلفزيونات الرسمية لمواجهة هجمة الفضائيات هو مجرد طلاء سطحي لبعض الوجوه والاستوديوهات، اعتقاداً من مديريها أنه سيكون بمقدورهم المنافسة إذا واجهوا الفضائيات بنفس سلاحها، وهو سلاح الإبهار الشكلي على حساب المضمون.
لكن غاب عن مديري المحطات الحكومية أن التلفزيون الفضائي، كما ذكرت من قبل، لا سقف له في الرسالة التلفزيونية سوى السقف الذي يرفعه أو يخفضه مستثمر أو مجموعة مستثمرين ليس على أجندتهم إلا حساب أرباح المحطة نهاية كل عام. ولذلك فهم يذهبون في التعامل مع عنصر الإبهار إلى أقصى مدى لا تقدر عليه المحطات الحكومية التي تحاول عبثاً جذب المشاهدين إليها وتأليبه على الفضائيات.
وما دامت التلفزيونات الرسمية غير قادرة شكلياً على ضم المشاهد لصفها، فإن ما يمكن أن يسعفها على هذه الطريق الصعبة هو أن تعترف بقصورها الإداري أولاً وتتخلص من بيروقراطيتها وعليها ثانياً أن تحترف في برامجها على أساس تقديم ونقل المضمون المتقن للرسالة، الذي يشد القارئ إلى شاشاتها. فمهما قيل عن سطحية المشاهد أو بحثه عن الرخيص من الرسائل الإعلامية يظل هذا المشاهد مستعداً لتقبل رسالة إعلامية متقنة يشعر بأنها صيغت من أجل مخاطبة عقله ومدركاته المحترمة.
وقد ثبت بالتجربة أن برامج سياسية على سبيل المثال حظيت بمشاهدة كبيرة من أقل التلفزيونات الحكومية إمكانية؛ لثقة المشاهد في إتقان مادتها وسلامة مقصدها، بينما لم تحظ برامج سياسية في فضائيات رائجة بنفس الدرجة من الإقبال. وهذا يدل على أن المشاهد ليس غائباً عن الوعي كما يحاول البعض أن يصوره تحت طائلة طول تعرضه لتفاهات بعض الفضائيات. المشاهد حساس جداً تجاه من يحترمه ومن يستغله. وهو، فيما يبدو لي، يتطور باستمرار في اتخاذ القرار الصحيح في طبيعة علاقته وعلاقة أسرته بالتلفزيون.
إن بقاء التلفزيون الرسمي، والإذاعة الرسمية أيضاً، مطلب ملح. ولذلك لست مع الذين ينادون باستمرار إلى إغلاق أبوابه وإرساله إلى متحف الإعلام، باعتبار أن التلفزيونات الخاصة قضت عليه. ما نطالب به فقط أن يضع التلفزيون الرسمي قدمه على المسار الإعلامي الصحيح الذي تفرضه متغيرات اليوم. ومن أهم مقومات هذا المسار تجنب قيود الإدارة البيروقراطية والإصرار على تقديم برامج تحترم قيم وعقل وحساسية المشاهد.