مهما تناقضت المواقف من جودة التعليم هنا أو هناك، ومهما تكاثرت المنجزات المتفرقة في هذا المجال، فإن التحولات التي يشهدها العالم في مجالات العلوم والحياة الاجتماعية وأسواق العمل هي من الضخامة بحيث إن إعداد الأجيال الناشئة لمواجهة هذا المستقبل ومتطلباته، ارتقى بقضية التعليم، وتحديداً بفلسفته، إلى الصف الأول من اهتمامات التربويين والحكومات وأرباب العمل على حد سواء، وتحتل جودة التعليم والتغييرات المطلوبة العناوين الرئيسة الأكثر إلحاحاً في هذه القضية.
هنا تجمع القافلة مساهمتين، الأولى من الدكتور أحمد عبدالمجيد، الذي يتناول مسألة «جودة التعليم» على المستوى النظري ومقاييسها، وما يميزها عن مفهوم الجودة في المجالات الأخرى. والمساهمة الثانية هي للأستاذ أسامة أمين الذي يعرض لملامح ما يجب أن يكون عليه التعليم إن أراد مواكبة المتغيرات في عالم يسير نحو مستقبل يختلف جداً عن اليوم، ويشترط تعليماً مختلفاً بدوره.
أنشودة الجودة
القضية المطروحة في التعليم في الآونة الأخيرة هي إعمال الجودة في جميع مراحل التعليم. وهذا اتجاه جيد يتفق مع الاتجاهات العالمية الحديثة وسيؤدي بالضرورة إلى تحسين مخرجات التعليم إذا طُبِّق قولاً وفعلاً.
فالجودة تُعدُّ منطلقاً حقيقياً لتحسين واقعنا التعليمي الأليم الذي نتعايش معه الآن، خصوصاً بعد إنشاء هيئات متخصصة للجودة والاعتماد وبداية تأهيل بعض الكليات، والمدارس للحصول على الاعتماد. ولكن السؤال المطروح: ما الجودة التي ننشدها؟ وما السبيل إلى تحقيقها؟ وهل ما نطبِّقه الآن من إجراءات يؤدي كله أو بعضه للجودة؟
لا يمكن الحكم على جودة التعليم من خلال التقارير الصادرة من الجهات أو المؤسسات التعليمية مهما كانت مصداقيتها ومهنيتها فى العمل فتداخل المصالح الذاتية والرغبة في الحضور الإعلامي يجعلان الجهات المسؤولة عن التعليم تحتفل بأقل الإنجازات، وتجعل منها حدثاً بارزاً وهي بعيدة كل البُعد عن التأثير في واقع الممارسة التعليمية. إن جودة التعليم يمكن أن تكون أكثر مصداقية إذا صدرت من مؤسسات مهنية مستقلة، وبإحصاءات وتقارير علمية مؤكدة وليست شهادات ودروعاً تُوزَّع وتصدر بقرار من أشخاص لهم مصالح معيَّنة.
وبالنظر إلى واقع تعليمنا الراهن، يتضح أنه توجد حالة من عدم الرضا لدى المتعلم، نتيجة عدم حصوله على تعليم جيد يحقِّق طموحاته ويلائم ميوله وقدراته ويؤهله في النهاية إلى وظيفة مناسبة في سوق العمل المليئة بالتحديات، كما لم يرضَ ولي الأمر؛ لأنه لا يجد تعليماً جيداً لأبنائه يؤدي بهم إلى فُرص جيدة في سوق العمل تتناسب مع خبراتهم وتخصصاتهم. أما سوق العمل المعولمة فلم تجد ما يلبِّي حاجاتها القائمة على منظومات مثل: السياحة، والتجارة، والصناعة، والأمن، والدفاع، والصحة.. إلخ؛ لذا لابدَّ من تأهيل المتخرجين في نظامنا التعليمي بشكل يؤدي بهم إلى العمل في هذه المنظومات التي تتطلب تفكيراً إبداعياً، وهو منتج ضعيف في نظم تعليمنا القائمة.
ويظل السؤال قائماً: لماذا لا يكون مستوى مؤسساتنا التعليمية بذلك المستوى الغربي المتألق، والقائمون عليها قد شربوا من نظمها وإدارتها وجودة أدائها؟ لماذا يبدو أن عطاء البعض منا – قليلاً كان أو كثيراً يضيع فى زحمة المحاضرات، والقاعات الدراسية؟ لماذا يشكو كثير من المؤسسات التعليمية من ضعف المتخرجين فيها، وعدم ملاءمتهم لسوق العمل من حيث: المهارة، واللغة، والقدرة على التعاطي مع لغة العمل المعاصرة؟ ولماذا يبدو مستوى الأبحاث العلمية التى ينجزها أعضاء هيئة التدريس أقل مما ينبغي أن تكون عليه، مقارنة بالمؤسسات التعليمية التى مارس فيها أعضاء هيئة التدريس البحث والتحصيل؟
إن أطراف الإجابة متعددة، لكن صاحب الكلمة العليا هو المستفيد من جودة المؤسسات التعليمية ونعني بهما: الطالب، وجهة التوظيف. ولو أغفلنا كل المسميات المعاصرة للجودة أو التطوير وغيرها وسلكنا طريقاً آخر لحصدنا طالباً متخرجاً تتسابق عليه جهات العمل وتثني على أدائه في العمل وحسن استيعابه لمفردات التطوير المستمر، وقدرته على تطوير نفسه وقدراته فى زمن يسير.
يروي أحد المسؤولين فى إحدى الدول العربية أن رئيس المؤسسة المانحة لشهادة الجودة (الأيزو) ذكر له أنه بوسعه أن يعطي مصنعاً للسيراميك شهادة الجودة في صناعة السيارات؛ لأنه ببساطة شديدة لا يقيِّم المصنوع نفسه، وإنما يقيِّم أساليب الصناعة والإدارة، تبعاً لمعايير ثابتة درست ووضعت وتم تبويبها سلفاً.
وهذه حقيقة ربما لايدري عنها رجال التعليم شيئاً، فقياس الجودة في التعليم لن يتوجه إلى المناهج ولا إلى مدى الإلمام بها، ولكنه سيتوجه إلى أشياء كثيرة. ويخشى أن تتكرر في قياس الجودة قصة الكاريكاتير البديع الذي قال فيه ضابط المرور للسائق الذي يحمل شحنات المخدرات: إنه غير معني بالمخدرات ولا بأن السيارة تسير دون لوحات معدنية، لكنه معنيّ بالحزام فقط!
اختلاف التعليم عن الصناعة
إن قياس جودة التعليم وفق معايير جودة صناعة معينة أمرٌ غير ممكن، لأن القطاعين مختلفان في الجوانب الأربعة الأساسية وهي الأهداف والمدخلات والعمليات والمخرجات.
ففي الأهداف نجد أن الربح يُعد مؤشراً شائع الاستخدام في القطاع الصناعي، ولكنها في مجال التعليم على درجة أعلى من التعقيد وتتضمن لائحة طويلة تشمل المعرفة (التي تُمكننا من الفهم) والمهارة (التي تمكننا من العمل)، والحكمة (التي تمكننا من اتخاذ القرارات) والمؤهل العلمي (الذي يُعرِّف عن كفاءاتنا).
وعلى صعيد المدخلات، لا يمكن للمؤسسات التعليمية أن تتحكم بنوعية المدخلات (الطلاب) مهما توسَّعت مقابلات القبول وشروطه. بخلاف المصانع القادرة تماماً على انتقاء ما تريده من مدخلات بمواصفات محددة بدقة.
أما على صعيد العمليات، فإن التعليم يختلف تماماً عن خطوط التجميع، فهو عملية تفاعلية بين المعلمين والطلاب لا يمكن ضبطها في مسار محدد ولا توقُّع نتيجتها مسبقاً.
وأخيراً، وفيما تكتفي المخرجات الصناعية بإرضاء الزبائن، فإن تعدد الزبائن في قطاع التعليم (وهم الطلاب والآباء والمعلمون وإدارة المؤسسة وسوق العمل) يُعقِّد السعي إلى وضع مقياس محدَّد لتقييم جودة المخرجات، خاصة وأنه من الممكن أن تتضارب مصالح هؤلاء الزبائن فيما بينهم.
بعد دورها الريادي في التربية
سقوط نظرية «المنحنى الاعتدالي»
كثيراً ما يحاول بعض التربويين وعلماء علم النفس التربوي أن يحاكموا نتائج امتحانات الطلاب في المدارس والجامعات وفق معايير نظرية التوزيع الاعتدالي، وبحسب هذه النظرية فإن القلة فقط هي التي تتفوق (ممتاز وجيد جداً) بنسبة (%16) تقريباً من مجموع الطلاب، وتظل الفئة الأكبر عدداً بنسبة (%68) تقريباً في مجال الدرجات العادية (جيد) والقلة الباقية (مقبول وراسب) بنسبة (%16) أيضاً.
ارتبطت هذه النظرية منذ بدايتها بفكرة أن الذكاء وراثي، وتبلورت خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقدَّم الأساس العلمي لها عالم بريطانى مشهور في مجال علم النفس الرياضي وهو السير سيرل بيرت (1893-1971م) الذي أكد من خلال أبحاثه على التوائم أن السمات الوراثية هي العوامل المؤثرة في تحديد ذكاء الطفل منذ الولادة. وقد تولى «بيرت» فى الأربعينيات من القرن العشرين الإشراف على نظام التعليم في بريطانيا، وقام بتطبيق نظرية المنحنى الاعتدالي فى مجال التعليم من خلال تصنيف التلاميذ حسب نتائج اختبارات الذكاء والاختبارات التحصيلية ابتداءً من سن الحادية عشرة، وجعل الفئة المتفوقة فقط فى نتائج هذه الاختبارات هي التي تحظى بالعناية ابتداءً من هذه السن المبكرة وتواصل تعليمها في المدارس الأكاديمية البريطانية. أما الغالبية العادية فكان يوجهها إلى التعليم الحرفي الأقل مستوى.
والتعليم وفق هذه النظرية هو بمثابة غربلة للتلاميذ، ويهدف إلى الكشف عن القلة الصالحة من التلاميذ في سن مبكرة وعزلها عن الغالبية العادية، ليتم صقل ذكائها الموروث بحكم البلاد. وكان لـ «بيرت» سطوة ونفوذ كبيرين، واستندت الأرستقراطية البريطانية إلى فتواه في صراعها ضد الحركة الليبرالية المتصاعدة في بريطانيا. ولم تتوقف سطوة «بيرت» وتسلطه باسم العلم على مقدرات التعليم في بريطانيا إلا حينما تصدى له وزير تربية وتعليم شجاع هو الذي أكد عكس «بيرت» في أن عملية تحسين التعليم وبيئة المتعلم تؤدي دوراً كبيراً في تنمية القدرات الإنسانية للطفل، ورفض فكرة أن الذكاء قدر وراثي يتحدد بالميلاد، وأنه موزع بين الناس على أساس إطار التوزيع الاعتدالي.
لقد أدت أسطورة المنحنى الاعتدالي والذكاء الوراثي دوراً تاريخياً رديئاً في مجال التربية، وأحدثت هذه الأسطورة التي تدثرت بالإحصاء والعلم عند «بيرت» وأتباعه تشويشاً علمياً هائلاً لم يرَ تاريخ الفكر التربوي مثيلاً له. الأمر الذي أحدث ثورة قوية مناهضة لـ «بيرت». فبعد وفاته بعام واحد اتهم في محاضرة مشهورة بالخداع، والتضليل العلمي. ففي عام 1967م اتهمته مجلتا «التايم» و«النيوزويك» في أعداد خاصة بذلك صراحة بالتزييف الإحصائي واستخدام بيانات وهمية. وفي عام 1979م صدر كتاب شهير بذلك أكد هذه الاتهامات مدعومة بالوثائق العلمية، وفي عام 1980م أصدرت جمعية علم النفس البريطانية بياناً رسمياً أدانت فيه «بيرت» وأتباعه وفعلت الجمعية النفسية الأمريكية الشيء نفسه عام 1992م حيث أقرت التزييف العلمي لـ«بيرت».
الجودة خارج الإطار
يقتنع معظم المعلمين بمبدأ المنحنى الاعتدالي في تقدير درجات الطلاب، حيث تصمم الاختبارات التحصيلية للكشف عن الاختلافات بين الطلاب، وحتى لو كانت ضئيلة من حيث المادة الدراسية، كما جرت العادة على توزيع درجات الطلاب وفقاً للمنحنى الاعتدالي، بحيث تكون هناك فئة حاصلة على تقدير ممتاز وفئة مساوية لها راسبة، وباقي الطلاب في وسط التوزيع وإذا انحرفت النتائج عن هذا التوزيع ينتاب المعلمون القلق.
إن دور المنحنى الاعتدالي لا يعدو أن يكون رصداً جامداً لقدرات الأفراد قبل أن يبدأ التعليم دوره لرفع قدرات الأطفال وعلاج القصور عندهم, والقبول بنتائج هذا المنحنى يشكِّل استسلاماً للتفرقة وتكريساً للدونية وتحجيماً لتطلعات الأطفال والشباب وطموحاتهم وبخاصة في عصر التطور التكنولوجي.
وهو في الوقت نفسه إلغاء لفكرة التعليم الذي يجب أن يعمل على تنمية الثروة البشرية والانتهاء بها إلى أقصى إمكاناتها. ومن الثابت علمياً أن (%90) من الأطفال على الأقل يستطيعون أن يصلوا إلى مرتبة الامتياز أي خارج إطار التوزيع الاعتدالي إذا ما أعطوا الوقت الكافي والتعليم المناسب لهم. فأساس التعليم هو النجاح، كما أن الفرد يولد ليعيش ومعنى هذا: أن كل فرد يتوقع النجاح والاستمرار في التقدُّم، وعلينا أن نساعده في تحقيق ذلك وهو هدف المؤسسات التعليمية.
إن العصر الحالي عصر المعلوماتية، والتنافسية، وصناعة المستقبل، وهو عصر يقوم على تدخل الإنسان وعلى كفاحه اليومي المتواصل من أجل تحقيق العدل الاجتماعي بين الأفراد، وتحصين التعليم واتخاذه أداة لصناعة التفوق بين الغالبية العظمى للمجتمع، إن لم يكن المجتمع كله، إضافة إلى تقوية الفئات المهمشة في المجتمع مثل: الطفل، والمرأة، وذوي الاحتياجات الخاصة. لقد انخرط الأفراد جماعياً بفضل تقدُّم تكنولوجيا الاتصالات وشبكات الإنترنت وهو ما أدى إلى تغييرات بنيوية لتحويل مجتمعاتهم من مجتمعات الصفوة الذكية إلى مجتمعات الجماهير المبدعة وتفعيل المجتمع المدني المندمج والمتكامل.
ويؤكد أحد فلاسفة الجودة الشاملة أنك إن طلبت من مدرب كرة قدم أن يكتفي بقلة متفوقة في فريقه وفقاً لنظرية المنحنى الاعتدالي لرفض رفضاً قاطعاً، حيث يجب أن يكون كل أعضاء الفريق من الأبطال. ومن ثم وبظهور التعليم الإلكتروني وأجيال الويب المختلفة أصبحت المؤسسات التعليمية تتسابق لحصول أفرادها على الامتياز للجميع أو غالبية أفرادها أي خارج إطار التوزيع الاعتدالي.
ما العمل؟
يؤكد «بلوم Bloom» على أنه يمكننا معرفة فشل جهودنا التعليمية كلما قرب توزيع التحصيل من التوزيع الطبيعي، لذا فإن التفوق في الجغرافيا أو الرياضيات قد لا يكون كافياً لتكوين قيادات ونخب المستقبل، بل إن القدرة على العمل خارج إطار التخصص وامتلاك المهارات الشاملة ستكون هي العوامل الحاسمة والمفيدة للمجتمع؛ ولذلك نجد عديداً من المتخرجين في كليات الهندسة، والكليات العملية في بريطانيا يتوجهون للعمل في القطاع المالي والمصرفي، حيث يتم اختيارهم لقدراتهم في التحليل واتخاذ القرارات السريعة. وهذا يتطلب من المسؤولين عن التعليم في شتى المراحل، نهجاً تعليمياً مغايراً لما هو قائم، لذا يجب الاهتمام بالتفكير والتخطيط لنظام تعليمي جامعي يعتمد على عوامل كثيرة أهمها الآتي:
– الاهتمام بالمنافسة بين الطلاب داخل الجامعة الواحدة، وبين الجامعات المختلفة للوصول إلى مبدأ التميز للجميع وليس على فئة معينة كما هو موضح في فئات المنحنى الاعتدالي السابق ذكرها.
– تنمية كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية في شتى التخصصات العلمية لتخدم المجتمع.
– تطوير المناهج وطرائق التدريس، بحيث تتناسب مع خصائص العصر، وما يتضمنه من تطورات علمية مذهلة.
– التعاون، والانفتاح الأكاديمي والعلمي بين الجامعات العربية، والجامعات الأجنبية.
– الإدارة اللامركزية للجامعات، والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها.
لذا يجب على المهتمين بالتعليم عامة، والتعليم الجامعي خاصة التفكير في مسألة العلاقة بين التعليم وسوق العمل وأن تكون هذه المسألة الأساسية للإصلاح والاستقلالية، وفي الوقت الذي يتم فيه التأكيد على الاستفادة من تجارب الآخرين، لا يجب استنساخ التجارب، وتفصيل أقسام على مقاسات جامعات أخرى أو مجتمعات أخرى، فلكل جامعة ومجتمع ظروفهما الخاصة بهما.
أي تعليم؟ لأي مستقبل؟
قبل الحديث عن التعليم، وكيف تستعد المدارس للمستقبل، لابد من محاولة استشفاف صورة المستقبل لدى الطلاب. فعلى الرغم مما يقوله البعض عن سطحية الشباب، وعدم اكتراثهم بالعالم الذي حولهم، وسلبيتهم في التعامل مع القضايا الحياتية، فالحقيقة أنهم لا ينتظرون أن يأتي لهم المستقبل بأجهزة جوال أكثر تطوراً فحسب، بل يشعرون بمخاوف من المستقبل، بعضها يمس حياة الفرد منهم، مثل الخوف من البطالة، وتراجع المستوى المعيشي، وعدم القدرة على امتلاك المسكن المناسب، والعجز عن السفر إلى الخارج لقضاء الإجازات. وبعضها يمس البشرية جمعاء، مثل الكوارث البيئية وما ينجم عنها، والتقلبات السياسية وهي أكثر من أن تُحصى وتتسارع وتيرتها أينما كان في العالم.
حتى على الصعيد الاجتماعي والثقافي والأخلاقي يشهد العالم تحولات جوهرية، وإلا كيف نفسِّر تراجع مكانة الأسرة؟ فقد اختفت تقريباً البيوت التي تعيش فيها أجيال متعددة، تضم الجدين والوالدين والأبناء، والأحفاد، وتأخر سن زواج المرأة في الغرب حتى الثلاثين أو أكثر، مما تسبب في تراجع أعداد المواليد، وأصبح وجود الأطفال بالنسبة إلى البعض نذير شؤم، ومرادفاً للقضاء على المستقبل الوظيفي، وانتشرت ظواهر جديدة، رجال يحصلون على إجازة رعاية الأطفال بدلاً من الأمهات، ونسب طلاق عالية جداً، وأطفال شوارع، وغير ذلك.
من يتساءل عن علاقة كل هذه القضايا بالتعليم، وعما إذا كانت مهمة المدرسة أن تعالج قضايا الكون، ينسى أن المسألة ببساطة أنه لا يوجد بديل عن المدرسة يتحمل مسؤولية بناء إنسان الغد، وأن التعليم أشمل بكثير من تلقين المعلومات، وأن مصير كل دولة مرتبط بصورة كبيرة، بمدى توافق تأهيل أطفالها وشبابها مع الأوضاع المستقبلية.
لغز (تطوير التعليم)
هناك مصطلحات يتكرر استخدامها في كل مناسبة، حتى فقدت بريقها، وكادت تتحوَّل إلى فقاعات هوائية، مثل الحديث عن «تطوير التعليم»، إذ ما جدوى تخصيص المليارات في ميزانيات الدول، ثم نجد الطالب يتخرج بنفس المستوى العلمي المتواضع، كما كان عليه الحال، قبل هذا التطوير؟ فيما تتواصل شكاوى الشركات والمصانع، من أن بعض حاملي الثانوية العامة لا يجيدون الرياضيات، ولا اللغات الأجنبية، بل يعاني بعضهم ضعف لغته الأم، علاوة على العجز عن الابتكار، وعدم القدرة على التوصل بنفسه إلى حلول للمشكلات، ويحتاج دوماً إلى من يفكر له. فهل يقتصر التطوير على إنشاء المدارس، وتزويدها بالتقنيات الحديثة، والحديث عن لامركزية التعليم، وزيادة مخصصات المعلمين؟
لعل البعض يذكر أن مسؤولي التعليم في كثير من الدول الأوروبية أصيبوا بصدمة عام 2000م، بعد أن ظهرت النتائج السلبية لطلابهم في الاختبارات الدولية لقياس مهارات التعليم (بيزا)، وتبين أنهم كانوا يعيشون في وهم كبير بتفوق التعليم في بلادهم، لأن هذه الاختبارات لم تركز على قياس المعلومات التي يحفظونها، ولا على محتوى المناهج الدراسية، بل على قدرة الطالب على الاستفادة من المعارف المدرسية، في اكتساب المهارات التي يحتاجها في حياته.
ورغم مرور أكثر من عشر سنوات على أول الاختبارات، فإن ترتيب هذه الدول لم يتغير كثيراً، ومازالت ألمانيا مثلاً بعيدة عن القمة، مرتضية أن تقبع في منتصف القائمة، والدول العربية القليلة المشاركة في الاختبارات، مازالت في الثلث الأخير من القائمة، والصراع على القمة مازال مستعراً بين النهج التعليمي الآسيوي الصارم، ممثلاً في كوريا الجنوبية وشنغهاي وهونج كونج الصينيتين، وبين النهج التعليمي الليبرالي الإبداعي ممثلاً في فنلندا.
يقول خبراء إن الخطأ الذي تقع فيه بعض الدول الراغبة في إصلاح تعليمها، أنها تسلك دروباً تقليدية، مثل شركة صيانة تقوم باستبدال زجاج النوافذ، وتضع أرضيات جديدة، وطلاءً جذاباً، وسوراً أنيقاً، في حين أن أساس المبنى وأعمدته كلها آيلة للسقوط. وينبه هؤلاء الخبراء إلى أن كثيراً من الأنظمة التعليمية الحالية، لا تحتاج إلى عمليات ترقيع، بل إلى سلوك دروب جديدة تماماً، والتوقف عن التركيز على القضايا الفرعية، مثل تدريس أطفال الصفوف الابتدائية الأولى على يد معلمة، تكون مثل الأم، أم على يد معلم، يكون قدوة لهم مثل الأب، والسماح بتدريس التربية الرياضية للبنات، أم منع المدارس التي تسمح بهذا الأمر.
طاقات معطلة
يرى بعض التربويين أن فشل كثير من استراتيجيات إصلاح التعليم يرجع إلى وضعها على يد مجموعة من الخبراء، خاصة إذا كانوا قادمين من الخارج، ثم تفرضها وزارات التربية والتعليم، دون طرحها للمناقشة، والاستفادة من آراء الأطراف الأخرى، من العاملين في قطاع التعليم، ومن أولياء الأمور، بل ومن الطلاب، علماً بأن الفئة الأخيرة، وهي الطلاب، لديها قدرات فائقة على التعرف على مواطن الخلل، بل والمساهمة الفعالة في التوصل إلى حلول جوهرية لمشكلات التعليم، وفي وضع الخطط لتعليم المستقبل.
لذلك يتولى البروفيسور أولاف أكسل بورو، أستاذ علوم التربية بجامعة كاسل الألمانية، إقامة «ورش المستقبل» في المدارس منذ أكثر من 25 عاماً، التي تجمع كافة الأطراف المعنية بالتعليم، ويقول إن طريقته تعتمد على ثلاث مراحل، الأولى: تشخيص المشكلات وتحديد الأوضاع السلبية، والثانية: وضع رؤية لكيفية الإصلاح والتطوير، والثالثة: اقتراح سبل تنفيذ هذه الرؤية.
قبل الاجتماع في (ورشة المستقبل)، يتولى المعلمون تشكيل مجموعات عمل من طلاب كل صف، ويتولى طالب في كل مجموعة إدارة دفة الحديث بين أفرادها، يبدؤون بحصر كل المشكلات التي يعانون منها، ثم يقومون بترتيبها حسب الأهمية، وبعدها يطلقون العنان لخيالهم حول كيفية علاج هذه المشكلات، ثم يقومون برسم المدرسة التي يتمنون إنشاءها، والتي غالباً ما تحتوي على صالة كبيرة لممارسة الرياضة، وفناء مدرسي فيه أشجار كثيرة، وتجهيزات لألعاب كثيرة مثل تنس الطاولة، وكرة السلة، وأماكن للهدوء والبعد عن الضجيج، وقاعات دراسة حديثة، بعيدة عن الشكل المربع أو الشكل المستطيل للغرفة، واستبداله بأشكال غير تقليدية.
المهم هنا أن يتعلَّم الطلاب التفكير بأنفسهم، واكتساب القدرة على تحليل المشكلة، والعمل الجماعي للتوصل إلى حلول، من خلال الحوار والنقاش الموضوعي، وكذلك التفكير في بدائل قابلة للتنفيذ، وهذه الخبرات هي مربط الفرس، في تأهيل الطلاب للمستقبل.
يشدِّد العالم الألماني بورو على أن مشكلة الكثيرين هي أنهم لا يرون في الحاضر، إلا استكمالاً للماضي ويتوقعون أن يكون المستقبل امتداداً للحاضر، مع أن هناك منهاجاً آخر، ينطلق من أن المستقبل، يتأثر بما نفعله في الحاضر، وما نقرره من استراتيجيات.
ماذا يفيد تعليم الأمس واليوم في الغد؟
إذا كنا صادقين مع أنفسنا، فلابد أن نعترف بأن كثيراً مما تعلمناه في مدارسنا قبل أربعين أو حتى خمسين عاماً، لا علاقة له بحياتنا اليوم، وأن المعلومات التي درسناها آنذاك، لم يعد لها أي وجود في عقولنا، وأنها لم تفدنا على الإطلاق، لا في العمل ولا في الحياة اليومية، فصاحب العمل اليوم ينتظر مواصفات علمية وشخصية، اكتسبناها من خلال الجهد الشخصي وتطوير الذات، مثل الانتظام في دورات كمبيوتر ولغات أجنبية، والاطلاع المستمر، والبحث عن الجديد في مجال العمل، والسفر والاحتكاك بالثقافات الأخرى.
لكن من الإنصاف أن نقول أيضاً إن هناك علامات مضيئة في مسيرتنا التعليمية، معلم أو معلمة، أستاذ جامعي أو أستاذة جامعية، تعلمنا منهم أشياء أهم من المعلومات والدروس العلمية، اجتهاد أحدهم في عمله، وصدقه وأمانته، جعله قدوة لنا في الالتزام الأخلاقي…
قبل فترة نشرت صحفية سعودية مرموقة مقالاً، ذكرت فيه أن معلمتها مزقت أول قصة كتبتها عندما كانت في الصف السادس الابتدائي. واتهمتها المعلمة بالغش أمام الصف كله، وقضت على طموحها لسنوات كثيرة. كلمات المقال تفيض حزناً وغضباً، على الرغم من مرور سنوات طوال، لكن الدرس الذي ربما تكون الصحفية قد تعلمته، هو أن إيماننا بأنفسنا، لا يجب أن يزعزعه أحد.
الدرس الجيد في المدرسة لا يعتمد على صحة المعلومات فقط، بل هو الدرس الذي يتعلم الطلاب منه أكثر من المعلومات. يتعلمون كيف يقف أحدهم أمام مجموعة، ويتحدث بثقة في النفس، بصوت مسموع، ونطق واضح، وينظر إليهم. ويتعلم الآخرون أن يستمعوا إليه باهتمام، وأن يناقشوه فيما قال، ليس بهدف التقليل من مكانته، وإظهار أخطائه، بل لتبادل الرأي. يتعلَّم الطلاب تنمية روح الانتماء إلى الجماعة، وأن كل فرد فيها، إثراء لها، يتعلمون أن يأخذوا بيد الطالب الجديد، وألا يسخروا من الطالب الذي يواجه صعوبة في النطق، أو يعاني من الإعاقة، ويتعلمون كيفية آلية اتخاذ القرارات، والانصياع لرأي الأغلبية.
إذا تعلم الطلاب في المدرسة كيفية الاستعداد للحريق، وقاموا بالتدريب على ذلك، فإن الدرس الكبير الذي يتعلمونه، هو أن الاستعداد للكوارث، يكون قبل حدوثها، وليس في وقتها، وهو درس مهم للمستقبل، إذا طبقه الطالب بعد تخرجه، كان مستعداً لكل الاحتمالات في عمله وفي حياته، ويعرف كيف يتصرف، لأنه تدرب على ذلك في مرحلة مبكِّرة من عمره.
ماذا نتعلَّم للمستقبل؟
نتعلَّم في المدارس أنه «ليس كل ما يلمع ذهباً»، وليست كل السوائل ماءً عذباً، فلا نجعل المظهر يخدعنا، ولا نمنح الثقة لشخص، لمجرد أن مظهره يوحي بذلك، حتى في وقت الأزمات، يجب أن تظل عقولنا تعمل وتفكر، ولا نسمع للآخرين، إذا كانت عقولنا ترشدنا إلى عكس ما يقولون.
مهما انتشرت المخاوف في العالم، ومهما حذَّر المنجمون من سنوات عجاف، فإن المدارس التي تؤهل طلابها للمستقبل، ينبغي أن تذكرهم بأن للكون رباً، خلق هذا العالم وحفظه في الماضي وفي الحاضر، وسيحفظه في المستقبل. دون أن يعني ذلك التواكل، بل على العكس تماماً، ينبغي أن يكون ذلك أكبر محفز لهم لإطلاق الطاقات للعمل من أجل غد أفضل، لأن المستقبل ليس عبارة عن تهديدات فقط، بل فيه كثير من الفرص لتحقيق المزيد من التطور والتقدم والرفاهية.
في المدارس علينا أن نفكِّر طويلاً فيما ندرسه، وأن نتعلَّم أن ملايين البشر تتمنى شربة ماء نظيف، من هذا الذي نهدره كل يوم في بيوتنا، وأن الطعام الذي في العالم يكفي 12 مليار نسمة، ومع أن عدد سكان الكرة الأرضية سبعة مليارات فقط، فإن الملايين يموتون جوعاً، بسبب غياب عدالة التوزيع. وعلى المدرسة أن تعلِّمنا أن انخفاض أسعار كثير من المنتجات، يعني قلة أجر العامل، الذي يصنعها، وأن السلبية واللامبالاة تجاه ما نشهده من ظلم، يُعدُّ مشاركة في الجرائم ضد البشرية.
أهم ما يتعلمه الطالب في المدرسة، هو ما يمكن أن نطلق عليه «نواة خبرة الحياة»، والمدرِّس الذي يحرم طلابه منها، ربما يكون معلماً، لكن ليس مربياً. أما من ينقلها لطلابه، فإنه يقدِّم لهم كنزاً، ينبغي عليهم أن يسعوا إلى زيادته، وتطويره باستمرار. فالتعليم لا يتوقف أبداً.
—————–
اقرأ عن التعليم
في المملكة.. شؤون وشجون واستشراف المستقبل
مع تنامي الاهتمام بالدراسات التربوية والتعليمية، بات بإمكان المهتم أن يجد في المكتبات عشرات الكتب في هذا المجال، وخاصة تلك التي تعالج القضايا التعليمية من زاوية نظرية فقط. ولكن حفنة محددة منها تتميز بكونها ميدانية تقرأ الواقع التعليمي بالحقائق والأرقام، ومنها اخترنا كتابين.
الكتاب الأول هو بعنوان «شؤون وشجون في قضايا التعليم الأهلي»، من تأليف الدكتور إبراهيم العقيل المتخصص في الفيزياء النووية، الذي تجاوزت اهتماماته تدريس الفيزياء لتتسع وتتعمق في عالم التربية والتعليم بشكل عام، وجمع في هذا الكتاب الذي صدر في طبعته الأولى عن دار المؤلف في الرياض عام 2007م، مقالات وأوراق وبحوث على قدر كبير من التنوع كان قد أعدها حول مختلف جوانب عالم التعليم في المملكة خلال أكثر من عقد من الزمن، وتشترك كلها في مقاربة قضايا التعليم في المملكة انطلاقاً من الواقع والتجربة والممارسة.
أما الكتاب الثاني فهو بعنوان «التعليم في المملكة العربية السعودية.. رؤية الحاضر واستشراف المستقبل»، ومن إعداد الأستاذ الدكتور محمد بن معجب الحامد، والأستاذ الدكتور مصطفى عبدالقادر زيادة، والدكتور بدر بن جويعد العتيبي، والدكتور نبيل عبدالخالق متولي.
يقع هذا الكتاب في 383 صفحة، وقد صدر عن مكتبة الرشد في الرياض عام 2007م، ويتضمن أحد عشر فصلاً مختلفاً، بدءاً بالتطور التاريخي لنظام التعليم في المملكة، وصولاً إلى استشراف مستقبل التعليم في المملكة، وما بينهما، وسياسة التعليم، والتعليم العام، والتعليم العالي، والتعليم الأهلي، والتعليم الفني والتدريب المهني، وإعداد المعلم وتدريبه، ومشكلات التعليم، والتجديدات التربوية.. وتحت كل من هذه العناوين عدد كبير من العناوين الفرعية التي تغطي بشكل وافٍ عالم التعليم في المملكة وقضاياه المطروحة على البحث.